ذاكرة ليست للنسيان .. خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية

الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش حمل شعره سردية القضية الفلسطينية لتظل حية في ذاكرة أبنائها مقاومة كل أساليب المحتل في التجريف المادي والمعنوي (غيتي)

من المتعارف عليه أن ذاكرة من يكافح في سبيل استرداد حقه السليب، أو استعادة مجده الذي ذهب، أو يواجه قوة قاهرة تريد أن تجرّده من تاريخه وهُويته، تبقى ذاكرة حاضرة دومًا، بل تظل في حالة التهاب أو حيوية فائضة فائرة، لا تعرف جمودًا ولا ركودًا ولا قعودًا؛ لأن البلادة إن سرَت فيها، وحلّت بها، ضاع الدرب من أقدام الساعين إلى الحق، والحرية، والمجد، والأصالة.

إنّ أول الطريق إلى اغتصاب الحق، هو محو الذاكرة، فمن ينسى يُفرّطُ. والذاكرة إن ألهبت نفوس مَن كابدوا لحظة الاستيلاء على الإرث المادي- وفي مقدمته الأرض- أيامَ الصدمة الأولى والمواجهة البكر، فإن أي غشاوةٍ تطمسها – أو تزييفٍ يلحق بها، أو تغيير يجعلها تنحرف عن التمسك بحق الاستعادة والاسترداد والرجوع- سيؤثر، دون شك، على مواقف الأجيال اللاحقة، التي يعول المحتل على تغييب الحقوق من رأسها، فترضى بالسائد والمتاح، أو تسلم، بفعل وعي زائف مبتور، برواية المحتل، وتعتبرها قدرًا مقدورًا لا فكاك منه، وتشرع في تربية الأجيال الجديدة عليها، حتى تزيح الرواية الأصلية والحقيقية تمامًا.

مقاومة التزييف

وشحن الذاكرة، دومًا- بالأقوال والحكايات والتواريخ والأسماء والأماكن والوقائع والأحداث- واجب، بل ضرورة عند الشعوب التي يكون هناك من يتربّص بيومياتها وحَولياتها، ليقطع الحبل السُّرّي بينها وبين الأوتاد التي ترتكز عليها، والجذور التي تمدها بأسباب الوجود والتعافي، فتثبُت وترسخ أمام كل من يريد زحزحتها أو إزالتها أو تركها تجفّ وتموت وحيدة.

لهذا لا يكتفي المقاوم بحمل السلاح ضد المحتل، إنما عليه أن يتسلح أيضًا ضد تزييف التاريخ، وطمس الهُوية، بالإبقاء على الذاكرة حية، لاسيما إن كان يواجه احتلالًا استيطانيًا إحلاليًا، يريد أن يلغي وجود السكان الأصليين، وهو إلغاء يبدأ بخلع الإنسان من تاريخه الشخصي، وقبله التاريخ العام الذي يشكل إطارًا يحيل إليه، وسندًا يتكئ عليه، وجدارًا صلبًا يحمي ظهره.

وطالما شهدت البشرية في عمرها المديد ألوانًا من "التاريخ المنسي" أو "المستبعد"، حين أتيح للمنتصرين أن يكتبوا اليوميات والحَوليات، فاستبعدوا منها كل ما يصنع للمهزومين أيامًا حاضرة، مثلما فعل الإنجليز والفرنسيون بالهنود الحمر، الذين صاروا أثرًا بعد عين، ومثلما فعل الاحتلال المتعاقب بالمصريين حين أزاح تاريخهم القديم قرونًا طويلة، إلى أن أُعيد اكتشافه بعد فكّ شفرات اللغة الهيروغليفية.

ويعي الفلسطينيون هذه المسألة جيدًا، لذا يحتفظون في ذاكرتهم بخرائط فلسطين قبل نكبة 1948، بل قبل وعد بلفور 1917، وما تلاه، حين تم تهجيرهم قسرًا، وتغيير أسماء قراهم ومدنهم عربية الأسماء إلى أسماء عبرية.

بل إنهم يحتفظون بما هو أدقّ وأكثر تفصيلًا من الخطوط العامة، مثل: مفاتيح بيوتهم التي أُخرجوا منها، وأزيائهم التي اعتادوا ارتداءها، وأكلاتهم الشعبية التي نسبها الإسرائيليون إلى أنفسهم، وطقوسهم في الأفراح والأتراح، فحملها المحاصَرون في المعازل التي أزيحوا إليها في الضفة الغربية وغزة، ورافقتهم إلى

الشتات في البلدان المجاورة، وإلى المهجر والمنافي البعيدة التي اضطُروا إلى أن يتخذوها أوطانًا جديدة، توزعهم بلا رحمة على قارات العالم الست.

ذاكرة أقدم من المحتل

ويعرف الفلسطينيون جيدًا أسماء البارزين من قادتهم السياسيين والميدانيين، الذين أدوا أدوارهم تباعًا عن طيب خاطر، وفي تضحية ظاهرة، وحرصوا على أن تبقى الراية مرفوعة، يسلّمها جيل إلى جيل، والجذوة مشتعلة، رغم العواصف العاتية التي هبّت عليهم.

كما يعرف الفلسطينيون الأحداث الأساسية والمفصلية في تاريخهم، ويستخلصون منها الكثير من المدَد والعِبر، وأسباب الوفاء لقضيتهم، أكثر من أي شعب آخر؛ لحاجتهم الماسّة إلى ذلك.

