هل تعد الهدنة انتصارًا؟ في دلالات آية "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا"

جانب من تسليم الدفعة الثانية من المحتجزين الصهاينة في قطاع غزة ضمن التهدئة الإنسانية وللإفراج عن الأسرى الأطفال والأسيرات الفلسطينيات من سجون الاحتلال
جانب من تسليم الدفعة الثانية من المحتجزين الصهاينة في قطاع غزة ضمن التهدئة الإنسانية (مواقع التواصل)

دخلت المقاومة في غزة مع الاحتلال الصهيوني في هدنة مؤقّتة، وذلك لعدّة أيام، حسب وساطة الوسطاء الدوليين: قطر، ومصر، وأميركا، والتي قضت، بتسليم عدد من الأسرى من الطرفَين، وشروط أخرى ذُكرت تفاصيلها، فيما يتعلق بالمساعدات الإغاثية والحياتية.

ومثل هذه الاتفاقيات، أو الهدن، يدور حولها نقاش من الأطراف المختلفة، بين مؤيّد ومعارض، بين من يراها نصرًا للمقاومة، ومن يحاول أن يقلل من قيمة هذا النصر، ويريد أن يجعل النظرة دينية فقهية، من حيث المقارنة بين المكاسب القريبة، أو المحدودة الظاهرة، مقارنة بما تم في شهرٍ ونصف شهر مع هذا الكَم من التدمير والخراب على مستوى البشر والحجر.

يحاول بعض المنهزمين نفسيًا، أو المرجفين من أهل الإعلام- الذين لم يكن لهم هم ولا وظيفة سوى جلد المقاومة طوال الفترة الماضية، ومن قبل بدء الهدنة- تهيئة الناس للشعور بأنها هزيمة منكرة للمقاومة.

والفقهاء والعلماء ناقشوا قضية الهدنة، وموقف الشرع منها، سواء كانت هدنة قصيرة أم هدنة طويلة، ولو كانت مع المحتل الغاصب للأرض، ما دامت لن تكون هدنة دائمة تعترف له بامتلاك ما احتلّ من أرض أو مقدسات، وقد ضرب لنا القرآن الكريم، والسيرة النبوية المطهرة نموذجًا لهذه الهدنة التي تعقد مع العدو.

رأينا دلالات تحملها هذه الهدنة من نصر المقاومة، من خروج أسرى من السجون، لم يكن لهم أمل في الخروج مطلقًا، إلا بهذه الهدنة، وتبادل الأسرى، ورأينا الاحتفال من الأسرى الفلسطينيين بعد الخروج

تسمية القرآن الهدنة نصرًا

عندما تحدث القرآن الكريم عن الهدنة التي أقامها النبي- صلى الله عليه وسلم- مع كفار قريش، أطلق عليها لفظ: الفتح، فقال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)، وسمى الله السورة: سورة الفتح؛ رغم أنها كانت تتحدث عن صلح الحديبية، وهو هدنة مؤقتة بين النبي- صلى الله عليه وسلم- والمشركين.

وقد غاب معنى أنَّ الهدنة نصر عند بعض الصحابة، فتعجبوا عندما نزلت الآية الكريمة: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)، وقد كان من بين السائلين عن ذلك عمر بن الخطاب، فقد روت كتب السنة، ما ذكره الصحابة، حين قالوا: شهدنا الحديبية مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما انصرفنا عنها، إذا الناس يوجفون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله، قال: فخرجنا نوجف مع الناس حتى وجدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقفًا عند كراع الغميم، فلما اجتمع إليه بعض من يريد من الناس قرأ عليهم: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) الفتح: 1، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله ‌أفتح ‌هو؟ قال: "والذي نفسي بيده إنه لفتح".

وقد لخّص الإمام ابن القيم كيف كانت هذه الهدنة نصرًا، فقال: (بيّن سبحانه حكمة ما كرهوه عام الحديبية من صد المشركين لهم، حتى رجعوا ولم يعتمروا، وبيّن لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا، فحصل في العام القابل، وقال سبحانه: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)، وهو صلح الحديبية، وهو أول الفتح المذكور في قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا).

