في تجديد الثقافة

6 - حصل القوتلي على لقب المواطن العربي الأول من الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد تنازله عن الحكم لصالح الوحدة (مواقع التواصل).
الرئيس جمال عبد الناصر (مواقع التواصل).

عندما اشتدّت حربُ الإبادة الصهيونية، الأوروبية، الأميركية على غزةَ الباسلة؛ بقصد استئصال المقاومة الفلسطينية الحرّة واجتثاثها من جذورها، في الربع الأخير من العام 2023 م، كتبتُ تذكيرًا بقصيدة (فلسطين) للشاعر المهندس علي محمود طه 1901 – 1949م، وأشرتُ إلى الموسيقار محمّد عبدالوهاب 1902 – 1991م الذي هو مَن لحّنها ومَن غنّاها، واقتبستُ من مطلعها قوله:

" أخي جاوز الظالمون المدى  …..    فحق الجهادُ وحق الفدا

أنتركهم يغصبون العروبــ    …..   ـة مجد الأبوّة والسؤددا؟

وليسوا بغير صليل السيوف  …..    يجيبون صوتًا لنا أو صدى

فجرد حسامك من غمده    …..     فليس له بعدُ أن يُغمدا ".

وقد كتبها الشاعر ولحّنها وغنّاها الموسيقار، وتجاوب معها العرب حيثما عاش إنسان عربي في كل مكان من العالم، وذلك عام النكبة الأولى 1948 م. ثم في عام 1953م أمر الرئيس جمال عبدالناصر 1918 – 1970م بتأسيس إذاعة صوت العرب، وبدأت بثها في شكل برنامج إذاعي مكثف لا تزيد مدته عن ثلاثين دقيقة.

وقد أذاع برنامج صوت العرب الأغنية في حلقته الافتتاحية، مرفقةً بحوار مع الموسيقار محمد عبدالوهاب، بينما كان مؤلّف كلماتها الشاعر علي محمود طه قد مات قبل أربعة أعوام؛ أي بعد عام واحد من تاريخ كتابة القصيدة 1948م. ثمّ علّق مثقف صديق على ذلك الذي كتبتُ بأن قال: " لو كُتبت ولحُنت وغُنيت وسُمعت مثل هذه القصيدة في مثل أيامنا هذه، لتمّ اعتقال كل من شارك في كتابتها وتلحينها وغنائها وإذاعتها ونشرها وسماعها، ثم تقديمهم للمحاكمة باتهامات الترويج للإرهاب والتحريض عليه، ثم تصدر عليهم الأحكام بالسجن لسنوات طوال ".

ثقافة التطبيع

وقد عقّبت على تعقيب المثقف الصديق بأن كلامه صحيح، وأن ملاحظته في محلها تمامًا. فما عرَفته الأجيال المتوالية على أنه مقاومة شريفة، بات اليوم يُدرج تحت بنود الإرهاب. ثقافة المقاومة- التي تجذَّرت على مدى أكثر من قرنَين مع طلائع الغزو الاستعماري الأوروبي عند خاتمة القرن الثامنَ عشرَ، وفاتحة القرن التاسعَ عشرَ- تلاشت، بالتدريج، من القواميس الرسمية، وصارت لغة قديمة مهجورة، ليحل محلها – قسرًا وجبرًا – ثقافة التطبيع مع خلاصة الاستعمار الأوروبي، وخلاصته الختامية، وهي إسرائيل.

منذ غزوة نابليون لمصر والشام 1798م، إلى تأسيس إسرائيل 1948م، إلى حرب الإبادة الصهيونية على غزة 2023م، كانت الثقافة- وما زالت- هي حصن المقاومة الأول، قبل السلاح وبعد السلاح، مع فارق مهم: الثقافة ملك لنا، في ضمائرنا، في دخائل نفوسنا، في عمق تكويننا، في تلافيف ذوقنا وإحساسنا، في طبقات الروح الحضارية المتجذّرة في الزمان والمكان، لا نستوردها – مثل السلاح – من أعدائنا بشروطه ومقاديره وأسعاره، يتحكم العدوّ في سوق السلاح، لكنه لا يتحكم في ثقافتنا إلا عندما ننسلخ نحن من التزامنا الحضاري، وعندما تهتزّ ثقتنا في مقومات وجودنا.