ومن حاصل جمع الأشخاص والأحداث، تفرز الساحة الفلسطينية، بلا انقطاع، شخصيات جديدة، وأحداثًا متوالية، تعطي زخمًا لقضيتهم. فالذكراة الفلسطينية ليست نوعًا من الحنين إلى الماضي "النوستالجيا"، وليست صنفًا من النكوص، الذي يعني مرض الهروب من الحاضر إلى الماضي.

كما أنها ليست مجرد تقضية كل فرد وقته في استرجاع ما فاته، كي يندم عليه، أو يتلذذ به، إنما هي الإبقاء على الشغف قائمًا، ووصل ما جرى بما يجري، واستعادة الماضي ليكون في خدمة الحاضر، ويكون كلاهما في خدمة المستقبل.

والذاكرة الفلسطينية لا تحويها فقط كتب التاريخ، ولا الموسوعات التي تغطي كل شاردة وواردة في حياة الشعب الفلسطيني، إنما هي إلى جانب ذلك ذاكرة شفاهية، محمولة على مساحة التذكر والتخيل والربط والإبداع في عقل كل فلسطيني على حدة، وفي ذاكرة المجموعة المتمثلة في فصائل المقاومة والنضال، وفي الذاكرة الجمعية للشعب كله.

لقد توقفنا جميعًا عند العجوز التي قالت قبل استشهادها بأيام في "طوفان الأقصى" وبكل ثقة واعتزاز: "أنا أقدم من إسرائيل". فهذا القول لم يطلق في فراغ، ولا عفو الخاطر، إنما هو مشحون بالدلالات المهمة، ومنها ما تتذكره هذه المرأة من تاريخ الصراع، وقامت بنقله إلى أولادها وأحفادها، وهم بدورهم سينقلونه إلى من يأتون من أصلابهم، وهكذا دواليك.

 تواصل عبر الأجيال

كما تحلّ هذه الذاكرة في الأعمال السردية لأدباء فلسطينيين، التي تسجل فنيًا تاريخ الناس، وتلتقط من الحياة شخصيات واقعية، وإن أضافت إليها فكل محمول عليها ليس ابتداعًا كاملًا، إنما هو مستمد من العيش الذي مرّ به الأديب الفلسطيني؛ أي حياة فئة من الشعب، سمعها ورآها واختلط بها وصار واحدًا منها.

لقد كتب الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش كتابًا سرديًا عنوانه: "ذاكرة للنسيان"، عن تجربة حصاره مع المقاومة الفلسطينية في بيروت إثر اجتياح إسرائيل لها عام 1982، وهو عنوان قد يتأوّل على أنه يحمل رغبة صاحبه في نسيان الآلام التي جرت له، لكن قد نستطيع أن نرى فيه معنى مضادًا تمامًا، إذ صار للنسيان نفسه ذاكرة.

وبغض النظر عن هذين التأويلين المتضادين، فإن شعر درويش نفسه احتفى بالذاكرة الفلسطينية. أما الاحتفاء الأشد فقد حملته الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والسيرة الذاتية والغيرية والخواطر، وهي كثيرة ومتواصلة عبر الأجيال، والنصوص العابرة للأنواع، ومن أبرزها كتاب مريد البرغوثي: "رأيت رام الله".

تغيير الجغرافيا

ظلت الذاكرة الفلسطينية طوال الوقت قوية، حاضرة، قادرة على مقاومة كل عوامل التعرية والتآكل، حتى في وجه محو الأماكن، أو تغيير الجغرافيا، الذي يتم بفعل التوسع في الاستيطان، حيث يتم تجريف أراضٍ، وإقامة حواجز، وشق طرق التفافية؛ ولأن كل هذا يتم عنوة، فإن تذكر كل ما كان قائمًا، ثم تغير أو أُبيد، يصبح أكثر سطوعًا.

وخلال العدوان الإسرائيلي على غزة- والذي أعقب "طوفان الأقصى"- أزيلت أحياء كاملة، وجرفت شوارع وطرق، وتم محو معالمها تمامًا، وهي إن أعيدت مع الإعمار، فلن تأخذ هيئتها التي كانت عليها، ليظلّ قديمها في الذاكرة، التي قد تستدعيه حنينًا، لكنها، حتى في هذه الحالة، لن تخلو من تحدٍّ وعناد إيجابي تحت لافتة تقول: "كي لا ننسى".

فالفلسطينيون لم يغيروا معالم مدنهم اختيارًا، وبحكم تقادم يجعل بعض المباني آيلة للسقوط ويجب أن تنقضّ، وبعض الطرق والشوارع يحتاج إلى توسعة، وكثير من الأنشطة التجارية القديمة- حيث الحوانيت التي تحتل الجانبين من كل شارع- تتبدل بأنشطة أخرى حديثة، إنما تغيرت بعض المعالم جبرًا، ولذا يعد تذكرها نوعًا من المقاومة.

ستظل ذاكرة الفلسطينيين هي خط الدفاع الأول عن قضيتهم؛ لأن العدوان الإسرائيلي المتواصل عليهم لا يعطي أيًا منهم فرصة لنسيان ما يجري، ولأنهم يدركون، من تلقاء أنفسهم، أن طمس ذاكرتهم أو محوها أو حتى تلويثها هو أول معول في هدم حُلمهم بالحرية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.