الاستبداد الوطني المقدّس!

خرج المصريون في 25 يناير للمطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية "غيتي"

يُحكى أنّ امرأةً عربيةً عجوزًا في النصف الأول من القرن العشرين، عاشت حياتها في ضنك مادي، وكانت تسأل المتعلمين في القرية: متى ينتهي هذا الضنك؟، فكانوا يجيبونها: عندما يغادر الاحتلال ويأتي الاستقلال.

ثم جاء الاستقلال، وأُقيمت الأفراح، وابتهج الناس، واستبشروا خيرًا كثيرًا، لكن الذي حدث هو استمرار الضنك ودوام ما تعانيه العجوز والبلاد من بؤس، فبدل أن كانت تتساءل: متى يأتي الاستقلال، أصبح سؤالها هو متى ينتهي الاستقلال؟

لم تدرك العجوز أن الاستعمار ترك وراءه أمرَين: تحدياتٍ أكبرَ من إمكانات الشعوب، ثم نخبًا عجزت عن بناء الإمكانات بما يكفي للتغلب على التحديات.

تطوير فكرة الاستعمار

هذه النخب التي أعقبت الاستعمار ورثت طغيان الاستعمار، ثم زادت فيه وقطعت فيه أشواطًا بعيدة، كان يتورّع عنها الاستعمار، ثم أنَّ هذه النخب – بحداثة نشأتها – لم تملك دهاء الاستعمار في الحكم والسياسة والإدارة. وعندما يحكم الطغيان بغير دهاء وذكاء يكون النتاج أمرَين اثنَين: أولهما مزيد من القهر، وثانيهما مزيد من الفقر.

منذ سبقت فرنسا غيرها من القوى الأوروبية وافتتحت موجة الاستعمار الأوروبي الحديث بغزوة نابليون بونابرت على مصر والشام، وحتى تتويج هذه الموجة بتأسيس إسرائيل على أرض فلسطين عند منتصف القرن العشرين، منذ هذين التاريخين، وشعوب هذه المنطقة تكافح على ثلاث جبهات: التحرر من الاستعمار، والتحرر من الاستبداد، والتحرر من الاستغلال؛ أي الاستقلال، والحرية، والعدل الاجتماعي.

كل الإنجاز الذي تم هو أنّ الاستعمار الأوروبي انتهى، لكن حلّت محله الهيمنة الأميركيّة – الأوروبية. غادرت قوات الاحتلال، وتوقّف الحكم المباشر أو غير المباشر الذي يمارسه المحتل، لكن استمرت علاقات الهيمنة والسيطرة، سواء بفعل التفوق الموضوعي للغرب، أو بسبب احتياج الدول المستقلة حديثًا إلى معونة الغرب، بدءًا من الغذاء حتى السلاح، أو بسبب أن بعض النخب التي حلت محل الغرب كانت لديها الميول للتصالح مع الغرب أو التعاون معه، ومن شذّ عن هذه القاعدة انكسرت محاولته، ثم انكسر، ثم خلفَه على الحكم مَن قبِلَ الاندماجَ في وعاء الهيمنة الغربية المتجددة.

استطاعت الهيمنة الأميركية الأوروبية – دون احتلال مباشر – أن تطور فكرة الاستعمار دون استفزاز كرامة الشعوب أو المساس باستقلالها الوليد، تمّ تطويق دول المنطقة – دون إكراه مادي – باتفاقات عسكرية وأمنية واقتصادية ومعلوماتية، حلّت بجدارة وكفاءة محل الاستعمار القديم، وأغنت عنه.

باتت الهيمنة عادةً مألوفة تعيش ويعيش تحتها الناس دون استفزاز، ووفر هذا غطاءً للطرفَين المستفيدَين: الطرف الأول؛ هو الغرب سواء حكومات أو شركات، ثم الطرف الثاني؛ هم الحكام ومن حولهم من طبقات وفئات مستفيدة- اقتصاديًا وسياسيًا- من تبادل المنافع بين قوى الهيمنة الخارجية وقوى الاستغلال الداخلي.

تهميش الشعب

قوى الهيمنة الخارجية، وقوى الاستغلال الداخلي انتبه إليها الدستور المصري الأول بعد ثورة 23 يوليو 1952م، وبعد اتفاق الجلاء بين مصر والمحتل البريطاني 19 أكتوبر 1954م، وبعد تحقق الجلاء ذاته ورحيل آخر جندي بريطاني 13 يونيو 1956م، وقد خرج هذا الدستور إلى النور في 16 يناير 1956م، بعد فترة انتقالية استمرت ثلاث سنوات، وقد تم الاستفتاء الشعبي عليه في 23 يونيو 1956م.

