نظرات وعبرات | حل الدولتين والحصاد السياسي المرّ

مسنة فلسطينية مشاركة في مخيمات العودة ترفع علم فلسطين
(الجزيرة)

لم يبق أمام القيادة الفلسطينية الكثير لتستنفذ المزيد من الوقت دون جدوى، تارة تتلقى المصائب المتساقطة على رأسها دون أن تملك حراكا، وتارة تراقب الأحداث من حولها إقليميا ودوليا، فيرتفع صراخها وعويلها، ثم تبدأ تندب حظها العاثر، وتخلي الإخوة والأصدقاء عنها. لم يبق أمام القيادة الكثير لتفقده بعد خساراتها المتلاحقة السياسية والاقتصادية والجغرافية والأمنية والعسكرية، لم يبق أمامها سوى شعبها العظيم الذي ما زال صامدا، لم يهلكه السم الزعاف الذي يتجرعه صباح مساء، ولم تهدّه النوائب العظام التي مرت عليه، ولا الحصاد المرّ الذي ما زال يحصده بكل صبر واحتساب.

تناولنا في المقال السابق مسارين اثنين من 5 مسارات توزع عليها الحصاد المرّ الذي جناه الشعب الفلسطيني على مدى 100 عام -وما زال يجنيه- وهما المسار العسكري والمسار الاقتصادي والاجتماعي، ونتابع في هذا المقال أبرز ما جناه الشعب الفلسطيني من الحصاد المرّ في المسارين السياسي العربي والسياسي الفلسطيني، وفي مسار العذابات المهمّشة.

الحصاد السياسي

أولا: حصاد هشاشة النظام العربي

نشأت القضية الفلسطينية في ظل نظام عربي شديد الانهيار والاضطراب، تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، حيث خضع بالكامل للاستعمار الغربي حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي في بعض الدول، وظلت الكيانات العربية الجديدة الناشئة رهينة للدول الاستعمارية التي أنشأتها واستعمرتها، أو رهينة للدول التي ارتبطت بها بعد التحرر من الاستعمار، وساعدتها على تحقيق استقرارها وتنميتها وتوفير الحماية اللازمة لها، وعندما ننظر اليوم إلى تلك الحقبة، نجد أنه كان من الصعب جدا الاعتماد على الكيانات العربية الناشئة الهشة في تحرير فلسطين والقضاء على دولة الاحتلال الصهيوني، وقد انعكس ذلك بشكل واضح على طريقة التعامل العربي مع القضية الفلسطينية في جوانب عديدة، من أبرزها ما يأتي:

