في مديح الكراهية.. رشقة أسئلة غائبة في الحرب على غزة

U.S. President Joe Biden speaks about efforts to strengthen United States supply chains that effect economic and national security, during the first meeting of the new White House Council on Supply Chain Resilience, in the Indian Treaty Room of the Eisenhower Executive Office Building at the White House complex in Washington, U.S., November 27, 2023. REUTERS/Evelyn Hockstein
الحديث عن مسار تفاوضي بعد الحرب لن يكون مطروحًا لأنّ جميع الأطراف غير مستعدة له فأميركا بدأت عام الانتخابات (رويترز)

لا يبدو للحرب في غزة سياقٌ واحد، بل سياقات متعددة. قد تبدو منفصلة في أحيان، لكنها متقاطعة ومتشابكة، وهو ما يزيدها تعقيدًا.

النكبة والنزوح الجديد، مستقبل ما يطلق عليه محور المقاومة في ظل قواعد الاشتباك الحالية، علاقة إيران وتركيا بالقضية الفلسطينية- حيث يبدو أن مصالحهما تفوقت على المأساة الفلسطينية-، شلل الأمم المتحدة، وعجز التنظيم الدولي عن فرض وقف إطلاق النار أو الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، شكل الحكم في إسرائيل بعد الحرب، العلاقة بين الحربين في غزة وأوكرانيا، مستقبل السلطة الفلسطينية.. وتطول القائمة وتتسع؛ لكن تظل هناك أسئلة لا يوليها الكثير اهتمامه، وهو ما نلتقط في هذا المقال ثلاثة منها، على أن نتبعه بثانٍ يناقش ثلاثة أُخر.

أولًا: من الاهتمام باليوم التالي للتساؤل عن سكان غزة

سؤال اليوم التالي يتعلق بكيفية حكم غزة بما يحقق الأمن لأصحاب المصلحة الأساسيين باستثناء شعب غزة ذاته.

هو يتضمن تغييبًا للناس في غزة، ولا يشير إلى كيف ستكون أحوالهم بعد الحرب؛ وقد تم تدمير ثلث الوحدات السكنية حتى الآن، واستشهاد ما يزيد على ثلاثة عشر ألفًا أغلبيتهم من النساء والأطفال، وهناك جرحى ومصابون يزيد عددهم على العشرين ألفًا، والعدد مرشح للزيادة، ويغيب حصر كامل للمفقودين جراء القصف المستمرّ. أُبيدت عائلات بأكملها، واختفت منها ثلاثة أجيال، ودمرت المدارس والجامعات والمستشفيات.

في هذه الأوضاع؛ هل تتحوّل غزة إلى مخيم كبير؟ ومن يتحمل عبء الإعمار فيها؟ أشارت بعض الدراسات إلى أنها تحتاج من سنتين إلى ثلاثٍ لتعود إلى مستوى الخدمات التي كانت عليها قبل الحرب، وهي بجميع المؤشرات كانت متدنية للغاية.

تم تدمير التجارة والتصنيع والزراعة، وغيرها من الشركات بشكل كامل، ما يجعل سكان غزة يعتمدون بشكل رئيسي على المساعدات الإنسانية. وقد يتعرّض الحكم في غزة إلى تقويض خطير إلى الحد الذي يجعل التفكك السياسي المصحوب بالتدهور الاجتماعي والاقتصادي أكثر ترجيحًا من أي ترتيبات مثالية لليوم التالي (أو حتى يمكن التحكم فيها).

حماس حركة اجتماعية وأيديولوجية يمكن إضعافها، لكن لا يمكن إنهاؤها؛ خاصة أنه إذا كانت هناك أية فكرة وراء حماس، فهي حماس نفسها، فالمنظمة هي أمل الشعب الفلسطيني في التحرير، وبالتالي يجب الحفاظ عليها

تضم غزة واحدًا من أكثر التجمعات السكانية شبابًا – مع أكبر عدد من الأطفال والشباب- مقارنة بأي منطقة (أو بلد) في العالم. تميل الصراعات الكبرى إلى ارتفاع معدل الزيادة السكانية بعد الصراع. ماذا سيفعل هؤلاء الشباب وقد وجدوا أنفسهم بلا مستقبل، وفي أي اتجاه سيتجه غضبهم؟

