التعليم الفنلندي.. نموذج متطور قابل للاستنساخ

لا توجد مدارس خاصة في فنلندا بالعدد الهائل الذي نراه هنا وهناك في عالمنا العربي (الجزيرة)

لفت انتباهي تصريح لأحد معلمي الرياضيات في دولة إسكندنافية، حول برنامج دولي لتقييم طلبة المدارس، يقول: "نحضّر طلابنا ليتعلموا كيف يحصلون على المعلومات، ولا نعلمهم كيف يجتازون الاختبارات. لذا لسنا مهتمين جدًّا بالبرنامج الدولي لتقييم الطلبة. فهو لا يأخذ بالحسبان ما نفعله لتهيئة الطلاب".

يعلّمون طلابهم كيف يحصلون على المعلومات، لا كيف يجتازون الاختبارات. هذه فلسفة التعليم بكل وضوح في جمهورية فنلندا ذات الـ5 ملايين نسمة والواقعة أقصى شمال أوروبا، التي وضعت التعليم على قائمة أهم استثماراتها.

هذه بكل اختصار هي فلسفة تعليم هذه الدولة، وبالتالي لا عجب إن رأيت طلاب مدارسها في التقييمات العالمية متفوقين، ليس لأنه يتم تحضيرهم مسبقًا لتلك التقييمات، بل لأن طريقة جذبهم وتشويقهم للعلم والتعلم في مدارسهم، تجعلهم يتفوقون تلقائيًّا دونما حاجة للتكلف والتصنع وخلق أجواء من التوتر والقلق وغيرها من مشاعر مصاحبة لمسألة الاختبارات والتقييمات.

لا تجد المدارس بأسوار عالية بل بعضها دون أسوار، ما يجعل الطلاب يتلقون تعليمهم بأريحية وفي أجواء لا تختلف كثيرًا عن أجواء منازلهم، ولا شعور بالاغتراب وهم في مدارسهم يجعلهم ينتظرون بفارغ الصبر الانتهاء

أظهرت نتائج البرنامج الدولي (PISA) لتقييم الطلبة في مسألتي إتقان الطلبة للقراءة ومهارات الرياضيات والعلوم، أن الطلاب الفنلنديين يأتون دومًا ضمن أفضل 10 قراء كتب في العالم، بالإضافة إلى تحقيقهم نتائج بارزة في العلوم والرياضيات والمراكز العشرة الأولى ضمن 57 دولة تشارك في تلك التقييمات الدورية. هذا أمر يدعونا للتعرف على الخلطة الفنلندية في التعليم، وسر نجاحها وتفوقها على كثيرين.

المساواة سر النجاح

بنظرة سريعة لما عليه التعليم الفنلندي، الذي أثار انتباه العالم خلال العشرين سنة الماضية، نجد أنه، بالإضافة لمفهوم التعلم وفلسفته، هناك تأكيد وحرص رسمي على أن يكون التعليم نوعيًّا لا كميًّا، ويُقدَّم للجميع على قدم المساواة. فلا يهم وضع الطالب الاجتماعي أو المعيشي. الطالب الفقير يحصل ذات التعليم النوعي الجيد الذي يحصل عليه الطالب الغني، بل وصل الأمر لأن يعامل الطالب الأجنبي، بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه، نفس معاملة الطالب الفنلندي المواطن.

بسبب تلك المساواة لا تجد مثلاً مدارس خاصة في فنلندا بالعدد الهائل الذي نراه هنا وهناك في عالمنا العربي. وبسبب تلك المساواة في تقديم التعليم النوعي والإمكانيات والوسائل، جعلت المدارس كلها تتشابه في مستوياتها، فلا تحتاج الأسر مثلاً إلى استقدام مدرسين خصوصيين لأبنائهم، ولا تحتار في مسألة اختيار المدرسة.

إذ ليس هناك ما يستدعي تسجيل طالب في مدرسة بعيدة عن بيته، ما يجعل غالبية الطلاب تنتقل لمدارسها سيرًا على الأقدام، ما يعني هذا تخفيف زحمة السيارات بالشوارع، بالإضافة إلى ترسيخ قيمة مهمة في نفوس الطلاب متمثلة في اعتبار المدرسة جزءًا من الحي السكني.

كما لا تجد المدارس بأسوار عالية بل بعضها دون أسوار، ما يجعل الطلاب يتلقون تعليمهم بأريحية وفي أجواء لا تختلف كثيرًا عن أجواء منازلهم، ولا شعور بالاغتراب وهم في مدارسهم يجعلهم ينتظرون بفارغ الصبر، الحصة الأخيرة وساعة الانفكاك والعودة للبيوت، كما هو حاصل في كثير من مدارسنا. هكذا لمست الأجواء بنفسي في زيارة خاصة قبل سنوات، لعدد من المدارس في هلسنكي.

