إسرائيل والخيار المصيري.. أزمة ما بعد نتنياهو

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يواجه تحديات صعبة تعصف به داخليًا وتضع مستقبله السياسي في مهب الريح بسبب حربه في غزة (الفرنسية)

تواجه إسرائيل خيارًا مصيريًا يتمثّل في البحث عن قيادة سياسيّة في مرحلة ما بعد بنيامين نتنياهو. في حقيقة الأمر العالم بات فيه أزمة قيادات سياسية تستطيع إجراء تحوّلات جذرية، وتغيير مسار الأحداث، وبالتالي قفزات نحو المستقبل.

هذا ما يفسّر إصدار هنري كيسنجر كتاب: (القيادة)، والذي اختار فيه مجموعة من القيادات السياسية الملهمة التي غيّرت مجريات الأحداث في العالم في القرن العشرين، واستحضر من الشرق الأوسط في كتابه أنور السادات، لكن الكتاب في مضمونه يعبّر عن أزمة الولايات المتحدة في البحث عن رئيس بعد باراك أوباما.

لذا، بات هناك جفافٌ في قدرة الساحة السياسية على إفراز عدة شخصيات تصلح لمنصب الرئيس الأميركي، والحال، كذلك، في فرنسا بعد جاك شيراك، وفي بريطانيا التي شهدت تغييرات سريعة في منصب رئيس الوزراء.

فما بالنا بالوضع المتردي في الحياة السياسية في إسرائيل التي اعتمدت على جنرالات الجيش الإسرائيلي لسنوات في تشكيل قيادة لإسرائيل، مثل: إيهود باراك وغيره، فهل الدولة التي تعتقد أنها واحة الديمقراطية، ترى الحكم العسكري هو الحل، أو أن الحياة السياسية فيها تعبّر عن عسكرة الدولة والمجتمع والسياسة، مما أدّى لديمقراطية تصعّد في النهاية رئيسَ وزراء من النخب العسكرية للجيش الإسرائيلي؟.

صار وضع أزمة القيادة في إسرائيل محل تساؤلات وبحث في مركز الأبحاث والعصف الذهني في واشنطن، فصدر في 2019 كتاب تحت عنوان: (كن قويًا وذا شجاعة جيدة.. كيف حدد قادة إسرائيل مصيرها).

كان مؤلفو الكتاب الرئيسيون: دينيس روس- السياسي الأميركي الذي خبر بصورة جيدة الشرق الأوسط – وديفيد ماكوفسكي، وشارك معهما داليا رابين، رئيسة مركز إسحاق رابين، وجلعاد شارون، كاتب عمود في صحيفة "يديعوت أحرونوت".

إنّ قادة إسرائيل- السابقين على نتنياهو- كانوا يقدّمون إسرائيل على مصالحهم الشخصية، على العكس من نتنياهو الذي قدَّم كل مصالحه على المصلحة العليا لإسرائيل، فأحدث بذلك شرخًا غير مسبوق في إسرائيل، بل صارت الثقة بين القيادة والشعب الإسرائيلي محلّ تساؤلات وشكوك.

كان دينيس روس، السياسي الأميركي، يرى أن قادة إسرائيل امتلكوا- سابقًا- القدرة على دفع ثمن خياراتهم السياسية، والاشتباك مع الواقع، فإدراكهم- من وجهة نظره- ضرورة الحفاظ على هُوية إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، فإذا ظلت إسرائيل على مسارها الحالي، فسوف تصبح دولة لشعبَين: (إسرائيلي – عربي)؛ أي دولة واحدة لشعبَين، فالوضع الديمغرافي يوضّح حجم هذه المشكلة الوجودية التي تهدد إسرائيل.

ففي عام 1986 كانت نسبة اليهود إلى العرب في إسرائيل والأراضي المحتلة 63% إلى 37%، واليوم- حتى بعد وصول اليهود الروس وانسحاب إسرائيل من غزة في عام 2005- تبلغ النسبة 61% إلى 39%.

