تفنيد دعاوى نهاية الإسلام السياسي.. مصر أنموذجا

Some 200,000 supporters of Islamic hardliners demonstrate during a rally called by the opposition PJD party (Justice and Development) and the banned policital party Al Adel Oua Al Isshane (Justice and God Deeds) in protest against government plans to improve women's rights 12 March 2000 in Casablanca. Women and men march separately during the protest. Meanwhile, in Rabat, more than 100 feminist groups and politicians from nearly all parties gathered in support of the plans, which would allow greater divorce rights for women, raise the minimum age of marriage from 14 to 18, and ban polygamy. (Photo by ABDELHAK SENNA / AFP)
الحركة الإسلامية في المغرب كانت سبّاقة إلى الانتقال من نموذج "إقامة الدولة الإسلامية" إلى نموذج "الإسهام في إقامة الدين" (الفرنسية)

نشر موقع الجزيرة نت مقالا للدكتور هشام جعفر تحت عنوان "نعم فشل الإسلاميون وانتهى زمن الإسلام السياسي" ينتقد فيه مقالا لي نشر في نفس الموقع تحت عنوان "هل انتهى زمن الإسلام السياسي؟". وإذ أشكر للأستاذ جعفر مبادرته لـ"الرد" على مقالتي المشار إليها، وهو ما يبين أنها أثارت قضية تستحق النقاش، فإنني أود أن أبدي عددا من التوضيحات حول مقالي المذكور وحول ما ورد في "الرد" عليه، وذلك على الشكل التالي:

(1)

بين الرد والحوار

كنت أود لو أن الأستاذ هشام جعفر قد تجنب مصطلح "الرد" وكنت أود لو استخدام كلمة نقاش أو مراجعة أو محاورة، فهي أولى. إن مقولة الرد وما تتضمنه وتستبطنه تحيلنا على جنس من الكتابات -عرفها تاريخنا- كانت موجهة للمخالفين في العقيدة، وليس في التقدير السياسي، وذلك من قبيل الرد على الدهريين" و"الرد على المناطقة" و"الرد على الزنادقة" و"الرد على الجهمية"!

وهي قريبة أيضا من تعبيرات أخرى عرفها تاريخنا من قبيل "تهافت الفلاسفة" و"المنقذ من الضلال" وهلم جرا، وكذلك إلى كتابات معاصرة من جنسها من قبيل: "البمب الألماني في الرد على الألباني"، و"القول السديد في أن دخول البرلمان ينافي التوحيد"!

الأستاذ جعفر يتبنى أطروحة جهات تقول بنهاية "الإسلام السياسي" ليس من زاوية تقييم موضوعي لأداء الحركات الإسلامية المعاصرة بل من زاوية الخصومة الفكرية مع مرجعية الأمة عموما

وذلك على خلاف "المناظرة" التي تفيد تبادل وجهات النظر وتقليب وجوه الرأي، وهو منهج أقرب إلى خصوصية المنطق الإسلامي كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن، حيث تعتمد على تقليب وجهات النظر وتمحيصها مما يؤدي للتقدم في بناء المعرفة وإلى تكاملها وبنائها بطريقة جماعية، وأيضا على خلاف كتابات بعض كبار الكتاب المسلمين المعاصرين مثل الدكتور مصطفى محمود في كتابه "حوار مع صديقي الملحد" التي اتسع صدر صاحبها للتذكير بأن الخلاف العقدي لا يتنافى مع الصداقة.

(2) 

تعريف الحركات الإسلامية لنفسها

الدكتور جعفر يتشابه في رده المذكور مع أطروحة تتبناها جهات لها خصومة فكرية وعقدية وأيديولوجية ليس فقط مع الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية أو الحركات الإسلامية السابقة على ما سمي بـ"الإسلام السياسي"، وإنما مع الإسلام عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة.