ورد في ديباجة الدستور: " نحن الشعب المصري، الذي انتزع حقه في الحرية والحياة، بعد معركة متصلة ضد السيطرة المعتدية من الخارج، والسيطرة المستغلِّة من الداخل.

نحن الشعب الذي تولى أمره بنفسه، وأمسك زمام شأنه بيده، غداة النصر العظيم الذي حققه بثورة 23 يوليو 1952م، وتوّج به كفاحه على مدى التاريخ.

نحن الشعب المصري، الذي استلهم العظة من ماضيه، واستمد العزم من حاضره، ورسم معالم الطريق إلى مستقبل: متحرر من الخوف، متحرر من الحاجة، متحرر من الذل، يبني بعمله الإيجابي مجتمعًا تسوده الرفاهية، ويتم له في ظلاله: القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

نحن الشعب المصري، الذي يؤمن بأن: لكل فرد حقًا في يومه، ولكل فرد حقًا في غدِه، ولكل فرد حقًا في عقيدته، ولكل فرد حقًا في فكرته، حقوقًا لا سلطان عليها أبدًا لغير العقل والضمير.

نحن الشعب المصري، الذي يقدس الكرامة والعدالة والمساواة، باعتبارها جذورًا أصيلة للحرية والسلام ".

هذه النصوص كانت معبِّرة عن مطالب المصريين قبل سبعة عقود أو أكثر من الاحتلال، وهي – اليوم – صالحة للتعبير عن مطالب المصريين بعد سبعة عقود على الاستقلال.

الفرق هو أنّ المصريين كان في إمكانهم انتقاد الاحتلال وانتقاد الاستبداد، وانتقاد الاستغلال بصورة أكبر وأقوى من قدرتهم على الانتقاد في عهود الاستقلال، تم تقليص إمكانات المواطنين وحقوقهم وهوامش حركتهم إزاء السلطة الوطنية التي خلَفت وأعقبت الاحتلال.

فلو أُعيدت كتابة هذه النصوص في ديباجة دستور جديد يُكتَب عام 2056 م؛ أي بعد مرور مائة عام من الدستور الأول 1956م، فسوف تكون تعبيرًا عن مطامح شعب، استمرّت معاناته تحت الاستقلال، في أشكال مختلفة، وتحت مبررات وذرائع وطنية، فلم يتحرر بعد سبعة عقود من الاستقلال، لم يتحرر من الخوف، لم يتحرر من الحاجة، لم يتحرر من الذل، كل ما تم هو إحلال سيطرة محل سيطرة، وتطوير أشكال الاستغلال مع بقاء مضامينه قائمة.

مصيدة الدولة

مازالت الفجوة قائمة ومتسعة بين دساتيرَ مُفعمةٍ بروح الحريات والحقوق والواجبات، وبين واقع مرير، القائم منه شر مما مضى، والقادم منه شر منهما معًا.

قانون عكسي يحكم تطور الحريات والحقوق والواجبات، فكلما مرّ الزمن تدهورت الأوضاع إلى الخلف بدل أن تتقدم إلى الأمام. وهكذا فكل مرحلة جديدة أسوأ من السالفة عليها.

من أول دستور بعد ثورة 1919 في 1923م، ثم أول دستور بعد ثورة 23 يوليو 1952م، إلى آخر دستور 2014م ثم تعديلاته في 2019م، في مائة عام من الحياة الدستورية 1923 – 2023م، حظي المصريون بنصوص دستورية رائعة جرى اقتباسُها من خير دساتير الأرض.

لكن هذا التطور النظري الدستوري لم يرافقه تطور مماثل في الواقع؛ أي في علاقة السلطة بالشعب، فما زال الشعب – كما قال سعد زغلول في أول خطاب لحكومته في يناير 1942م – ينظر لحكّامه نظر الصيد للصائد لا نظر الجندي للقائد.

ما زالت الدولةُ – في نظر المواطن – كمينًا ومصيدة وفخًا وسجنًا، عليه أن يتفادى الوقوع فيه، هي ليست سياج أمان ولا موضع اطمئنان، هي مورد شك وخوف وريبة.

المائةُ عام الدستورية 1923 – 2023م: ثلاثون منها تحت الاحتلال والملوك من سلالة محمد علي باشا (فؤاد ثم فاروق)، وسبعون منها تحت الاستقلال والرؤساء في ظل النظام الجمهوري.