وتشير هذه الأرقام إلى أن إسرائيل تتحول بسرعة إلى دولة واحدة لشعبَين، وهذا ما صعّد من حدة تطرف المجتمع الإسرائيلي، فالقنبلة الديمغرافية مهدِّدة لوجود إسرائيل، مما يفسر تصعيد كل التشريعات – في الكنيست- التي تؤكد يهودية الدولة.

القادة الملهمون في إسرائيل

يعد ديفيد بن غوريون هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل، التي شكل وجودها الحروب المتتالية في المنطقة العربية، وهي الحروب الأكثر مأساوية، بدءًا من نكبة 1948 إلى الآن، لكن هذا كله يتطلب دراسة شخصيته الملهمة لقادة إسرائيل والإسرائيليين. وعلينا أن ندرك أن هذا يفكك الكثير من الخطابات الإسرائيلية ويحدد خلفياتها، وبالتالي يضع عددًا من القيود على قادة إسرائيل.

كان بن غوريون محددًا في سياساته وتوجهاته، فكان هدفه الأول هو جمع الشتات اليهودي في فلسطين، فهو كان يرى أن الهجرة أكسجين الصهيونية. في ذلك الوقت كان اليهود أقلية في فلسطين، كما كان لدى بن غوريون إحساس بكيفية تأثير الأحداث العالمية على الصهيونية، وكانت لديه بصيرة قارئة لسياسات الدول النافذة.

في عام 1945، كان مقتنعًا بأن الحرب قادمة مع الدول العربية، بالرغم من مخالفة العديد من القادة السياسيين في إسرائيل وخارجها له في هذا الرأي. اتخذ قرارًا- كان مثيرًا للجدل في الداخل الإسرائيلي- بقبول التعويضات الألمانية، في الوقت الذي كانت فيه الدولة الإسرائيلية الناشئة في وضع اقتصادي سيئ.

والأهم من ذلك، أنه أعلن قيام إسرائيل في عام 1948، رغم كل الصعاب، مستخدمًا إطاره التحليلي الذي انتهى فيه إلى ضرورة اتخاذ القرار في ذلك الوقت.

كان مناحيم بيغن رئيس وزراء غير تقليدي، حيث حاول إحداث توازن بين المصالح الإسرائيلية، والحاجة إلى كبح جماحها لتهدئة الأوضاع في المناطق ذات الأكثرية العربية، فرفض فرض الأحكام العرفية في هذه المناطق، مما أدى لهدوء استفادت منه إسرائيل، كما كان مؤسسًا لنموذج قادة إسرائيل الذين سيقبلون الحقوق المشروعة للفلسطينيين، لذا كانت لديه شجاعة في قبول تحديات وتنازلات معاهدة السلام مع مصر.

كان إسحاق رابين قائدًا واقعيًا، جاء ذلك من أنه قضى معظم حياته في الجيش الإسرائيلي، وشاهد وقائع حرب 1948، مما أقنعه بالحاجة الماسة لتشكيل جيش إسرائيلي قوي، وبصفته رئيسًا لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي بعد حرب 1967، كتب وأكد أن إسرائيل بحاجة إلى سلام، وأن هذا السلام سيتطلب تنازلات.

كان الثمن الباهظ للحرب حاضرًا لديه، لذا سعى- حين كان رئيسًا للوزراء- إلى السلام. لكن دوره الأهم، هو إدراكه أن الولايات المتحدة الأميركية هي الضامنة لوجود إسرائيل في المنطقة العربية، لذا كان هو مهندس بناء شراكة وعلاقات متجذرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بصورة غير مسبوقة.