تلك جهات لها مصلحة في القول بأطروحة نهاية ما يسمى بـ"الإسلام السياسي" حسب تعبيرها، ليس من زاوية تقييم موضوعي لأداء الحركات الإسلامية المعاصرة بل من زاوية الخصومة الفكرية مع مرجعية الأمة عموما وليس فقط المرجعية الفكرية للحركات الإسلامية أو ما يصطلحون على تسميته بالإسلام السياسي.

والواقع أنه عند التأمل، نجد أن تعريف الحركات الإسلامية لأهدافها ولمجالات عملها منذ اليوم الأول هو تعريف لا يختصر دورها في الجانب السياسي، بل هي أهداف شاملة وحضارية لا يشكل الجانب السياسي إلا واحدا منها.

وعلى رأس تلك الحركات "جماعة الإخوان"، حيث نجد أن مؤسسها حسن البنا الذي لم يعرف جماعته كحزب سياسي، بل اعتبر أنها "دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية، على اعتبار أن الإسلام يُعنى بتدبير المال وكسبه، وفكرة اجتماعية".

وفي المقابل يمكن القول إن عددا من الدول الإسلامية التي تعاقبت على حكم عدد من مناطق العالم الإسلامي في تاريخنا ومنها المغرب إنما كانت في الأصل حركات إحياء وإصلاح ديني وتربوي، وحركات دعوية وتربوية وإصلاحية اجتماعية، لتتحول إلى حركات سياسية تعمل على إصلاح الدولة بل وعلى إقامة "دول" جديدة على أنقاض دول أخرى تسربت إليها عوامل الضعف وأسباب الأفول.

(3)

من إقامة الدولة إلى الإسهام في إقامة الدين

أما بالنسبة للحركة الإسلامية في المغرب في شقها الدعوي وخاصة حركة التوحيد والإصلاح، فإنها كانت سباقة إلى الانتقال من براديغم "إقامة الدولة الإسلامية" إلى براديغم "الإسهام في إقامة الدين"، وهو ما أعتبره "ثورة كوبيرنيكية" حقيقية، وهو ما يعني العمل على تعزير قيم الإسلام ومرجعيته عند الأفراد وفي العلاقات الاجتماعية وداخل الأسرة وفي المجتمع وفي سياسات الدولة التي هي دولة إسلامية بإقرار دستوري صريح، كما جاء في ديباجة الدستور.

وكان ذلك من أسباب توجيه أعضائها إيجابا على الدستور، فضلا عما جاء به الدستور من مقتضيات تتعلق بإقرار مبادئ وقيم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا في نطاق أحكامه، وما تضمنه من إقرار للحقوق السياسية والاجتماعية والديمقراطية التشاركية.

بالرجوع للوثائق المعتمدة لحزب العدالة والتنمية، نجد أن أدبياته واضحة في التأكيد على أنه حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية، يعمل في السياسة بأدبيات السياسة ومصطلحاتها

ولذلك، وُضعت حركة والتوحيد والإصلاح خارج نطاق ما يعرف بـ"الإسلام السياسي"، على اعتبار أن السقف الدستوري يشملها وأنها لا ترى نفسها في تعارض مع هوية الدولة المغربية كما هي منصوص عليها دستوريا، وأن دورها هو "الإسهام في إقامة الدين"، مع التأكيد على أن الوظائف الأساسية للحركة تتمثل في الدعوة والتربية والتكوين، وأن العمل السياسي لأفرادها يمارس داخل إطار حزبي سياسي تقرر أن يكون هو حزب العدالة والتنمية الذي يشتغل في استقلال تنظيمي عن الحركة والعكس صحيح، من خلال خطاب سياسي وبأدوات العمل السياسي، شأنه في ذلك شأن عدد من مجالات العمل الأخرى المتخصصة مثل العمل الثقافي والاجتماعي والنقابي، أي بالأدوات المناسبة لهذه الأعمال وبالخطاب الذي يتناسب معها.