استدراج

رجلان، أحدهما أمّي لا يقرأ ولا يكتب، محمد علي باشا 1805 – 1848م، وجمال عبدالناصر 1954 – 1970م، كلاهما كان على وعي أن معضلتنا الوجودية الأولى هي عدوانية الغرب وأطماعه وميوله للسيطرة علينا، كما كان الرجلان على إدراك كافٍ أن عدوانية الغرب يسندها ويزيد من خطورتها تفوّق الغرب، كما كانا على تصور سليم لحقيقة أن تفوق الغرب إنما هو ثقافي، وعقلي، وعلمي، وقيمي، وأخلاقي، قبل أن يكون تفوقًا ماديًا في السلاح، وقوة الجيوش. لكن إدراك الرجلَين – وحده – لم يكن كافيًا لحمايتهما من زحف الخطر الغربي .

فقد اجتمعت روسيا، وفرنسا، وبريطانيا – رغم كل ما بينها من عداوات – على كسر أساطيل الباشا في "نوارين البحرية" 1827م، ثم ذهبت تستدرجه لمصرعه الأخير، فاستدرجته بريطانيا لغزو الشام، وحاولت فرنسا استدراجه لغزو الجزائر، وقع في الاستدراج البريطاني، وأفلت من الاستدراج الفرنسي، وغزا الشام وامتلكه بالفعل، واستوى على عرش إمبراطورية وليدة من صنع يدَيه، ثم عاد الغرب كله، دون استثناء، واجتمعَ عليه، وكسرَه، وردَّه إلى ضفاف النيل 1841م، يقضي ما بقي له من عمره حتى مات 1849م .

نافذة على الغرب

هذا الرجل الأمّي عاش حياته يناور القوى الأوروبية- وبالذات بريطانيا وفرنسا- وهو على يقين صحيح بأنَّ هدف كل منها هو الاستحواذ على مقر حكمه. وفي العام المقبل 2025م يكون قد مرت مائتا عام على أولى البعثات العلمية التي أرسلها الباشا إلى أوروبا. فبعد عشرين عامًا من تجريبه السلطةَ، وممارسته الحكمَ، وخبرته بالواقَعين: الإسلامي والأوروبي، هدته فِطرته السليمة وغريزته السياسية الحادة إلى أنه يلزمه أن يبدأ من حيث انتهى الغرب، لا خيارَ آخر، لكنه لم يندمج في الغرب، ولم ينبهر، ولم يستسلم، ولم يفقد مناعته، ولم يقوض مقومات الثقافة المحلية، فقط فتح نافذة، يدخل منها بعضٌ من شعاع الحضارة الغربية الصاعدة.

أجّل الباشا – ما استطاع – وقوع مصر تحت الحكم المباشر للغرب، لكن ذلك الشعاع الذي دخل أو تسلل من حضارة الغرب كان بمثابة المقدمة، ثم التوطئة للنفوذ الغربي، النفوذ المدني، الهيمنة الاقتصادية، ثم الاحتلال العسكري، فيما لا يزيد كثيرًا عن عشرين عامًا عقب وفاته.

خلاصة الدرس: تستطيع أن تمتلك السلاح، تنتجه أو تستورده، كما تستطيع أن تؤسِّس الجيوش، وتستطيع أن تخطط للحروب، وتخوضها وتكسبها، وتؤسّس إمبراطورية في أقلَّ من عقدَين من الزمن، لكن بدون قاعدة ثقافية، فكرية، قيمية، ذاتية، متفوقة، متقدمة، وقوية، فلن تستطيع الاحتفاظ بكل ذلك، بل سوف تخسر كل ذلك.

هزيمة مشروع الباشا، كانت هزيمة ثقافية، جيوش الباشا انتصرت، لكن ثقافة الباشا انهزمت، أوروبا لم تكسب المعركة النهائية ضد الباشا بالجيوش – فيما عدا حرب نوارين – لكن كسبتها بما لديها من سبق وتفوق، واتزان أعصاب، وأنفاس طويلة، وحكمة متراكمة، ودهاء استعماريّ.