  1. غياب الموقف العربي الجاد الموحد القادر على فرض رؤيته وشروطه على الكيان الصهيوني.
  2.  ضعف القدرات العسكرية للدول العربية في ظل التفوق العسكري النوعي للكيان الصهيوني، وبالتالي عدم جدية الموقف العربي في التلويح بالحل العسكري للقضاء على دولة الكيان الصهيوني، قبل نكسة يونيو/حزيران 1967 وبعدها.
  3. عجز الموقف العربي عن تشكيل أي ضغط دولي مؤثر في حسم القضية لصالح الفلسطينيين، وعجزه عن إجبار المجتمع الدولي على إلزام الكيان الصهيوني تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
  4. منذ أكثر من 100 عام وإلى الآن، والوضع العربي لم يستطع الانتقال من دائرة الهزيمة إلى النصر، ولا من التفرق إلى الوحدة، ولا من الضعف إلى القوة، ولا من الهدم إلى البناء، ولا من الانهيار إلى التماسك، ولا من التبعية إلى الاستقلال؛ بل يزداد هزيمة وتفرقا وضعفا وهدما وانهيارا وتبعية يوما بعد يوم، ومن العبث الاستمرار في التعويل على هذا الوضع للتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
  5. انكفاء الدول العربية على نفسها، وانشغال دول الطوق باستعادة أراضيها بغض النظر عن أثر ذلك على القضية الفلسطينية.
  6. ارتهان الموقف العربي لحل الدولتين، رغم استحالة تحقيقه في ضوء المسار الدولي للقضية الفلسطينية.
  7. فشل الموقف العربي في إدارة المقاومة الفلسطينية وتوفيق أوضاعها لوجستيا وعسكريا وتنظيميا وماليا، ما أدى إلى اصطدامها المسلح مع الدولة الأردنية ثم الدولة اللبنانية والدولة السورية، وإلى تنقلها بين المحاور العربية، ما أدخلها في الكثير من الخصومات والعداوات التي دفعت ثمنها غاليا ومعها الشعب الفلسطيني.
  8. استغلال القضية الفلسطينية لتحقيق أهداف داخلية أو إقليمية أو دولية، سياسية أو اقتصادية، وكورقة ضغط مع القوى الدولية من جهة، ومع الكيان الصهيوني من جهة أخرى.
  9. تشتت الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، بعد انفراد مصر بإبرام اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع الكيان الصهيوني، والتي أدت إلى انهيار قرارات قمة الخرطوم لعام 1967 (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف)، كما أدى إلى تقاطر العديد من الدول العربية لإقامة علاقات سرية مع الكيان الصهيوني، وخاصة في المجالات الأمنية والاقتصادية.
  10. احتلال العراق للكويت، وما أحدثه من تمزيق للصف العربي، ازداد مع حرب تحرير الكويت، التي أعقبها مباشرة مؤتمر مدريد للسلام العربي-الإسرائيلي عام 1991، وما تمخض عنه من مشاريع سياسية وأمنية واقتصادية لبناء الشرق الأوسط الجديد، وكل ذلك كان لصالح الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
  11.  فشل جميع المبادرات العربية للسلام الشامل مع الكيان الصهيوني؛ بسبب عدم جدية الولايات المتحدة والموقف الغربي في الضغط على الكيان الصهيوني، وإجباره على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية.
  12. "الفوضى الخلاقة" التي اجتاحت المنطقة العربية تحت مسمى "الربيع العربي"، والصراعات الداخلية المسلحة التي خلفتها في العديد من الدول العربية، شغلت السياسة العربية والإقليمية والشارع العربي والإعلام والنخب والمفكرين بعيدا جدا عن فلسطين والشعب الفلسطيني وقضيته، وفتحت المجال واسعا أمام الكيان الصهيوني ليزيد من اختراقه لدول المنطقة.هذا الوضع العربي منذ أكثر من 100 عام وإلى الآن، لم ينتقل من دائرة الهزيمة إلى النصر، ولا من التفرق إلى الوحدة، ولا من الضعف إلى القوة، ولا من الهدم إلى البناء، ولا من الانهيار إلى التماسك، ولا من التبعية إلى الاستقلال؛ بل يزداد هزيمة وتفرقا وضعفا وهدما وانهيارا وتبعية يوما بعد يوم، وهو غير قادر مطلقا، على التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، ومن العبث الاستمرار في التعويل على الموقف العربي أكثر من ذلك.

    ثانيا: حصاد اضطراب القيادة الفلسطينية

أثرت الظروف العربية والدولية كثيرا على مسار القضية الفلسطينية، وعلى أداء القيادة الفلسطينية؛ لكن هذا الأثر لا يعفيها من معظم المسؤولية عن تردي أدائها العسكري والسياسي والمالي والتنظيمي، وتخبطه بصورة كان لها أبلغ الأثر على القضية الفلسطينية، وخاصة بعد قيامها بتوقيع اتفاقية أوسلو للسلام بصورة منفردة مع الكيان الصهيوني عام 1993، ما زاد من ارتباك مسار القضية الفلسطينية فلسطينيا وعربيا، وزاد الوضع الفلسطيني انقساما وتباينا، ما ضاعف من معاناة الشعب الفلسطيني وفاقم من تضحياته، وقد تجلى ذلك في العديد من الجوانب، من أهمها ما يلي:

  قبل اتفاقية أوسلو

  •  تعدد الأيديولوجيات الفكرية وتحكمها في الأداء السياسي والعسكري والتنظيمي، رغم وحدة القضية والمصير والعدو.
  •  تصادم فصائل المقاومة فيما بينها من حين إلى آخر، فكريا وسياسيا وأحيانا عسكريا.
  •  الانقسام الجغرافي والسياسي والعسكري والتنظيمي للمقاومة في الداخل والخارج.
  • غياب الرؤية الموحدة لحل القضية الفلسطينية.
  •  الانخراط في المحاور العربية الإقليمية، وتعدد الولاءات للأنظمة العربية.
  • الاصطدام بالدول العربية التي استضافت المقاومة على أرضها.
  • الدخول في اتفاقية سلام منفردة مع الكيان الصهيوني خارج الصف العربي.