الفارق بين الفترتَين: أن الفترة الأولى، ببركة ثورة 1919م استحضرت همّة الشعب وروح الشعب. أما الفترة الثانية، بالطابع العسكري لثورة 23 يوليو، فقد استبعدت الشعب.

حضور الشعب – كمجتمع ناخبين – استمر في الأولى؛ لأنها قامت على الديمقراطية البرلمانية، حيث الانتخابات الدورية بين الأحزاب.

حضور الشعب – كقوة سياسية – في الثانية تلاشى حتى اختفى؛ لأنها قامت على نظام رئاسي لا يجري فيه انتخاب الرئيس بالتنافس بين أكثر من مرشح، لكن بالاستفتاء على مرشح واحد فقط.

هذا المرشح الواحد – من موقعه كرئيس – يختار أعضاء البرلمان، ثم أعضاء البرلمان يرشحونه، وهنا لا معنى لمشاركة الشعب غير استيفاء الشكل في أشد تجلياته سطحيةً وقِشريةً تبلغ حد تفاهة الشأن.

ثم تطور نظام المرشح الواحد، إلى نظام يختار فيه المرشح عدة مرشحين شكليين إلى جواره، هم ليسوا مرشحين بالأصالة عن أنفسهم، لكنهم مرشحون شكليون، يختارهم المرشح الواحد الأوحد، ويضع لهم حدودَ ما يقولون ويفعلون، ومَن يخرجُ منهم عن المرسوم له يجري عقابُه.

خلاصة الفرق بين الفترتَين: أن الفترة الأولى 1923 – 1953م زادت من قدرات المواطن على ممارسة حقّ اختيار مَن يحكمونه. بينما الفترة الثانية 1953 – 2023م زادت من قدرات الحكام على اختيار أنفسهم بأنفسهم، بإملاء إرادتهم على المؤسسات التي صنعوها بأنفسهم، ثم المؤسسات تتولى تَسْتِيفَ الباقي سواء حضر قليل أو كثير من الناخبين، فلا فرقَ بين حضور ضعيف أو كثيف، في كلا الحالَين نتائج الانتخابات معلومة ومقدّرة سلفًا وقبل أن تبدأ.

أخطر تواريخ مصر

في 10 ديسمبر 1952م، أعلن الضباط الأحرار سقوط دستور 1923م – الدستور الوحيد الذي تمرّن المصريون تحت مظلته على لعبة الديمقراطية – فقد أعلن اللواء محمد نجيب أنه: " لا مناص من دستور جديد حتى تتمكن الأمة من الوصول إلى أهدافها وأن تكون – بحق – مصدر السلطات.

وقال السياسي المخضرم علي ماهر باشا – الذي قبل أن يكون رئيس وزراء تحت قيادة الضباط فاستخدموه ثم رموه -: " دستور 1923م كان يعبر عن ديمقراطية القرن التاسع عشر، ولم يعد صالحًا للبقاء على حالته في العصر الحديث".

مثل تلك العجوز التي لم تكن تدرك أن الحكم الوطني الذي أعقب الاستعمار لم يكن أفضل من الاستعمار.

لم يدرك اللواء أن الأمة لن تكون مصدر السلطات، ولم يكن يدور في خياله أن الرئيس سوف يكون هو المصدر الأول والأخير للسلطات.

وكذلك لم يدرك علي ماهر باشا أنّ البديل عن دستور 1923، لن يكون ديمقراطية متطورة عن ديمقراطية القرن التاسع عشر، وإنما دكتاتورية من دكتاتوريات القرن العشرين.

حتى يتم تبرير الانتقال من ديمقراطية برلمانية ذات مثالب وعيوب إلى دكتاتورية رئاسية ذات بأس شديد، كان لابد من استحضار الوطنية المقدسة لتلقي رداءها على هذا الاستبداد الرئاسي المبتكر وإضفاء المشروعية الشعبية عليه.

في عام 1956م عرفت مصر أخطر تواريخها المعاصرة:

1-  جلاء القوات البريطانية في 13 يونيو 1956م.

2- الاستفتاء على الرئيس جمال عبدالناصر بنسبة "99.9" رئيسًا للجمهورية في 23 يونيو 1956م.

3- تأميم قناة السويس 26 يونيو 1956م .

4 – العدوان الثلاثي – الإسرائيلي البريطاني الفرنسي – على مصر 26 أكتوبر 1956م .

بين هذه التواريخ الأربعة تهيأت اللحظة التاريخية لميلاد الاستبداد الوطني المقدّس.

وهذا هو موضوع مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.