ما بعد شاليط .. حرب غزة وتغير نظرة إسرائيل إلى الفرد

الجندي الإسرائيلي شاليط بعد اطلاق سراحه (غيتي)

من ضمن التحولات الإستراتيجية التي صنعتها الحرب الراهنة على غزة هو تخلي الحكومة الإسرائيلية عن التزامها بحماية الفرد، أو المواطن المنتمي إلى الدولة من اليهود، بدءًا من توفير الأمن الذاتي له من خلال سياج- يتم الترويج، ليل نهار، لمتانته وعظم نفوذه- يتمثّل في الجيش، الذي تبنى زمنًا طويلًا عقيدة قتالية تقوم على الحرب خارج الحدود، والهجوم الاستباقي، وكذلك في جهاز الاستخبارات "الموساد"، ومعه الأمن الداخلي "الشين بيت".

وبدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة متعهدةً على الدوام بتوفير الأمان للأفراد، وبات راسخًا لدى هؤلاء أن واحدة من الغايات الكبرى للدولة هي شعور الفرد بالاطمئنان أينما كان، في حلّه وترحاله، داخل البلاد أو خارجها، وفي الحرب والسلم، لاسيما مع إطلاق يد المواطن اليهودي في التعامل مع "الأغيار"، سواء كانوا الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة أم بين عرب 1948، أو حتى في المحيط الإقليمي العربي.

تجنب الموت المجاني

وإذا كانت نظريات التسلح وخوض الحروب تقوم في جانب مهم منها على حماية الفرد المقاتل وحفظ نفسه، بما جعل هذا جزءًا أصيلًا في العقائد القتالية للجيوش الحديثة والمعاصرة، فإن هذا الأمر يأخذ بعدًا أكثر عمقًا وصرامة لدى الجيش الإسرائيلي، بحيث يكون الجندي مجهزًا- في تسليحه ومؤنه وتدريبه وخطة المعارك التي ينخرط فيها- ضد الموت السهل والرخيص والمجاني.

وعاش الجندي الإسرائيلي سواء كان على قوة الجيش أم في الاحتياطي، زمنًا طويلًا يؤمن بأن الدولة لن تتركه، فهو إن جُرح في معركة، فله أفضل علاج ممكن حتى يحتفظ بحياته، وبجسده سليمًا على قدر الاستطاعة. وهو إن وقع في الأسر، فإسرائيل لن تتركه، حتى لو خاضت حربًا كاملة، مثلما حدث في يوليو 2006 ضد حزب الله، أو دخلت مفاوضات شاقة في سبيل استعادته، مثلما حدث مع الجندي شاليط الذي أسرته حركة حماس. وحتى لو قتل الإسرائيلي ودفن بعيدًا فإن رفاته يظل مؤرقًا للحكومة حتى تستعيده ليدفن في إسرائيل. وهو حال قتله في ميدان معركة تتكفل الدولة بصرف معاش مناسب لأهله، يضمن لهم عيشًا ماديًا لائقًا.

ورأينا كيف غامرت الاستخبارات الإسرائيلية في سبيل استعادة رفات الطيار أرون أراد الذي سقطت طائرته في لبنان، وكيف استبدلت تل أبيب جنديًا واحدًا هو شاليط بألف أسير فلسطيني عام 2011، وقبلها كانت إسرائيل تبذل كل جهد مستطاع في سبيل استعادة جثمان أو رفات جندي قُتل لها في الحرب أو وقع في الأسر، خلال الحروب التي خاضتها ضد الجيوش العربية.

مخزن بشري محدود

وكانت هذه الرؤية، وذلك السلوك، يفسران دومًا في إطار أربعة أسباب، هي:

1 ـ ضيق المخزن البشري: فإسرائيل أعلنت نفسها دولة لليهود، وهؤلاء قلة في العالم كله، إن قيس الأمر بأتباع الديانات الأخرى، لاسيما المسيحية والإسلام، حيث يعيش اليهود بين معتنقي الديانتين. ولأن عدد اليهود محدود- لاسيما في ظل ضعف الإنجاب بينهم لأسباب كثيرة، وعدم إيمان اليهود بفكرة التبشير بدينهم- فإن فرص تعويض الفرد منهم قليلة جدًا، ومن ثم فإن الحفاظ على الأحياء منهم تبدو مهمة دينية وسياسية وتاريخية في الوقت نفسه.

2 ـ صناعة الدولة الجاذبة: حيث تسوق إسرائيل نفسها بين اليهود باعتبارها الدولة التي تحمي من يختارها منهم وطنًا له، سواء كان يعيش في الخارج، فيفضلها على بلاد أخرى يحمل جنسيتها، أم كان يعيش في إسرائيل أو وُلد فيها، فلا يبرحها إلى غيرها.

3 ـ صناعة الحكومة النافذة: فكل حكومة إسرائيلية حريصة على تعزيز شرعيتها وشعبيتها، وهذا يجعلها تعمل على إنجاز أشياء مادية ليهود إسرائيل خصوصًا، تقع في قلبها مسألة حماية الفرد، التي تمتد من حفظ نفسه، حتى توفير حد الكفاية له من غذاء وكساء وإيواء ودواء وتطبيب وتعليم وترفيه.