بعد اتفاقية أوسلو

  • زعزعة الموقف العربي من القضية الفلسطينية رسميا وشعبيا.
  • تغير مرجعية القضية الفلسطينية من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى اتفاقية أوسلو.
  • إعلان وفاة المبادرة العربية للسلام العربي-الإسرائيلي، وتوفير المبررات الكافية لأي دولة عربية تسعى للتقارب مع الكيان الصهيوني، وإبرام اتفاقية تطبيع منفردة معه.
  • الثقة العبثية في الأطراف الدولية التي رعت الاتفاق، وتوهمت أنها قادرة فعلا على إلزام الكيان الصهيوني به.
  • الثقة في الكيان الصهيوني، وتوهم صدقه في الالتزام بما وُقع عليه.
  • إقامة علاقات أمنية مع الكيان الصهيوني على حساب المقاومة ووحدة الصف الفلسطيني الداخلي.
  • المسارعة إلى إقامة مشروعات تجارية فردية مع الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني.
  • الانشغال بوهم إقامة مظاهر الدولة الفلسطينية الدبلوماسية والسياسية، رغم خضوعها لسيطرة جيش الكيان الصهيوني الكاملة.
  • انحياز القيادة الفلسطينية إلى الكيان الصهيوني ضد فصائل المقاومة، والتنسيق معه لإخضاعها أو القضاء عليها.
  • العجز الكامل عن القيام بأي إجراءات رادعة للكيان الصهيوني تمنعه من التمادي العسكري والأمني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
  • التأخر حتى اليوم في تبني مشروع تحرر وطني داخلي مشترك يقود إلى وضع حد للأزمة الفلسطينية.
  • استمرار الانقسام الداخلي وهيمنة الأيديولوجيا الفكرية على الساحة الفلسطينية جغرافيا وسياسيا وعسكريا وماليا وإعلاميا، وخاصة بعد هيمنة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على قطاع غزة في 2008.
  • فشل القيادة الفلسطينية المخجل والمخزي في إنهاء الانقسام وتوحيد صف الشعب الفلسطيني، رغم كافة الجهود الداخلية والخارجية المبذولة، ورغم الحاجة القسرية لذلك.
  • هذا الوضع المضطرب للقيادة الفلسطينية أسفر عن جملة من النتائج والآثار، التي أصابت القضية في مقتل، وعلى رأسها:

    1.  تبني حل الدولتين.

    2.  التورط في اتفاقية أوسلو.

    3.  تعديل ميثاق منظمة التحرير.

    4.  اعتبار المقاومة عملا إرهابيا.

    5.  الافتقاد إلى مشروع وطني موحد.

    6.  تعدد الأيديولوجيات الفكرية.

    7.  استمرار الانقسام بين حركتي فتح وحماس.

    8.  العجز التام أمام كافة اعتداءات الكيان الصهيوني في كافة المجالات.

    9.  الانحسار بين سنديان الولايات المتحدة ومطرقة الكيان الصهيوني.

    الحصاد النفسي

    خامس المسارات التي نقف عندها في رصد الحصاد المرّ، الذي يحصده الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 100 عام، هو المسار النفسي.

    فالمعاناة النفسية التي يعانيها الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات فريدة من نوعها، فهو يخوض حربا ظالمة، يقف فيها العالم المتكبر مع الظالم المحتل، دون أن يأبه لحقوق المظلوم وتضحياته وآلامه، حوالي 5 أجيال تعاقبت تحت الاحتلال، أو في مخيمات الشتات.