ماذا لو فشلت ترتيبات اليوم التالي في السيطرة على مجمل الأرض، وتوفير الأمن، كما فعلت حماس ومن قبلها السلطة الفلسطينية؟ هل تتحول غزة إلى بؤرة للتطرف العنيف الذي يتجه إلى الجميع، وفي مقدمتهم مصر، وباستثناء إسرائيل، كما شهدنا من قبل في ولاية سيناء والسلفية الجهادية التي قاتلتها حماس؟

عجزت الولايات المتحدة -التي تقود الحديث عن اليوم التالي- عن بناء الدولة في العراق وأفغانستان بعد غزوهما.

ثانيًا: ما نوع حماس التي ستظهر؟

أبرزت عملية "طوفان الأقصى" فجوة السياسة والمقاومة المسلحة. بادر السلاح بالحديث، وظلت السياسة -حتى الآن- ضعيفة واهنة.

ففي حين يتحدث أبو عبيدة دائمًا وينتظره الجميع؛ فإن خالد مشعل وهنية لا يتحدثان إلا حديثًا فاترًا لا يقدم خطابًا سياسيًا، ولا يطرحان أفقًا سياسيًا إستراتيجيًا لا تكتيكًا لانتصارات غير متوقعة أدّت إلى عواقبَ غير مقصودة، وفرصٍ لم يتم انتهازها، على حد قول خالد الحروب في جريدة "المونيتر" والمختص في شؤون الحركة.

فعلى غرار النجاحَين السابقين في عامي 2006 (الفوز في الانتخابات التشريعية)، و2007 (السيطرة الكاملة على غزة)، حققت حماس نجاحًا غير متوقع لم تكن مستعدة له، ولم تستطع التعامل معه، واصطفت السياقات الإقليمية والدولية ضدها.

هناك تساؤلات كثيرة تتعلّق بمستقبل التنظيم ليس من بينها القضاء عليه. حماس حركة اجتماعية وأيديولوجية يمكن إضعافها، لكن لا يمكن إنهاؤها؛ خاصة أنه إذا كانت هناك أية فكرة وراء حماس، فهي حماس نفسها، على حد قول ناثان براون أستاذ العلوم السياسية المختص بشؤون المنطقة؛ فالمنظمة هي أمل الشعب الفلسطيني في التحرير، وبالتالي يجب الحفاظ عليها.

لكن كيف سيتغير التنظيم نتيجة لهذه الحرب؟ وماذا سيفعل بعد ذلك؟ وماذا لو تم تحميله من قبل أهل غزة المسؤولية السياسية لما جرى معهم من إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وتدمير وقتل قامت به آلة الحرب الإسرائيلية بمساندة واضحة من الولايات المتحدة، وبعض الحكومات الغربية؟ أسئلة مفتوحة إلى حد كبير.

تدل استطلاعات الرأي التي أُجريت مباشرة قبل عملية "طوفان الأقصى" أن شعبية حماس تزيد في حال الانخراط في المقاومة مباشرة، لكنها تقل عندما تتصرف كسلطة أمر واقع في غزة. ماذا إذا تم -وفق ترتيبات ما بعد الحرب- إخراج حماس والجهاد الإسلامي في غزة من المقاومة؟ وهو المتوقع ولو إلى حين إعادة ترميم التنظيم مرة أخرى!

يرتبط بما سبق موضع حماس في أية عملية تفاوض ستنطلق بعد الحرب- خاصة أن هنية قد أعلن مبادرة في هذا الصدد، لم يلتفت إليها أحد- تطرح الحد المقبول التفاوض عليه من حماس الآن؟ وهل يمكن أن تتعاطى مع هذه المبادرات من خلال منظمة التحرير الفلسطينية التي لاتزال الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني أم يظل الانقسام قائمًا بينها وبين فتح؟

في تقديري، إن الحديث عن مسار تفاوضي بعد الحرب لن يكون مطروحًا؛ ليس لأن غبار الحرب لن يهدأ سريعًا، ولكن لأنّ جميع الأطراف غير مستعدة له، وتحتاج إلى ترتيب أوراقها الداخلية. أولًا؛ نتنياهو انتهى في إسرائيل ولا ندري شكل الحكومة بعده، وأميركا بدأت عام الانتخابات، والفلسطينيون لايزالون منقسمين.