فإن بسببه حصل من مصالح الدين والدنيا والنصر، وظهور الإسلام، وبطلان الكفر ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك، ودخل الناس بعضهم في بعض، وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام وبراهينه وأدلته جهرة لا يخافون، ودخل في ذلك الوقت في الإسلام قريب ممن دخل فيه إلى ذلك الوقت، وظهر لكل أحد بغْي المشركين وعداوتهم وعنادهم، وعلم الخاص والعام أن محمدًا وأصحابه أولي الحق والهدى، وأن أعداءهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد).

بعض دلائل النصر في هدنة غزة

ما يمكن أن نراه في هدنة المقاومة في غزة مع العدو، من بعض دلالات النصر القريب، ولا نقول النصر الكامل أو النهائي، فهذا أمل منشود، ولكنه من المبكر الجزم أو التكهن به الآن، وإن بدت بعض دلائله، ولاحت في الأفق أمارات عدة له:

الهدنة تعد فرصة لالتقاط الأنفاس، وترتيب الصفوف، وإعادة تأهيل النفوس والناس لما مضى من جرائم الحرب، وما سيأتي من صعاب، لكنها تعطي أصحاب الحق هذه البحبوحة من الاستعداد، وترتيب الأوراق، وشحذ الهمم، ومداواة الجروح المادية والمعنوية لدى أهل غزة.

وقد رأينا دلالات تحملها هذه الهدنة من نصر المقاومة، من خروج أسرى من السجون، لم يكن لهم أمل في الخروج مطلقًا، إلا بهذه الهدنة، وتبادل الأسرى، ورأينا الاحتفال من الأسرى الفلسطينيين بعد الخروج، ومن أهلهم، رغم ما حاوله الاحتلال لمنع ذلك، وفي المقابل لم نجد هذه الفرحة على إعلام الكيان لعودة أسراه، فلا احتفاءَ، ولا ظهورَ إعلاميًا، ولا مقابلات عامة، والصور بين الفريقين تحمل أصدق وأقوى دلالات النصر والثبات.

ما حملته دلالات صور الأسرى الذين عادوا للاحتلال، من نصر أخلاقي للمقاومة، بل ورد عملي ومعلن، على كل الأكاذيب التي روّجها إعلام الكيان، والإعلام الغربي المتحيز، والكاذب عن عمد، ضد المقاومة، من ادعاء قتل الأطفال، واغتصاب النساء، لنرى صور الأطفال تودع رجال المقاومة بابتسامة لا يمكن أن تكذب، وكذلك تلك التي عبّرت عن الأسيرات، من إشارات الوداع، التي لا تكذب في دلالاتها، ولا تخفى الدلالات الأخرى المهمة في هذه المشاهد وغيرها، وهي تحتاج لحديث منفصل.

حذر واجب

أما الحذر الواجب في هذه الهدنة، فيتمثل في الحذر من العدو الذي يواجهه الفلسطينيون، فهو عدو لا خلاق له، ولاحظ الجميع أنه يعلن مع الهدنة أنه سيستأنف بعدها مباشرة الهدم والقتل والحرب، ربما هذه عبارات المنكسر، لكنها عبارات عدو مارس حروبًا كلها لم تكن تتسم بالإنسانية أو الأخلاقية، فليس غريبًا عليه ما يقوم به، ولن يكفّ عنه.

والحذر ليس مطلوبًا من المقاومة فقط، بل من جماهيرها كذلك، فالهدنة هي استراحة محارب، وليست خمولًا يتبعه برود، بل يتبعه نشاط دؤوب، فإذا كانت المقاومة قد بذلت جهدها، وقامت بما تقدر عليه، فإن الجماهير أمامها مجال طويل للعمل أيضًا، سواء على مستوى التواصل الشعبي والإعلامي، أم في مجال المقاطعة، وكل مجال تملك فيه العمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.