  شارون

كان عسكريًا قاسيًا، يؤمن بالحرب والقوة المفرطة في مواجهة الخَصم، هذا ما صنع له شعبية في الداخل الإسرائيلي، فقد كان له دور في العمليات في حرب 1967 في سيناء، خاصة تصفية أسرى الحرب المصريين. قاد عملية "الدرع الواقي"؛ لقمع الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية؛ لذا هو شخصية مؤثرة في نهج استخدام القوة المفرطة كأداة ردع. رأى أن العلاقات مع الولايات المتحدة من أهم أصول إسرائيل، وكانت معرفته بجيران إسرائيل من العرب عميقة؛ لهذا كان حذرًا في التعامل مع مصر والأردن بصورة أساسية.

القرارات الصعبة

إن مرحلة ما بعد نتنياهو تتطلب قيادة إسرائيلية، تدرك أن العالم تغير، فموازين القوة الآن لم تعد بصورة كاملة لصالح إسرائيل، كما كانت في الماضي، فالتحول في نمط السلاح وفاعليته هدم نظرية الأمن الإسرائيلي.

فالطائرات بدون طيار، والأسلحة التي صنعها الفلسطينيون في غزة، بيّنت أن السلاح قد لا يلعب دورًا حاسمًا في مستقبل إسرائيل. إن رفض قادة إسرائيل تسوية الصراع مع العرب، بخصوص القضية الفلسطينية، يدفع قادة الاعتدال في فلسطين والمنطقة العربية إلى التشدد؛ مع زيادة وتيرة العنف الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.

كما أن إسرائيل باتت تدرك أن جيوش الدول العربية المحيطة، لم تعد الجيوش ذاتها التي واجهتها من قبل، خاصة في مصر والأردن. هنا يُطرح سؤال أمام قادة إسرائيل القادمين: متى يمكن تحول صانع القرار إلى تقييم حقيقي لمعتقداته، بدلًا من المناورة التكتيكية؟

فالتحول السياسي في السياسة الإسرائيلية عملية معقدة، وهذا ما يتطلب من القيادة الإسرائيلية القادمة تبنّي أهداف جديدة تتطلب أيضًا تغييرًا في سياسات إسرائيل وفرضيات وجودها، هذا التحدّي الذي سيواجه إسرائيل- مستقبلًا- سيكون إما أحد خياراتها، أو ما سيفرض عليها؛ نتيجة لتراجع القوة الأميركية والأوروبية على الصعيد الدولي، وصعود قوة الدول العربية، وخسارة إسرائيل المساحات التي اكتسبتها في مرحلة السلام خلال العقود الأخيرة، في ظل حربها الشرسة ضد غزة، فأحيت بذلك مشاعر عدائية عربية ضدها.

كان نتنياهو قد أدخل سياسة شعبوية متطرفة إلى إسرائيل، ولا يزال اليمين الشعبوي يناضل من أجل الاستيطان، وقضم الأراضي الفلسطينية، مما دفعه للتمرد على أي قيود سياسية أو قانونية على خططهم، حتى قادهم إلى اتهام اليسار الإسرائيلي بالخيانة، وأصدرت حكومة نتنياهو تشريعات ضد الأقلية العربية، ويجري الحديث عن إعادة السيادة للشعب، وهو ما يقصدون به حكم الأغلبية غير المقيدة، واستعادتها من النخب غير المنتخبة أو البيرقراطيين.

وردّد المتظاهرون منهم هتافات ضد المحكمة العليا في إسرائيل، مثل: (الشعب هو السيد)، ودعوا إلى إنهاء دكتاتورية المحكمة العليا في إسرائيل، هذا ما يعني تقويض الدولة الإسرائيلية وفكرة العدالة في المجتمع الإسرائيلي، لتتحول إلى دولة دكتاتورية تحت ستار ديمقراطي.

لذا، ستصبح الانتخابات القادمة هي المحددة إلى أين ستتجه إسرائيل؟ هل ستفرز قيادة جديدة تستوعب ما تواجهه إسرائيل؟ وهل ستكون إسرائيل واقعية تستجيب لتحديات المستقبل؟

 

 

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.