    يعاني الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة من المواجهة المستمرة مع الاحتلال، والحصار الشامل والحرب المتكررة والقتل والإعاقة والدمار والاعتقال والابتزاز والفقر والبطالة، ويعاني في الخارج من الاضطهاد والتمييز والحرمان، والتضييق في التعليم والعمل والسفر، والملاحقة الأمنية، وضيق العيش والمسكن. وتجده في الداخل والخارج مضطرا للتسول على أبواب مكاتب وكالة غوث اللاجئين، يستقبل مواليده بفرحة مخنوقة، ويودع موتاه بدموع جافة تملأها الحسرة.

    هذه الظروف مجتمعة؛ أثرت في تعقيد الحالة النفسية للشعب الفلسطيني، فصار يجمع في نفسه بين البطولة والمقارعة والصمود والعمل والتضحية والفداء من جهة، وبين الإحساس الأليم بالخذلان والخديعة والغدر من جهة أخرى، فتولد لديه الكثير من القسوة وشدة التحمل والغضب الدائم والقهر الدفين والحقد المستديم والرغبة المتجددة في الانتقام، فتجده صامتا متألما يضيق العالم عن أن يتسع لهمومه، وإن ورأيته متبسما فهو الهروب اللحظي من واقع صار ظله الذي لا ينفك عنه.

    هذا الوضع النفسي المعقد، لا يعيشه، ولا يشعر به، ولا يكابد آثاره سوى الشعب الفلسطيني، الذي ما زال يحلم في صحوه ونومه بالعودة والاستقرار.

    ولا يقتصر الحصاد المرّ للشعب الفلسطيني عند هذه المسارات الخمسة، حيث يلفت المؤرخ الفلسطيني الكبير الدكتور محمد أبو ستة النظر إلى ما أسماه بالحروب العشرة، التي قام بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني ليحصد ويلاتها، وهي كما يلي:

    1. حرب القوة العسكرية، وقد عددناها سابقا.
    2. حرب إسكات صوت الضحية ومنع وصوله إلى العالم.
    3. حرب سياسية لإلغاء القوانين الدولية التي تجرم إسرائيل.
    4. حرب تاريخية لطمس التاريخ والهوية الفلسطينية لصالح الوجود الصهيوني.
    5. حرب تراثية تهدف إلى تدمير وإلغاء أي أثر تاريخي.
    6. حرب دينية لإثبات أن فلسطين عطية الله لليهود.
    7. حرب عنصرية تقوم على العنصر اليهودي المميز.
    8. حرب الشيطنة وتشويه الفلسطيني في كافة المحافل وبكل الوسائل.
    9. حرب قانونية تهدف إلى الضغط لإصدار القوانين والتشريعات التي تؤيد حقوقهم، وتجرّم الفلسطينيين وكل من يتعاون معهم.
    10. حرب اقتصادية مفتوحة طويلة الأمد.
    11. وقفنا في هذه المسارات عند أبرز الجوانب التي تجسد حجم المرار، الذي حصده الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من 100 عام، ولو أردنا أن نقف عند تفاصيل هذا المرار لاحتجنا لذلك إلى المجلدات تلو المجلدات. وخلاصة ما نود أن نصل إليه من هذا السرد ما يأتي:

    • أن الشعب الفلسطيني قدم تضحيات هائلة، وعانى مرارات شديدة طيلة قرن من الزمان.
    • أن الشعب الفلسطيني لم يجد مقابل هذه التضحيات حلا عادلا لقضيته.
    • أن الدول العربية والمجتمع الدولي لن يحلوا القضية الفلسطينية بما يحقق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني.
    • أن على القيادة الفلسطينية الاعتماد على نفسها وعلى شعبها في إيجاد الحل الوطني المشترك، الذي تلتقي عليه جميع الأحزاب والقوى والفصائل الفلسطينية.
    • التوقف عن الاستمرار في مسار السلام المستحيل القائم على حل الدولتين، والبحث عن مسار جديد للسلام مع الكيان الصهيوني، يحقق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني.
    • أن على القيادة الفلسطينية عدم الاكتراث لعمليات هرولة الدول العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني؛ لأن مفتاح السلام والاستقرار في يد الشعب الفلسطيني، الذي صمد طيلة هذه الفترة، وقدم هذه التضحيات، وهو قادر على أن يصنع المعجزات.
    • في الأسبوع القادم: سلام الدولة الواحدة.. الفرص والتحديات

     

     

     

    الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.