إن القوى التي أطلقها الفاعلون السياسيون هي من النوع الذي يجعل من المرجح أن تحدَّد الإجابات من خلال الأحداث، بقدر ما يتم تحديدها من خلال العمل السياسي الواعي.

ثالثًا: مديح الكراهية

نجد بطلة رواية خالد خليفة تتحدث عن الكراهية بلذة شديدة. هي تبدي كرهها للقيم الإنسانية التي يدّعيها الإنسان، كالفضيلة والحب والجمال والإخلاص والوطنية، وكرهها للطوائف ومصطلح الطائفية الذي ظهر في فترة الرواية -الثمانينيات من القرن الماضي في سوريا. تكتشف أن الكراهية أيضًا جديرة بالامتداح كقيمة إنسانية موجودة داخل كل إنسان. هي الوجه الآخر للحب، ولكننا نخجل من كراهيتنا ونجاهر بالحب. من هنا يأتي اختيار الكاتب "مديح "الكراهية، عنوانًا لروايته كتصالح مع الذات.

تقود الرواية القرّاء من مدينة حلب الآسرة وعوالم نسائها وحياتهنّ السريّة إلى أفغانستان، مرورًا بالرياض وعدن ولندن وأمكنة أخرى، لتنسج تفاصيل لا شك أنّها ستترك روائحها ودمَها وكراهيتَها، كما ستترك رغبةَ الحب، والدهشة، في أرواح قرّاء هذا الكتاب.

صور العنف والدمار والضحايا التي تنقل مباشرة على الهواء ستكون لها تداعيات خطيرة على الجميع. من المتوقع أن تحدث ارتدادات عكسية لها في داخل البلْدان وبين المواطنين في ظل عجز شعبي عن نصرة أهل غزة، وتخاذل رسمي عربي وإسلامي، كما جسدته قمة الرياض 11 نوفمبر الجاري. سقف العنف سيرتفع، وارتداده سيكون في شكل عنف مجتمعي، وإرهاب يفوق داعش. علمتنا خبرة التاريخ أن كل سياق مأزوم ينتج خطابه المأزوم، وعنفه وتطرفه اللذين يتناسبان معه ويكتسبان الشرعية منه.

السياق الأوسع لهذا، هو عَقد أو يزيد من الاضطراب العربي، والحروب الأهلية ونزوح جماعي وتهجير قسري لم ينتهِ حتى الآن – كما يظهر في سوريا واليمن وليبيا والعراق والسودان-، الكراهية المبررة هي إحدى وسائل الدفاع عن الذات في مواجهة الآخر، حيث يكون التساؤل: لماذا يجب أن نكرههم؟ وماذا في أفعالهم لا تجعلهم مكروهين؟ وماذا في اعتقادهم لا يجعلهم يكرهوننا؟

تمكن خالد خليفة في هذه الرواية من سرد تجربة القمع المزدوج في ظل التنظيمات الأصولية وداخل مجتمع محروم من الديمقراطية، من خلال لغة متعددة المستويات، وشخصيات ممزقة أمام أسئلة المستقبل.

الكراهية هي أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهُوية، أو على أساس الدين، أو الانتماء الإثني، أو الجنسية أو العِرق أو اللون أو النسب أو النوع الاجتماعي أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية.

هل تساعد صور الضحايا والدمار في غزة الممتزج بالعجز والتواطؤ على تصاعد خطاب الكراهية بين المواطنين داخل البلدان من جهة، وبينهم وبين غيرهم من شعوب المنطقة بعد ما ظهر من تخاذلهم أو تخاذل حكوماتهم عن نصرة غزة. لا شك أن هذا الخطاب سيتصاعد من شعوب المنطقة تجاه الغرب الذي وفَّر لإسرائيل الدعم والمساندة في عدوانها، واتسمت مواقفه بالازدواجية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.