بين "طوفان الأقصى" و"السيوف الحديدية".. قراءة معرفية

مقاتلو كتائب القسام يحتفلون على أنقاض دبابة إسرائيلية (وكالة الأناضول)

إذا كانت انتفاضة القدس 2021 استدعاء متجددا للأبعاد المعرفية/القيمية للصراع -كما كتبت سابقًا على بوابة الجزيرة نت– فإن "طوفان الأقصى" تأكيد لهذه الأبعاد وزيادة. وهي في تجددها وتأكيدها المستمر تستند إلى عناصر أربعة:

أولا: التسمية

نعتت المقاومة معركتها بلفظ الطوفان وهو لغة: ما كان كثيرًا أو عظيمًا من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره. وعادة ما يطلق على: فيضان عظيم، سيل مغرق، ماء غالب يغشى كل شيء.

وطوف حول المكان/طوف بالمكان: طاف به وأكثر المشي حوله. المكان هنا هو الأقصى – ثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. و(باركنا حوله) وفيه عند المسلمين؛ هو رمز للصراع الذي يدور حول البشر والمكان/الأرض والقيم والتاريخ والحاضر والمستقبل…

في مواجهة هذا الاستدعاء للرموز والقيم وطبيعة الصراع نجد "السيوف الحديدية" تجسيدًا للغطرسة، وتعبيرًا عن القوة الصلبة في معناها الذي ينتمي للعصور الوسطى المنفلت من ما وصلت إليه الإنسانية من قواعد قانون دولي إنساني يحكم الحروب.

التسميات تحمل دلالات عديدة لنا ولهم: المقاومون ملؤوا الأرض كالطوفان، في حين الكيان الصهيوني في موقف غطرسة القوة التي تهشمت، لكنها قوة منفلتة؛ بلا شرعية قانونية أو أخلاقية.

يمتد هذا التباين أيضًا إلى أهداف العملية، فبينما كانت أهداف المقاومة إنسانية (إطلاق الأسرى)، ورمزية (حماية المقدسات)، سياسية (مجابهة الانتهاكات في حق الفلسطينيين في الضفة والقدس)، ومعرفية (مواجهة تصفية القضية بالاقتصاد)؛ كانت أهداف إسرائيل عسكرية لا إنسانية جوهرها استعادة "الردع" الذي ثبت فشله.

العقيدة القتالية في "السيوف الحديدية" تقوم على القوة المطلقة التي يمكن أن تردع الخصوم. هذه القوة تحوّلت إلى غطرسة لا يتعين معها معالجة المشاكل طويلة الأمد. تعني الغطرسة كما أشار جدعون ليفي -الكاتب الإسرائيلي: "فكرنا أنه مسموح لنا أن نفعل أي شيء، وأننا لن ندفع ثمنًا، ولن نعاقب على ذلك أبدًا".

لقد انتهكت إسرائيل جميع أحكام القانون الدولي بطريقة منسقة ومتعمدة لأكثر من نصف قرن. وقد ساعدتها بشكل نشط ومستمر في القيام بذلك الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وغيرها من الديمقراطيات الصناعية، تحت غطاء "عملية سلام" زائفة من المفترض أنها تعمل على تحقيق "حل الدولتين".

ثانيًا: التوقيت

فبعد 50 عامًا من حرب أكتوبر -العاشر من رمضان- تعيد المقاومة إحياء الذكرى بطريقتها الخاصة، وتذكرنا باستمرار الصراع وليس إعلان نهايته -كما كانت ترغب إسرائيل والولايات المتحدة وبعض نخب الحكم العربية.

أظهرت حماس -بعد مرور 50 عامًا- أنها قادرة على فعل الشيء نفسه، ويعد ذلك بمثابة دفعة كبيرة لمكانتها في العالم العربي، وتموضع لها بين الدول والزعماء الذين نجحوا في تحقيق هذا النصر من 50 عامًا.

يقارن مارتن إنديك -الدبلوماسي الأميركي المخضرم في حوار له مع مجلة فورين أفيرز بين حرب أكتوبر وبين طوفان الأقصى قائلا: "لقد كانت الغطرسة هي التي دفعت الإسرائيليين إلى الاعتقاد، في عام 1973، بأنهم لا يهزمون، وأنهم القوة العظمى في الشرق الأوسط، وأنهم لم يعودوا بحاجة إلى الاهتمام بالمخاوف المصرية والسورية لأنهما لم يكونا قويين للغاية".

ويتابع أن "الغطرسة نفسها تجلت مرة أخرى في السنوات الأخيرة، حتى عندما أخبر العديد من الناس الإسرائيليين أن الوضع مع الفلسطينيين غير قابل للاستمرار. ظنوا أن المشكلة كانت تحت السيطرة. ولكن الآن تم نسف كل افتراضاتهم، تمامًا كما حدث في عام 1973، وسيتعين عليهم أن يتصالحوا مع ذلك".

هذه الحرب تعتبر كارثة أسوأ لإسرائيل من هجوم يوم "الغفران" المفاجئ من مصر وسوريا، لأنها تتضمن إذلالًا محضًا للجيش الإسرائيلي -على حد قول أحد المحللين الإسرائيليين الذي يضيف: "في عام 1973، تعرضنا لهجوم من قبل أكبر جيش عربي، مصر"، لكن هذه المرة: "تم غزو إسرائيل في 22 موقعًا خارج قطاع غزة، بما في ذلك مجتمعات تصل إلى 15 ميلاً داخل إسرائيل، من قبل قوة عسكرية تابعة لـ"ما يعادل [دوقية] لوكسمبورغ".

ومع ذلك، كما يتابع، "فإن هذه القوة الصغيرة لم تغز إسرائيل، وتغلبت على قوات الحدود الإسرائيلية فحسب؛ بل أعادت رهائن إسرائيليين إلى غزة عبر نفس الحدود – وهي الحدود التي أنفقت عليها إسرائيل ما يقرب من مليار دولار لإقامة جدار كان من المفترض أن يكون غير قابل للاختراق فعليًا، وهذه ضربة صادمة لقدرات الردع الإسرائيلية".

ثالثًا: لا يمكن استبدال الاقتصاد بالكرامة الإنسانية

كان الخط المعياري لكل من السياسيين الإسرائيليين مثل بنيامين نتنياهو والساسة الأميركيين مثل جاريد كوشنر (مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط) ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، هو أن المواطنة الفلسطينية في الدولة ليست ضرورية لتسوية سلمية؛ بدلاً من ذلك، يمكن لإسرائيل عقد صفقات دبلوماسية مع البحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب والسودان، وربما الآن مع المملكة العربية السعودية، ويمكن لدول الشرق الأوسط الأكثر ثراءً أن تتبادل التكنولوجيا مع إسرائيل، وتقيم مشاريع ناشئة مشتركة، وتنخرط في التجارة، مما يعطي دفعة للاقتصاد الإسرائيلي يمكن أن تتدفق إلى الفلسطينيين. ومع ارتفاع الدخول والرفاهية الاقتصادية، فإن الفلسطينيين سيكتفون بالتخلي عن حقوقهم في إقامة دولة، وسيذعنون للحكم العسكري الإسرائيلي (في الضفة الغربية) أو الحصار الإسرائيلي (في قطاع غزة).

قامت اتفاقيات التطبيع (أبراهام) التي لا تزال تعمل على أسس: الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وإمكانية السلام مع العرب دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، فالاتفاقيات تجعل فرصة تحقيق سلام عادل ومنصف ومستدام شبه مستحيلة، لكنها في الوقت نفسه نزعت ورقة التطبيع من الفلسطينيين كورقة مساومة ضد إسرائيل، وطرحت مفهوما جديدا للسلام في المنطقة يقوم على صيغة الاقتصاد والأمن، أي صيغة مادية صرفة تستند إلى غريزتي الجوع والخوف.

أعادت "طوفان الأقصى 2023" للواجهة -كما كانت سيف القدس في 2021- مسألة القدس وفي قلبها المسجد الأقصى للواجهة باعتبارها أحد أهم مكونات الصراع، وأسقطت الفلسفة التي قامت عليها اتفاقيات "أبراهام"، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بالضفة والقطاع في مواجهة الاحتلال، وأبرزت قضية الأسرى ببعدها الإنساني والحقوقي، وأكدت ضرورة معالجة حصار غزة أو ذلك السجن الكبير الذي يحوي أكثر من مليوني إنسان.

قرر الفلسطينيون في غزة أنهم على استعداد لدفع أي شيء مقابل الحصول على ولو لحظة من الحرية -كما أشار أحد الصحفيين الفلسطينيين الذي تجول في المستوطنات القابعة في غلاف غزة.

ينحدر حوالي 75% من العائلات في غزة من لاجئين طردوا مما يعرف الآن بجنوب إسرائيل، ومن ما يعرف الآن ببئر السبع وسديروت وأماكن أخرى إما لم تعد موجودة أو أعيد تسميتها مع الاستعمار الاستيطاني الاستبدالي. لم ينس هؤلاء من أين أتوا، ويمكن للكثيرين العودة إلى منازلهم في أقل من يوم واحد -إذا سمح لهم باستعادة تراثهم.

إن الخطاب حول جعل الفلسطينيين ينسون كل شيء عن كونهم فلسطينيين من خلال إغرائهم باقتصاد جيد كان دائمًا عبارة عن خطاب فارغ، ولم يكن الأمر أكثر من مجرد ستار من الدخان لمشاريع مفترسة لاستعمار الأراضي الفلسطينية والاستيلاء عليها أو تحويل غزة إلى سجن في الهواء الطلق. لقد كانت طريقة، مثل الحديث الأميركي الفارغ والساخر عن "حل الدولتين"، لتأجيل المشكلة إلى الأمام -كما أشار أحد الكتاب.