الطالب هو أساس العملية التعليمية

حين نقول إن الطالب هو أساس العملية التعليمية، فلأنه كذلك قولاً وفعلاً. فهو يبدأ التعليم الأساسي من سن السابعة، ليقين الفنلنديين أن الطالب من حقه أن يعيش طفولته خلال سنواته الست الأولى، بل لا يجب الزج به في التعليم مبكرًا، لإيمانهم أن تلك السنوات الأولى، إنما للعب والتعرف على الآخرين والبيئة المحيطة والإجابة عن تساؤلاته وغير ذلك من أمور يحتاجها.

ويرون تبعًا لذلك أنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، فالأطفال يتعلمون بشكل أفضل عندما يصبحون مهيئين لذلك، فلماذا نثير قلقهم وتوترهم منذ سن مبكرة؟ هكذا هي قناعاتهم، وفي الوقت نفسه، سؤال في غاية الوجاهة.

هكذا فهمهم للمسألة دون تكلّف. حتى إذا ما بدأ الطالب في التعليم الأساسي لـ9 سنوات متصلة عبر نظام المدارس الشاملة، البالغ عددها قرابة 3 آلاف مدرسة وتستوعب نصف مليون طالب، أخذ يعيش أجواء التعلم الحقيقية والاستمتاع بها، عبر تعلم كيفية الحصول على المعلومة من أجل التعلم، لا لأجل الاختبار.

يعيش الطالب على الأقل 6 سنوات مع معلم واحد يقوم عادة بتدريس غالبية المواد لطلابه، ليتحول هذا المعلم إلى أب ثان للطالب، يعرفه ربما أكثر من والده الحقيقي. هذا أمر يجعل الطالب ذاته يعيش مستقرًا نفسيًّا، يفهم شخصية المعلم والمعلم بالمقابل يفهم شخصيته، فلا يحتاج أن يتعامل مع 6 مدرسين كل يوم لعام دراسي كامل، والذين قد يتغيرون العام المقبل، ثم يجد نفسه في رحلة سنوية ينتقل فيها من يد إلى يد.

الطالب الفنلندي يتعلم ضمن مجموعات في الفصل، بقيادة معلم يتعامل مع طلابه الذين لا يتجاوزون العشرين، ودون أي تمييز بينهم، لا في الدين ولا العرق ولا المستوى الاجتماعي أو الأكاديمي. يتعامل معهم سواسية، يفهم طلابه تدريجيًّا بمرور الوقت، ويتعرف على قدراتهم في القراءة والكتابة والحساب والتفكير والتعامل وغيرها من مهارات وصفات. يعزز الجيدة منها، ويصحح السلبي أو التي بحاجة للتعديل والتقويم. ثم يتجه نصف طلاب المدراس الشاملة إلى التعليم الفني والنصف الآخر يكمل الثانوية لعامين، ثم الإعداد في السنة الثالثة لاختبارات شهادة الثانوية العامة والقبول بالجامعات.

طلاب التعليم الأساسي يبدؤون يومهم في الثامنة والنصف صباحًا، يحصلون على 20 حصة دراسية في الأسبوع، بمعدل 45 دقيقة للحصة الواحدة. أي 5 ساعات بالمدرسة، من ضمنها ساعة الغداء، حيث تكون كل مدرسة ملزمة بتقديم وجبة غداء ساخنة لطلابها، في حين يقضي طلاب الثانوية 6 ساعات بالمدرسة.

المعلم ونظام الدمج

الثورة المعلوماتية والتقنية، جعلت نظرة الفنلنديين للتعلم تختلف، بعدما أدرك العالم كله أهمية توظيف التقنية في التعليم والتعلم خلال عامي الكورونا -إن صح التعبير- فصار الهدف والمقصد الأساسي من قضاء الطلاب ساعات وأيامًا وسنوات بالمدارس في فنلندا، هو كيفية الوصول إلى المعلومة وتحليلها وتعلم كيفيات الاستفادة منها في الحياة بشكل عام، ضمن علوم أخرى مدمجة.

المعلم في النظام التعليمي الفنلندي بشكل عام، له مطلق الحرية في اختيار الطريقة أو الأسلوب الذي يراه في تعليم طلابه بحسب احتياجاتهم. والأهم من كل ذلك، أن للمعلم مكانته وتقديره في النظام والمجتمع بشكل عام؛ إذ إنهم يحملون الماجستير في التعليم، مع التركيز على المهارات التربوية

وبسبب ثورتي التقنية والمعلومات، صار النظام التعليمي الفنلندي يسعى لبناء شخصية مستقلة للطالب تساعده على التعليم الذاتي بدلاً من الاعتماد على المدرسة في ذلك الأمر، ما جعل المناهج التعليمية خالية من الحشو وكثافة المحتوى، وإنما تقدم زبدة العلوم التي تساعد في بناء قدرات الطلاب على فهم واستنباط المعلومات وتحليلها. ولعل ما يشجع الطلاب على اكتساب المعرفة بدلاً من حشو المعلومات في الأذهان حشوًا، هو قلة الاختبارات. وهذه نقطة جوهرية في الفلسفة التعليمية الفنلندية.

