خيارات أربعة أمام إسرائيل (2)

Members of the Iranian Basij forces stage a mock arrest of a man dressed like Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu during an anti-Israeli rally to show their solidarity with Palestinians in the capital Tehran on October 13, 2023. - Thousands of Iranians took to the streets of Tehran on Friday in a show of support for Palestinians amid a bloody conflict between Israel and Hamas. (Photo by AFP)
الأحداث قد تجبر الاتجاهات المتشددة في إسرائيل على التراجع كنتيجة للصمود (الفرنسية)

تناولْنا في المقالِ السَّابق الخيارات الأربعة التي يمكن أن تتحرَّكَ فيها إسرائيلُ، وفي هذا المقال استكمالٌ للتحدّيات التي يمكن أن تواجه إسرائيلَ، إذا ما تحوّلت هذه المعركةُ إلى حرب كبيرة تحتدم صراعًا بين القوى الكُبرى، تجرّ إسرائيلُ الغربَ إليه جرًا.

تمثلُ هذه المنطقة -بامتداداتها عبر قلب الجغرافيا الحيوية العالميّة- عنصرًا مهمًا في ملفات أساسيّة وحسّاسة في عملية التّنظيم العالميّ الجيواستراتيجي، أو الاقتصادي، مثل: ملفّ الممرات الاستراتيجية، وملفّ الطاقة، وملف اتجاهات الاقتصاد العالمي نحو البحث عن أسواق جديدة، وملف التنمية العالمية، وملف اتجاهات التحالفات الخارجيّة للشرق الأوسط، وبالتالي فإنَّ هذه الملفات، اليوم، ستكون حاضرةً على طاولة التسويات، ومحاولات إدارة الموقف، ولا يمكن إهمالها في المشهد، ولا تجاهل الأطراف الأساسيَّة في هذه الملفات وحساباتها، وبالأخصّ في تصوّرات تطوّرات المشهد ومُستقبليَّاته، وأبرزُ هذه الملفات:

إنّ ما يحدث اليوم يتطلب من إسرائيل البدْء في عملية ترتيب موسّعة، من الصعب أن تكون الأمور ميسّرة، حيث تحتاج إسرائيل لإعادة بناء منظومتِها الأمنية في أبعادها الثلاثة: (الأمن الداخلي، واستعادة الثقة في النظام والمنظومة وإنهاء الخلافات السياسية، وإعادة تنظيم المناطق الفلسطينية

  • لدينا قوى كُبرى تتنافسُ بخطواتٍ متسارعةٍ -أمريكا والصين وروسيا- مع ردودِ فعل قويّة، فالمحاولاتُ المتصاعدة لإبعاد روسيا والصين وإيران عن الشرق الأوسط سواء سوريا بالنسبة لروسيا، وإيران، أو محاولات حصار الصين والتحكّم باتصالاتها مع  العالم، سواء من خلال معابر الصّين البرية من خلال أفغانستانَ وإيرانَ وباكستان، أو معابرها البحرية (بحر الصين الجنوبي)، وتحويل محاولاتها لتدعيم اتّصالها بالعالم عبر الشرق الأوسط من خلال ممرّات الحزام، والطريق، إلى مُحاولات لتدعيم أطراف منافسة لها، وهي الهند، ودفع المنطقة نحو مسارات تحالف بديلة -الممر الهندي، السعوديّ، الإسرائيلي مؤخرًا- ومحاولة تحجيم إيران، والدفع بها إلى خارج الشرق الأوسط، ولعبة الطرق الجيواستراتيجيَّة وخطوط الطاقة العالمية، وتحويلها إلى دولة حبيسة في الشرق الأقصى.
  • كلّ هذا اليوم، يجد صدى الردّ عليه من خلال محاولات التحول من الدفاع إلى الهجوم، وهو ما تحاول إيران توظيفَه لصالحها كرأس حربة للشرق -الصين وروسيا- في مِنطقة الشرق الأوسط، في مقابل محاولات إسرائيل أن تكون رأسَ حربة للغرب، لتصفية إيران في المِنطقة، فاليوم إيران تتحوّل من الدفاع إلى الهجوم، بعد أن واجهت تحديًا حقيقيًا خلال العام الماضي، مع الاحتجاجات المحليَّة، ومحاولات إسرائيل تهديدَ تواجدها في سوريا، وكذلك محاولات عدة أطراف تهديد موقعها في العراق، ثم أخيرًا محاولة إخراجها من لعبة الطرق الجيواستراتيجيّة، ومن ملفّ الطاقة، وبالتالي اليوم هي تحاول استعادةَ التوازن.
  • الصين تحاول من قِبلها قلبَ الطاولة على محاولات تجاوز إيران، وقطع الطرق في وسط آسيا، ومحاولات تجاوز طريق الحرير، وحصار طرقها اللوجستيَّة والاستراتيجيّة.
  • إلى جانب ذلك، فإنَّ لدى روسيا حساباتٍ لتصفيتها مع أوروبا في ملفّ الطاقة في المتوسط، إلى جانب حساباتها الخاصة مع الغرب- أمريكا وأوروبا- بفتح جبهات استنزاف بعيدًا عن أوكرانيا وسوريا بأقلّ تكلفة.
  • من ناحية أخرى، لدينا محاولات الدول النامية الخروجَ من المأزِق، والتعامل مع قضيّة التنمية لاستيعاب الاحتياجات الداخلية المُتنامية والتي باتت تمثلُ قنابل موقوتةً يمكن أن تحوّلها إلى دول فاشلة، ما سيجعلها تتجه إلى قلب الطاولة على الجميع، وتهديد سلاسل الإمداد العالمي التقليديَّة بما يعني قلب كلّ شيء.

هناك دولٌ كثيرةٌ، وخطط عديدة للتنمية العالمية تتضرّر بشدة من تصاعد الأمْنَنَة في النظام الدولي، بدلًا من اتجاهات البحث عن المصالح الاقتصاديّة والتركيز على التنمية العالمية. النظام النقديّ العالمي اليوم يواجه تحديًا حقيقيًا في قدرته على الوفاء بحلول لهاتَين المعضلتَين: الأمن، والتنمية، وتمويل برامج خاصَّة بها.

في مواجهة ذلك، هناك اتجاهٌ يرى أنَّه على الجميع اليوم أن يحكّم العقل، ويفكّر في الأمور بمنطق المصلحة العالميّة؛ خاصةً أنَّ أمامنا تحدياتٍ عالميةً لا يمكن مواجهتُها بشكل منفرد أو عبر التنافس مثل تغيّر المناخ، واحتياجات تمويل التنمية العالميّة. في ظلّ هذا التوجه يمكن أن تنشأ قوى وأطراف دولية ترى أنَّه لابدَّ من إجبار إسرائيل على الخضوع أو الوصول إلى تسويات وحلول وسط، وإلا ستكون أميركا والنظام العالمي وليس الدولي، هو الثمن الذي سيدفعه الجميع.

إنَّ اتجاهات إسرائيل اليوم تحرم إيران من الاندماج في المجتمع الدوليّ بعرقلة أي انفتاح على إيران، وتمنع المِنطقة من الاندماج والتكامل الداخلي، وبالتالي خلق فرص للنمو والاستقرار بدلًا من كونها -أي المنطقة- عاملًا لعدم الاستقرار العالميّ، بما يمنع المنطقة من الاندماج العالمي، وأداء دورها بسلاسة ويُسر ضمن المنظومة العالميَّة.

أمَّا عن كيفية النظر حول احتمالية التدخل الأميركي، فإنه من المهم مقاربة الموقف الأميركي-الإسرائيلي اليوم من خلال النظر في إمكان الأولى خلق خيارات لترتيب الملفات الأساسية للشرق الأوسط من خلال هذا التدخل، وتحقيق التفوّق لصالحها على حساب الآخرين، (بالأخصّ في ظلّ الوضع في سوريا والعراق والتخوف من تمدد هذا الوضع إلى سواحل المتوسط سواء من خلال إيران أو روسيا كأطراف باحثة عن تغيير معادلة الطاقة واللوجستيات)، وفي ظلّ وضع متوتّر في داخل إفريقيا؛ كما برز في الانقلابات العسكرية الأخيرة.

إلى جانب أمرٍ آخر، وهو أنَّ أي ضربة في حقول النفط، أو أي مسٍّ بهذا الملف سيكون أمرًا خطيرًا جدًا؛ لأنَّ أسعار النفط سترتفع، وهو ما سيكون له تأثير سلبي كبير للغاية على الاقتصاد العالمي ككل، وأميركا وأوروبا خاصةً، وبالتالي فإننا نرى أنّ قدرة أميركا على التدخل والانخراط الموسع في الشرق الأوسط ضعيفة بشكل كبير.

إنّ ما يحدث اليوم يتطلب من إسرائيل البدْء في عملية ترتيب موسّعة، من الصعب أن تكون الأمور ميسّرة، حيث تحتاج إسرائيل لإعادة بناء منظومتِها الأمنية في أبعادها الثلاثة: (الأمن الداخلي، واستعادة الثقة في النظام والمنظومة وإنهاء الخلافات السياسية، وإعادة تنظيم المناطق الفلسطينية)، إلى جهودٍ كبيرة للغاية، نعتقد أنَّها ليست في قدرة إسرائيل اليوم. إعادة بناء منظومة الأمن الإسرائيلي اليوم هي عمليَّة طويلة الأمد قد تأخذُ على الأقل من سنة إلى 5 سنوات؛ لأن على إسرائيل أن تفهم بشكل أدقّ التحولات في المنطقة حولها، حيث لم تعد المنطقة بسهولة تقبلُ بفرض إسرائيل وأميركا خياراتهما وأولوياتهما، في مقابل الأولويات المحلية التي لم تعد تمتلك فائضَ جهد أو قدرات للتعامل مع كل ذلك.

دول المِنطقة باتت ترى في التكامل الإقليمي من مداخل اقتصادية- أساسًا- خيارًا أساسيًا، وتحاول لمْلمة ما يمكن لملمتُه لتجاوز الانهيار التام. لا أملَ لأي دولة في المنطقة الآن للنجاة من خلال عمل منفرد رغم كل الخلافات القائمة.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ استيعاب تكلفة الأمن الرخيص بالاعتماد على أميركا اليوم لم تعد خيارًا أساسيًا؛ لأنّ أميركا الآن باتت تبحث عمن يضيف إلى قوتها لا أن يستنزفها أكثر. مشكلات من هذا النوع قد تؤدي للتساؤُل عن حدود قوتها في توفير الأمن لشركائِها؛ فهناك حدود لقدرتها على تجديد قدراتها وتعويض هذه المدفوعات والخدمات من خلال النظام الدولي القائم الذي بات المنافسون الصاعدون فيه أكثر خَنقًا له.

رابعًا: حدود التفوق التكنولوجي الإسرائيلي

ألقت عملية "طوفان الأقصى" بظلال كثيفة على هذا التفوق. استطاع المقاومون بإمكانات بسيطة أن يعطبوا هذه القدرات. فوجئت إسرائيل بهجوم منخفض التقنية إذا ما قُورن بما راكمته من تقنيات متقدمة. تقول "وول ستريت جورنال" في تقرير بثته يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري: "أمضت إسرائيل 3 سنوات في بناء حاجزٍ أمني متطوّر وعالي التقنية بطول 40 ميلًا على طول قطاع غزة، مزوّدٍ برادار وأجهزة استشعار مُصمّمة لكشف التوغلات الخفية التي يقوم بها الفلسطينيون العازمون على تنفيذ هجمات سرّية في إسرائيل". تضيف: "يوم السبت، استخدمت حماس الجرافات ووسائل بدائية أخرى لاقتحام السياج الذي يبلغ ارتفاعه 20 قدمًا، وأدخلت الرجال عبر الفجوات في شاحنات صغيرة وعلى الأقدام…".

الخلاصة:

تتوقّف كل هذه الاحتمالات على عددٍ من العوامل:

  • قدرة الفلسطينيينَ على الصمود في غزة، ومواجهة اجتياح بَري.
  • في ذات الوقت توسيع دائرة الحرب سواء في داخل إسرائيل أو عبر مسارات جديدة.

نحن نعتقد كباحثين أن هذا يمكن أن يكون التحول الكبير الثاني في مسار الأحداث بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ لأنه قد يجبر الاتجاهات المتشددة في إسرائيل على التراجع كنتيجة للصمود؛ فبعدها يمكن أن يتحول الصمود الفلسطيني على الأرض وعدم انهيار الجبهة الداخلية الفلسطينية، مع استمرار العمليات في العمق الإسرائيلي وعدم التراجع، إلى انهيار في الجبهة الإسرائيلية، وتبدأ عملية تفكّك واسع فيها على أساس أنَّ هذه الاتجاهات المتشددة هي التي أوصلت إسرائيل إلى هذا الوضع، وأنها غير قادره على إخراجها منه. وبالتالي البدء في أولى خطوات الحل وهي الاعتراف بالفلسطينيين كند، وخيار السلام كحلّ.

من ناحية أخرى، فإنَ موقف المجتمع الدولي والقوى في المنطقة من خيارات إسرائيل: خيار الحسم أو التمسك بحلّ الدولتين أو قبول فرض إسرائيل رؤيتَها، قد يمثل تحديًا كبيرًا لفرص الاستقرار في الشرق الأوسط وما حوله، وإعادة الأمور لما كانت عليه وبقاء القضايا معلقة؛ هذه المواقف محدد مهم. لدى العرب فرصة اليوم لتوظيف الحدث لصالح رؤية حلّ الدولتَين، كحل يمكن من خلاله إنقاذ المنطقة من الدخول في دُوّامة صراع يهدد محاولات المنطقة تجنُّبَ الانهيار والبحث عن طريق للتعافي من خلال مسارات التعامل الإقليمي الذي سيصبح صعبًا أو يصعب ضمان استمراريته في حالة فرض إسرائيل رؤيتَها التي ستتحوّل إلى عبء كبير على دول المنطقة.

دول المنطقة باتت تعرفُ مصلحتَها الوطنية بشكل أكبر من الماضي، وهي حريصة اليوم على عدم الرجوع إلى الوراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.