فوجئت إسرائيل بهجوم منخفض التقنية إذا ما قورن بما راكمته من تقنيات متقدمة. تقول وول ستريت جورنال في تقرير بثته يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري: "أمضت إسرائيل 3 سنوات في بناء حاجز أمني متطور وعالي التقنية بطول 40 ميلاً على طول قطاع غزة، مزود برادار وأجهزة استشعار مصممة لكشف التوغلات الخفية التي يقوم بها الفلسطينيون العازمون على تنفيذ هجمات سرية في إسرائيل". تضيف: "يوم السبت، استخدمت حماس الجرافات ووسائل بدائية أخرى لاقتحام السياج الذي يبلغ ارتفاعه 20 قدمًا، وأدخلت الرجال عبر الفجوات في شاحنات صغيرة وعلى الأقدام…".

سمحت اتفاقيات التطبيع لبعض مليارديرات النفط العرب ومليارديرات التكنولوجيا في إسرائيل بإبرام بعض الصفقات، لكنها كانت على حساب البشر العاديين على كل جانب. إن الازدهار الاقتصادي الذي حلم به كوشنر ونتنياهو بمجرد زواج تل أبيب بدبي لم يحدث.

رابعًا: بين 11 سبتمبر و7 أكتوبر

من اليوم الأول ربط السياسيون الإسرائيليون والغربيون، وكذا تغطية الإعلام الغربي بين معركة أكتوبر 2023 وبين أحداث سبتمبر 2001 على الرغم من إعلان الولايات المتحدة بعد انسحابها المهين من أفغانستان 2021 انتهاء الحرب على الإرهاب التي استمرت لعقدين.

أوجه الشبه عديدة -كما أدركها هؤلاء وأولئك- أهمها: المفاجأة، مجموعة صغيرة قادرة على إحداث زلزال مدوٍ أو طوفان، الوصم بالإرهاب الذي لا يميز بين الحق المشروع في مقاومة المحتل -كما نص عليه القانون الدولي- وبين الاعتداء غير المشروع، بالإضافة إلى قتل المدنيين -دون تساؤل عن تعريف المقصود بالمدني في الكيان الصهيوني.

كانت الحرب على الإرهاب التي أطلقها بوش الابن 2001 تحالفًا بين المعتدلين على كل جانب -أو هكذا تم تصميمها- لحصار الإرهاب، لكن في هذه اللحظة فإن اليمين الصهيوني في قلبها إن لم يكن المتسبب فيها. يتحدث المتطرفون الإسرائيليون علنًا عن الاستيلاء على الأقصى، وعن ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة التي استولت عليها إسرائيل في عام 1967 بشكل غير قانوني، وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة، مع الإشارة ضمنًا إلى أن الفلسطينيين سيُطردون بطريقة أو بأخرى.

إن تكاليف حروب ما بعد 11 سبتمبر كانت مذهلة، فقد لقي أكثر من 7 آلاف جندي أميركي حتفهم في أفغانستان والعراق، وأصيب أكثر من 50 ألفا في القتال، كما تخلف عنها أكثر من 30 ألفا من قدامى المحاربين الأميركيين، وفقد مئات الآلاف من الأفغان والعراقيين أرواحهم، وتشرّد 37 مليون شخص -وفقًا لتقديرات مشروع تكاليف الحرب بجامعة براون الأميركية.

وفي الوقت نفسه، فإن ثمن تلك الحروب ورعاية أولئك الذين حاربوا يقترب من 7 تريليونات دولار. كانت ساحتها الأساسية العالم الإسلامي أو "الشرق الأوسط الكبير"، واستخدمت فيها القوة العسكرية بكثافة. كما تم دعم الاستبداد برغم الادعاء بنشر الديمقراطية عن طريق تغيير الأنظمة بالقوة… إلخ

كيف يمكن أن يبدو العالم إذا نشأ تحالف بين اليمين المتطرف العابر للأديان والثقافات؟ وأقصد به اليمين الأوروبي مع ترامب الذي يمكن أن يعود لسدة الحكم في أميركا في انتخابات العام المقبل مع اليمين الصهيوني، ويمكن أن يضاف إليهم القومية الهندوسية المتطرفة -كما يمثلها مودي- رئيس وزراء الهند.

وأين سيكون موقع بعض الحكام العرب في هذا التحالف -خاصة إذا أعلوا من عدائهم مع كل من إيران ووكلائها في المنطقة وحركات الإسلام السياسي التي تمثلها حماس في هذه المعركة -خاصة أنهم يتخوفون من إمكانية أن تكون القضية الفلسطينية أحد المداخل الأساسية لاستعادة الإسلاميين لموقعهم في المشهد السياسي العربي؟

وأخيرًا وليس آخرًا؛ ما موقع كل هذا من التنافس الصيني الأميركي، وكيف يمكن أن يؤثر في التوازن العالمي؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.