الباشا استورد بعضًا من الثقافة الحديثة من أوروبا، لكنه لم يتعهّد ثقافة جديدة داخل التراب المصري، الباشا – من المنظور الثقافي – كان آخر المماليك وأول الفراعنة الجدد، وقد قرأتُ هذا الوصف عند الدكتور جمال حمدان في كتاب: " شخصية مصر ". كانت ثقافة الباشا مزيجًا من المملوكية المتأخّرة، وهي منحطة بالطبع الغالب عليها، ثم من الفرعونية الجديدة، التي هو مؤسسها؛ فرعونية الدولة التسلطية التي استعارت من الغرب كل ما يزيد في قدرتها على القمع، والضبط، والربط، وإحكام السيطرة على الشعب.

رمزية خالدة

عندما تأسّست إسرائيل 1948 م، كان عبدالناصر في الثلاثين من العمر، بينما كان محمد علي باشا قد مات من مائة عام على وجه التقريب، ومثلما جاء الباشا كضابط في فرقة عثمانية؛ بقصد محاربة الفرنسيين وإجلائهم عن مصر، فقد شارك عبدالناصر كضابط مشاة في الحرب العربية – الصهيونية الأولى 1948م. حرب الباشا ضد الفرنسيين شكلت وعيه تجاه أوروبا. حرب عبدالناصر ضد الصهيونية شكلت وعيه ضد كامل التشكيلة الغربية: الاستعمار الأوروبي القديم، الاستعمار الأميركي الجديد، الصهيونية، ثم ما كان يسميه عبدالناصر؛ قوى الرجعية العربية، وكان يقصد بها قوى الاعتدال، سواء داخل مصر، أو العالم العربي.

وإذا كان الباشا – من منظور الثقافة السياسية – هو آخر المماليك وأول الفراعنة الجدد، فإن عبدالناصر – كما وُصف بحق في المرجع المذكور أعلاه – هو آخر الفراعنة العظام، وأول المماليك الجدد. السد العالي يكفي ليجعل منه فرعونَ عظيمًا، ولكن تكتيكاته السياسية سواء في الداخل أو الخارج تربطه بالتراث السياسي للماليك الأواخر.

وإذا كانت جيوش الباشا قد انتصرت، بينما انهزمت ثقافته، فإن العكس صحيح في حالة عبدالناصر، فقد انهزمت جيوشه، وانتصرت ثقافته. بقِي عبدالناصر – الذي لم ينتصر في حرب واحدة – رمزًا للمقاومة، بقي صاحب رمزية خالدة في الوجدان العربي، كما في ثقافة العالم الثالث، وكما في تراث حركات التحرر الوطني. خصومه يردّون ذلك إلى إعلامه وسطوته وتأثيره، لكن ذلك جزء محدود جدًا من الحقيقة، والحقيقة هي أن عبدالناصر – رغم أنه سحق سابقيه ومحق منافسيه- لكنه، في شخصه، كان تجسيدًا لكل ما في سابقيه ومنافسيه من فضائل وطنية.

عبدالناصر كان خلاصة وعصارة الوطنية المصرية في كل عهودها، ومثلما فعل الباشا حين عاش يناور الأوروبيين؛ حتى لا يكسروه، ثم في النهاية كسروه، فكذلك ناور عبدالناصر الإنجليز والأميركان؛ حتى تمكّن في أقلّ من عامين من السيطرة المطلقة على مقاليد الحكم في مصر دون أدنى منافس ولا منازع، ثم كشف لهما – أي الإنجليز والأميركان – عن وجه وطني ثوري أصيل. الفارق هنا بين الباشا وعبدالناصر أن الباشا استدرجوه ثم كسروه، بينما عبدالناصر كان يصنع لنفسه الكمائن ويرتب لنفسه الأفخاخ، دخل كمين اليمن بإرادته، وذهب لفخّ النكسة بكامل قواه العقلية.

وجه الشبه بين الرجلَين- غير انكسار المشروعين- هو ثقافة الاستقلال، وهذا يفسر سرّ حضورهما الحي، وربما الصاخب حتى هذه اللحظة.

وثقافة الاستقلال هنا تعني وجهة التاريخ، فأي وجهة نختار، وأي طريق نسلك، وأي ثمن ندفع، وأي حرب نخوض، وأي هُوية نكون؟

هذا هو مقال الخميس المقبل بمشيئة الله .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.