تجد الآن في النظام المدرسي الفنلندي ما يُعرف بنظام الدمج بين المواد، ويتضمن مثلاً إلغاء تدريس مواد الفيزياء والرياضيات والأدب والتاريخ والجغرافيا، كلًّا على حدة. وهي في الحقيقة، جرأة نادرة في التفكير بشأن ما هو أفضل في مجال التعليم، وبما يتناسب مع تطور العالم من حولنا.

كان المسؤولون الفنلنديون يرون أن هناك مدارس لا تزال تعلم تلاميذها بالطرق القديمة، التي كانت تعتبر جيدة في بداية التسعينيات، لكنها لم تعد تساير المتطلبات الحديثة، وبدلاً من تدريس كل مادة على حدة، بدأ تنفيذ نظام الدمج، بحيث يتم تدريس التلاميذ الظواهر والأحداث بشكل الجمع والتكامل بين المواد.

حيث سيتم على سبيل المثال، دراسة الحرب العالمية الثانية من منظور التاريخ والجغرافيا والرياضيات، أو يحصل التلاميذ أثناء دراسة منهج العمل في مقهى أو مطعم أو متجر، على معرفة شاملة باللغة الإنجليزية وأسس الاقتصاد ومهارات الاتصال، وهكذا.. ويجب على التلميذ في هذا النظام، أن يختار بنفسه أي موضوع أو ظاهرة لدراستها ضمن عمل مشترك في مجموعات صغيرة، انطلاقًا من الحاجة لها في حياتهم المستقبلية. وهذا النظام معمول به في المرحلة الثانوية بشكل واضح، بعد تدريب المعلمين على هذا النوع من التعليم التكاملي.

المعلم في النظام التعليمي الفنلندي بشكل عام، له مطلق الحرية في اختيار الطريقة أو الأسلوب الذي يراه في تعليم طلابه بحسب احتياجاتهم. والأهم من كل ذلك، أن للمعلم مكانته وتقديره في النظام والمجتمع بشكل عام؛ إذ إنهم يحملون الماجستير في التعليم، مع التركيز على المهارات التربوية، وخاصة معلمي التعليم الأساسي، الذين عليهم اجتياز اختبارات عدة للحصول على إجازة بالتدريس، لأجل ضمان وجود حب حقيقي للمهنة، وشغف كبير واضح بها قبل تسليمهم أمانة تعليم الطلاب. ومن هنا نفهم لماذا لا يدخل كلية التربية في فنلندا إلا النوابغ من مخرجات الثانوية، وأصحاب أعلى المعدلات.

لب الموضوع

الحديث عن التعليم في فنلندا يطول ويطول، لكن المقصد في النهاية من حديثنا هو أن الفلسفة القائمة عليها نظام التعليم الفنلندي (تعليم الطلاب كيف يحصلون على المعلومات، لا كيف يجتازون الاختبارات) فلسفة غائبة في معظم عالمنا العربي المعتمد على الكَم لا الكيف، واستمرار نظام الحشو والحفظ والاستظهار، حتى في علوم لا حاجة للحفظ والاستظهار فيها. وهذا النظام بشكله المتطور، يمكن القول إنه قابل للاستنساخ مع بعض التكييف والتعديل، ليتواءم مع طبيعة وثقافة كل بلد عربي راغب في تطوير نظامه التعليمي.

إن رغبة أي مجتمع في الارتقاء ومواجهة تحديات العصر المتنوعة والمعقدة، تتطلب منه عملاً جادًّا مستمرًا لأجل اكتشاف أو صناعة حلول لتلكم التحديات، ولعل أبرزها ذلك التدفق الهائل لأنهار من المعلومات عبر تقنيات متطورة سريعة، صارت تمثل تحديًا حقيقيًّا تواجه أي تعليم تقليدي.

ومهما كان نظام التعليم في أي مجتمع قويًّا متماسكًا، فإنه بحاجة إلى تطوير وتجديد مستمرين، كي يحافظ على تماسكه ونجاحه. وكلما ارتقى المجتمع بنظامه التعليمي المتناسق والمتوافق مع دينه وثقافته وتاريخه، ومرونته في التعامل مع تحديات العصر، زادت، بالضرورة، قدراته وإمكانياته على مواجهة تلكم التحديات المتنوعة المتسارعة.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان