الشراكة الروسية الصينية لا تبدو "بلا حدود"

لقاء سابق بين الرئيسين الصيني شي جين بينغ (يمين) والروسي فلاديمير بوتين في بكين (رويترز)

كانت القمة التي جمعت الرئيسين الروسي والصيني في سمرقند على هامش قمة منظمة شنغهاي -التي عقدت في أوزبكستان- أول لقاء شخصي بين الزعيمين منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا. لذلك، اكتسبت أهمية بالغة لتحديد إذا ما كانت الشراكة الروسية الصينية، التي وصفها بوتين وشي قبل أسابيع قليل من الحرب، بأنها "بلا حدود" هي فعلا كذلك.

أثبت الموقف الصيني من الصراع حتى الآن أن هذه الشراكة ليست بلا حدود. على الرغم من أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين تعمقت بشكل ملحوظ في فترة ما بعد الحرب، فإنها لم تصل إلى المستوى الذي يدفع بكين إلى التخلي عن حذرها من مخاطر خرق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.

لقد ساعدت الواردات الصينية روسيا بشكل كبير في سد الفجوة التي خلفتها العلامات التجارية الغربية. كما زادت نسبة الصادرات الصينية إلى روسيا من الرقائق الدقيقة والمكونات الإلكترونية الأخرى والمواد الخام. في المقابل، حولت روسيا معظم صادراتها من النفط إلى الصين والهند، بدلا من أوروبا، كما يخطط البنك المركزي الروسي الآن لاعتماد اليوان الصيني عملة رئيسية في الاحتياطات الأجنبية لديه، بدلا من الدولار واليورو.

استطاعت الصين وضع مقاربة رابحة لموقفها إزاء الصراع الروسي الغربي؛ إذا فازت روسيا في هذه المواجهة، فإن ذلك سيقوي موقف الصين في المنافسة السياسية والاقتصادية مع الغرب، كما أن ضعف روسيا سيجعل بوتين أكثر اعتمادا على بكين وأكثر تبعية لها في القضايا الخارجية.

مع ذلك، لا تزال الصين حريصة على رسم حدود لهذه العلاقة بشكل يجنبها الانخراط في صراع بوتين مع الغرب. حقيقة أن قمة سمرقند جاءت في ظل الانتكاسات العسكرية الكبيرة التي منيت بها موسكو شرقي أوكرانيا مؤخرا تجعل من الصعب الاعتقاد أن الصين ستغامر بالتخلي عن نهجها الحذر في الصراع الروسي الغربي. لكنها قد تجد في ضعف الموقف الروسي فرصة للحصول على المزيد من المزايا في العلاقة الاقتصادية مع روسيا. يظهر ذلك بوضوح من خلال إقرار بوتين بأن الصين ستولي في نهاية المطاف أهمية لمصالحها الخاصة على أي شيء آخر. ولا يملك بوتين في الواقع رفاهية الحصول على شروط تنافسية أفضل في العلاقة الاقتصادية مع بكين، في حين أصبح استقرار الاقتصاد الروسي بعد العقوبات مرهونا بالدعم الصيني.

علاوة على ذلك، لا تبدو بكين مستعدة لتزويد موسكو ببعض المنتجات عالية التقنية، مثل أشباه المواصلات المتقدمة، حرصا على تجنب خرق العقوبات الغربية؛ إذ إن العلاقات التجارية بين البلدين بعد الحرب وُضعت تحت المجهر الغربي بالفعل، ففي يونيو/حزيران الماضي، أضافت وزارة التجارية الأميركية 5 شركات إلكترونيات صينية إلى القائمة السوداء التجارية بزعم أنها تساعد صناعة الدفاع الروسية.

وعلى المستوى السياسي، لا تزال بكين تتجنب إبداء دعم علني لحرب بوتين في أوكرانيا. لقد أيدت بالفعل المظالم الروسية تجاه تمدد حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO)، لكنها كانت واضحة في تأكيد دعم سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. وفر الدعم الصيني الجزئي والحذر لبوتين فرصة لبكين للحصول على مزيد من المزايا الاقتصادية في علاقاتها مع موسكو مع الحفاظ على مساحة تتيح لها تجنب تداعيات أي هزيمة روسية في الحرب.

في الواقع، استطاعت الصين وضع مقاربة رابحة لموقفها إزاء الصراع الروسي الغربي؛ إذا فازت روسيا في هذه المواجهة، فإن ذلك سيقوي موقف الصين في المنافسة السياسية والاقتصادية مع الغرب، كما أن ضعف روسيا سيجعل بوتين أكثر اعتمادا على بكين وأكثر تبعية لها في القضايا الخارجية.