(4)

المرجعية الإسلامية في أدبيات "العدالة والتنمية"

وبالرجوع للوثائق المعتمدة لحزب العدالة والتنمية، نجد أن أدبياته واضحة في التأكيد على أنه حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية، يعمل في السياسة بأدبيات السياسة ومصطلحاتها، بل إن أطروحات عدد من مؤتمراته حَسمت بطريقة واضحة هذه المسألة.

وأقصد بهذه الوثائق نظامه الأساسي وأوراقه السياسية والتصورية التي تُكوّن أرضية لمناقشة توجهاته وتقييم كسبه، بدءا من المؤتمر الخامس المنعقد سنة 20 الذي شهد تقديم ورقة تمت تسميتها بـ"أطروحة النضال الديمقراطي" ومرورا بـ"أطروحة البناء الديمقراطي" التي كانت من أوراق المؤتمر الوطني السادس سنة 2012، أي بعد شهور من تكليف الحزب برئاسة الحكومة بعد تصدره للانتخابات التشريعية لسنة 2011، أو أطروحة "مواصلة البناء الديمقراطي" على إثر تصدره للانتخابات التشريعية سنة 2017. وفي كل هذه الوثائق والمراحل ظل الحزب يؤكد على فهم للمرجعية يعتبر أنها ليست حكرا عليه، وإنما هي مرجعية الدولة والأمة.

ووعيا بما يمكن أن يفهم من صفة "الإسلامية" من طابع إقصائي وتمييزي في عبارات مثل الحزب الإسلامي والحركة الإسلامية فقد كانت هذه الصفة موضوعا لمراجعات مبكرة لدى حركة التوحيد والإصلاح وروافدها المختلفة.

ومن الناحية التاريخية، يتعين التذكير بأن الحركة التصحيحية لسنة 1981 وبسبب الارتباك التنظيمي والتصوري تم تأسيس تنظيم جديد باسم جديد هو "الجماعة الإسلامية". حرصت الحركة في ميثاقها على التأكيد في تعريف الإطار الجديد بأنها جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين.

ثم بعد سنوات قليلة، راجعت الحركة آنذاك تعريفها تحت اسم "الجماعة الإسلامية" لما قد يفهم منه من إيحاءات طائفية أو ما قد ينتج عنه من فهم خاطئ واحتكار للإسلام وما قد يتركه في ذهن المخاطب من غير الأعضاء أنه خارج "الجماعة الاسلامية"، فقررت أن تسمي نفسها حركة الإصلاح والتجديد، أي تعريف نفسها بوظيفتها الإصلاحية وليس بماهيتها الدينية وهو تحول تصوري.

وبالنسبة لرابطة المستقبل الإسلامي التي هي أحد الروافد التي ستتشكل منها حركة التوحيد والإصلاح، فإن الإسلامية لم ترتبط بالتنظيم وإنما بالمستقبل، أي بالعمل في أفق بناء مستقبل الأمة والمحافظة عليها بناء على مرجعية الإسلام.

أما داخل حزب العدالة والتنمية، فقد برز تعريفه لنفسه بأنه حزب سياسي ينطلق من المرجعية الإسلامية كمرجعية للدولة والأمة، باعتبارها منطلقا فكريا وقيميا وأخلاقيا وأفقا للنضال من أجل الوفاء للاختيارات التاريخية للأمة المغربية، وكإطار لمختلف مكونات المجتمع المغربي، يتسع ولا يضيق بأهل الاختيارات الدينية الأخرى كما اتسعت له دوما الحضارة الإسلامية عامة والحضارة الإسلامية المغربية.

(5)

خصومة مع منظومة قيم وليس مع حركات

لا يخفى أن إظهار الخصومة لما سمي بـ"حركات الإسلام السياسي" يخفي وراءه -عند الكثيرين- خصومة للمنظومة العقدية والقيمية والحضارية الإسلامية في حد ذاتها، وليس فقط للحركات والأحزاب التي اتخذت من الإسلام مرجعية لها في الإصلاح السياسي أو في إعادة بناء الدولة، كما هو الشأن بالنسبة لدولة المرابطين والموحدين والسعديين والمَرينيين والعلويين في المغرب، وهذا الأمر ينطبق على عدة تجارب على طول وعرض العالم الإسلامي.