4 ـ الحفاظ على التماسك الاجتماعي: فمن المشتركات التي يؤمن بها المواطنون اليهود في إسرائيل أن الدولة- بجيشها وشرطتها وأمنها- لا تتوانى في حماية كل فرد. ويبدو هذا عقدًا غير مكتوب بين أفراد الشعب، تتم ترجمته في الموازنة العامة، وفي الخطاب السياسي والإعلامي، ومناهج التربية والتعليم، وبرامج الأحزاب السياسية، والتصورات التي تؤمن بها مختلف الفرق أو الجماعات الدينية.

تعرية أكذوبة الدولة الحامية

كانت هذه العقيدة سارية في رسوخ يومَ انطلاق "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، ليس لدى الإسرائيليين فحسب، بل إن المقاومة الفلسطينية نفسها كانت تدرك هذا جيدًا، وتبني جزءًا من تكتيكها القتالي عليه، وإلا ما أقدمت على التخطيط لخطف مجموعة من الأسرى، ومساومة تل أبيب على استعادتهم في مقابل تصفير سجونها من آلاف الأسرى الفلسطينيين.

لكن بدا منذ الوهلة الأولى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية مستعدة للتخلي عن هذه العقيدة، ولو مرحليًا، في سبيل تضميد الجرح الغائر الذي أصابها جراء عملية عسكرية كشفت أكذوبة الدولة الحامية، بعد قهر الجيش وإظهار تهالكه، وكشف جهاز الاستخبارات وإثبات فشله، وتعرية الأمن الداخلي وتبيان ضعفه.

منذ البداية، جرى نقاش حاد في إسرائيل عن تطبيق "برتوكول هانيبال"، الذي يعني إمكانية التضحية حتى بالأسرى في سبيل عدم لي ذراع الدولة بإجبارها على الدخول في تفاوض بشأنهم، والذهاب إلى هجوم عسكري واسع لاستعادتهم عنوة دون قيد ولا شرط.

وظهر في مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية من يتحدثون عن ضرورة توجيه ضربة قاصمة للمقاومة الفلسطينية، حتى لو أدى ذلك إلى قتل الأسرى جميعًا. وهذا التوجه إن كان قد قوبل باعتراض أهالي الأسرى، أو أهالي بعض الجنود الذين تم حشدهم إلى معركة غزة، فإن أصوات هؤلاء ضاعت في ضجيج الراغبين في الإفراط في العنف ضد المقاومة، دون أدنى اعتبار لشيء أو أحد، من منطلق إيمان الداعين إلى حرب ضروس بأن ما حدث في 7 أكتوبر يهدد وجود إسرائيل نفسها، بما لم يحدث لها من قبل.

وحين عادت المقاومة الفلسطينية لتوظف هذا التقليد في خدمتها- فتحدث الناطق باسم كتائب عزالدين القسام "أبو عبيدة"، وغيره، مرات عدة عن أن القصف الإسرائيلي الوحشي والعشوائي للمدنيين في غزة يهدد حياة الأسرى الموزَّعين على أماكن عدة- كانت تل أبيب قد أصمّت أذنيها عن هذا التحذير ومضت في طريق الدم والدمار.

اهتزاز الثقة وتداعي العقيدة

إن موقف إسرائيل الجديد هذا إن كان قد بعثر الكثير من أوراق المقاومة، سواء ما يتعلق بتوظيف الأسرى في المساومة، أو عدم توقع الاجتياح البري، أو استبعاد طول أمد الحرب، فإنه في الوقت نفسه أصاب جانبًا من عقيدة الدولة الإسرائيلية في مقتل شديد، ما يؤثر، دون شك، على نظرة الفرد مستقبلًا إلى قدرة الدولة الحامية، سواء كان يعيش في إسرائيل، أو كان خارجها ينصت إلى الدعايات والإغراءات التي تقدم إليه من أجل أن يحزم أمتعته، ويذهب لينضم إلى إسرائيل.

وهذا المسار هو من الخسائر بعيدة المدى لإسرائيل، إذ سيساهم في هجرة بعض اليهود منها، ويؤدي إلى إحجام قدوم بعض اليهود إليها، بعد أن اهتزت ثقة المواطنين في التزام الدولة بالقاعدة التي رسخت على مدار العقود الماضية، وكانت واحدة من الأسباب التي تثبتهم في الأرض التي استحوذوا عليها، وتعزز انتماءهم للدولة، وتحفزهم على الدفاع عنها، والدعاية لها.

إنّ هذا يجعل من الحرب الحالية نقطة ارتكاز قوية في ضرب الدعاية للدولة الحامية القادرة الجاذبة، وإعادة رسم صورة إسرائيل مستقبلًا على أسس مغايرة، لاسيما إن تكررت حالات الاستهانة بالفرد. وبمفهوم المخالفة تكون المقاومة الفلسطينية قد أضافت نقطة إيجابية أخرى إلى رصيدها ضمن إستراتيجيات الصراع الطويل ضد إسرائيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.