رغم الاعتقاد الغربي أن الحاجة الروسية للصين ستمنح بكين اليد العليا في علاقة غير متكافئة، فإن البلدين يجمعهما هدف مشترك كبير، وهو إذلال الغرب وإضعاف هيمنته العالمية. ومن المرجح أن يبقى هذا الهدف متفوقا في إدارة العلاقات التنافسية بين موسكو وبكين في المستقبل المنظور على الاعتبارات التنافسية الأخرى.

الاهتمام الصيني بمسار الحرب الروسية الأوكرانية لا ينبع من القلق من هزيمة حليف وثيق كروسيا فحسب، بل يرجع إلى أن نتائج المواجهة الروسية الغربية ستختبر قوة الغرب في مقاومة مساعي موسكو وبكين لإعادة تشكيل النظام العالمي على قواعد جديدة قائمة على التعددية القطبية، بدلا من الهيمنة الغربية.

وعلى اعتبار أن التنافس الصيني الأميركي يرتكز بشكل رئيسي على الاقتصاد، فإن المواجهة الاقتصادية بين روسيا والغرب تنعكس بشكل مباشر على هذا التنافس. يفسر ذلك كيف أن بكين حريصة على إبقاء الاقتصاد الروسي واقفا على قدميه في وجه سلاح العقوبات الغربي؛ لأن هذا السلاح إن نجح في إخضاع بوتين، فإنه سيعطي مؤشرا على قدرة الغرب في استخدام قوته الاقتصادية لإخضاع بكين في المستقبل. من ناحية أخرى، فشل أو نجاح روسيا في حسم الحرب لصالحها سيعطي أيضا مؤشرا على مدى قدرة بكين في استنساخ تجربة بوتين لإعادة ضم تايوان إليها بالقوة؛ إذ إن أحد الدوافع الرئيسية للانخراط الأميركي المتزايد في إفشال الحرب الروسية على أوكرانيا هو ردع الصين عن التفكير مستقبلا في استخدام القوة لتغيير وضعية تايوان في لعبة التنافس مع بكين.

على عكس فترة الحرب الباردة التي استطاع فيها الغرب إبقاء الصين على الحياد في المعركة مع الاتحاد السوفياتي، فإن الميول الصينية المتزايدة للتحول إلى قوة عالمية منافسة للولايات المتحدة، فضلا عن شعور بكين بأن واشنطن تخلت عن نهج "الصين الواحدة" وتعمل على تعزيز النزعة الانفصالية لتايوان، يجعلان من الصعب على الغرب إبطاء الانجراف الصيني نحو تعميق الشراكة مع روسيا. في حين أن روسيا تجد في الدعم الاقتصادي الصيني لها وسيلة مهمة لتجنب الانهيار الاقتصادي، فإن حاجتها إلى الاستفادة بقدر أكبر من هذه العلاقات لدعم آلتها الحربية يضغط على نهج بكين الحذر. تدفع روسيا نفسها أكثر نحو الحضن الصيني، بينما ترى بكين فرصة للحصول على امتيازات جديدة في التجارة مع موسكو، خاصة في مجال الطاقة. مع ذلك، فإن العوامل الخارجية لها تأثير اقتصادي كبير على الصين وتتسبب في المزيد من الصداع لسمعة بكين في علاقاتها مع الغرب. إن التوفيق بين المكاسب والخسائر يتطلب موازنة دقيقة في المصالح، وهذا ما تسعى الصين للقيام به وقد نجحت في ذلك حتى اليوم.

عجز روسيا المستمر عن تحقيق نصر عسكري حاسم في أوكرانيا يقلق الصينيين بالقدر نفسه الذي يقلق بوتين؛ لأنه يضعف موسكو إلى الحد الذي قد يشكل تهديدا وجوديا لحكم صديق وثيق للرئيس الصيني شي، يشاركه في النظرة العدائية تجاه الغرب. إن إطالة أمد الحرب لفترة أطول تقلص من فرص تطوير العلاقة الصينية الروسية إلى "شراكة بلا حدود". وهناك تحد آخر يواجه هذه العلاقة يتمثل في التأثير المتزايد لحرب روسيا في أوكرانيا على آسيا الوسطى، حيث تتنافس موسكو وبكين على كسب النفوذ في هذه المنطقة. وكانت زيارة الرئيس الصيني لكازاخستان -أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى- قبل لقاء بوتين، وتأكيده دعمها ضد أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية، مؤشرا على رغبة بكين في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع  نور سلطان بشكل أوثق، وبالتالي تعزيز نفوذها في الفناء الخلفي لروسيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.