الترويج لمقولة "إفلاس الإسلام السياسي" فيه تبسيط لظاهرة معقدة، يحصر المشكلة في عوامل ذاتية مرتبطة بهذه الحركات وبقصورها الذاتي

(6)

من المؤسف أن يتبنى الدكتور جعفر مقولة غير مسلّمة هي مقولة "فشل الإسلاميين" أو "فشل حركات الإسلام السياسي"، وهذا الانطباع في عدد من الحالات لا يعدو أن يعكس خلافا تنظيميا داخليا وعدم قدرة على تدبير ذلك الخلاف بطريقة مؤسساتية، علما أنني استخدمت مصطلح "الإسلام السياسي" فقط من باب "المجاراة" لمناقشة دعوى غير مسلّمة.

والمطلع على كتاباتي يعرف أنني أقرب للتأكيد على "الإسلام الحضاري"، ولي كتاب في الموضوع بعنوان "العمل الإسلامي بين التغيير السياسي والتغيير الحضاري"، وأؤكد على مدخل الإصلاح الثقافي والتربوي كما بسطت ذلك في كتابي "مدخل إلى نظرية الإصلاح الثقافي: دراسة في عوامل الانحطاط وبواعث النهضة".

إن الترويج لمقولة "إفلاس الإسلام السياسي" فيه تبسيط لظاهرة معقدة، يحصر المشكلة في عوامل ذاتية مرتبطة بهذه الحركات وبقصورها الذاتي، علما أنني لا أزعم أن الحركات الإسلامية حركات كاملة وأن اجتهاداتها واختياراتها مقدسة. 

وبالرغم من كل النقد الذي يمكن أن يوجه للحركات الإسلامية، قامت حركتنا في المغرب على أساس مراجعات كبيرة ومعمقة ولا تزال في مراجعة متواصلة سواء من الناحية الفكرية والتصورية أو من الناحية النظرية أو من خلال مراجعة كسبها بنقاط قوته وعناصر ضعفه في جميع مجالات عملها.

إنصاف الحركات الإسلامية

غير أن هذا الذي أقرره لا يمنع من إنصاف الحركات الإسلامية مراعاة لحقيقة أن هذه الحركات هي من كبرى الحركات التي عانت في عصرنا من كل أشكال التضييق ومن عمليات قمع واضطهاد خاصة في دول المشرق العربي على يد أنظمة قومية ودول عسكرية وبوليسية، لمعارضتها مصالح جهات داخلية وخارجية، وهي العمليات التي يصمت "الغرب الديمقراطي" أو "الغرب المتحضر" بصددها بل يباركها، بما في ذلك حين تواجه بالانقلابات العسكرية والمدنية وتقاد قياداتها إلى السجون والمنافي.

وأتكلم هنا عن الحركات التي اختارت خيار المشاركة السياسية في إطار المقتضيات القانونية والأطر القائمة لدول المنطقة، بل منها من تم الانقلاب عليه بعد أن بوّأته مراكز الاقتراع وأصوات المواطنين الصدارة في الانتخابات، فعن أي فشل يتحدثون بعد كل هذه الانقلابات التي يتخذ بعضها أشكالا عسكرية ويتخذ بعضها الآخر أشكالا ناعمة؟

عن أي فشل نتحدث حين يتم التنكر للإرادة الشعبية المعبرة عنها بطريقة حرة، وهل الأمر يتعلق بنهاية "للإسلام السياسي" أو بمحاولات انقلاب على هذه الحركات واضطهادها اضطهادا لا تضاهيه في القسوة إلا وحشية محاكم التفتيش؟!

ألا يكون الإلقاء باللائمة على "حركات الإسلام" وكونها قد صارت إلى نهايتها المحتومة بسبب ما كسبته بأيديها، تبييضا لوجه التحكم والثورات المضادة ومن تخدمه ويخدمها في المنطقة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.