عندما يلتقي الوحي الإلهي مع التاريخ

متحف الفن الإسلامي الجديد الدوحة 2006 - مصحف مخطوط باليد من المغرب بالمتحف - الجزيرة نت - تصوير جعفر قنديل

القرآن الكريم -الذي نزل منجّما على مدى ثلاثة وعشرين عاما- نزل في حوار مع الحياة الاجتماعية للأمة، فتشكّلت الأمة في المدينة المنورة مع القرآن الكريم الذي كان متشابكا معها في كلّ أحوالها؛ في قوّتها السياسية وحربها وسلامها وفتوحاتها والاقتصاد والتعليم والعبادة وشؤون العائلة والشؤون الاجتماعية العامة.

ومما لا شك فيه أن هذه الميزة القرآنية الحوارية مع أحداث الحياة الحية قد تجتذب بعض الأفكار إلى "تاريخية النصّ" التي تكلّمنا عنها في مقالنا الأسبق "الوحي وأسباب النزول"؛ وكما قلنا من قبلُ، فإن المواضع من النص القرآني التي جاءت في سياق الاستجابة لأحداث معينة حصلت وقتَها؛ قد جعلت أصحاب ما يسمّونه (الفهم التاريخي للنص القرآني) جعلتهم يتوهّمون أنّ القرآن الكريم حادثٌ (أي لا أزليّ) وحاشا لله، وأنّه مرتبطٌ بتلك الأحداث التي جاء استجابة لها بعينها.

وبعبارة أخرى، يرون أنّه لو لم تكن هناك تلك الحادثة لمّا نُزّلت تلك الآية، أو لو حصلتْ وقتَها أحداث مختلفة لكان محتوى النص القرآني سيكون مختلفا، ويرون أنّه لو طُرح وقتها على النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة أخرى، لكانت تنزّلت آيات أُخرى.

أولاً: هذه الفكرة قبل كلّ شيء- تتجاهل حقيقة أنه على مدى 23 عاما لم يكن ثمة آية تنزل لأجل كلّ حادثة تحدث، وإلّا لَكنا سنواجه كتابًا أكثر ضخامة.

 

الحوارات الشهيرة التي ذكرها الفيلسوف أفلاطون وأسندها إلى أستاذه سقراط، صحيح أنّها تمنحنا معلومات تاريخية مهمة عن اليونان القديمة، لكنّ تلك النصوص تستمد قوتها في الغالب من هذا النمط الحواري

ثانيا: معظم الآيات والسور نزلت غير مقترِنة بأي حادثة محدّدة أو سؤال بعينه، أو لا يمكن إثبات هذه الصلة. ومعظم ما لديهم -فقط- بعض معلومات حول تاريخ نزول الآية والبيئة المحيطة بها آنذاك، دون أن يوجد حادثة أو سؤال يمكن وصفه بأنه "أسباب النزول".

ثالثا: إنّ الافتراض بأن هذه الميزة الحوارية للقرآن (الحوار مع حياة الأمة وقت نزوله) تجعله تاريخيًا هو فهم ساذج وهزيل للغاية، وهو لا يرى -على وجه التحديد- الطبيعة الكونية والعالمية المتأصِّلة في الأحداث التاريخية.

وهنا، يمكننا أن نتذكر أن جميع النصوص الكلاسيكية النوعية -والتي لا تزال تخبرنا شيئا حتى في أيامنا- مكتوبة بأسلوب حواري من هذا القبيل. على سبيل المثال، الحوارات الشهيرة التي ذكرها الفيلسوف أفلاطون وأسندها إلى أستاذه سقراط، صحيح أنّها تمنحنا معلومات تاريخية مهمة عن اليونان القديمة، لكنّ تلك النصوص تستمد قوتها في الغالب من هذا النمط الحواري.

ولا ينبع الحوار فيها -فقط- من طريقة كتابة النص، ولكن أيضًا من تفاعل الفلسفة مع الأشخاص الذين تتمّ مخاطبتهم (المتلقّين)، فغالبًا ما يطرح سقراط أسئلة تكون هي بالضبط ما يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ.

وفي مثل هذا النص، يستمر السرد في شكل حوار يشارك فيه القارئ على الفور، وبطبيعة الحال، فإن السؤال -مهما يكن بسيطا- مع الإجابات المقدَّمة؛ يصبح مثالا عالميا لحدث يتعلّق بالحالة الإنسانية ككل.

بل قيل: إن هذه البنية الحوارية للقرآن الكريم أبعدته عن كونه كتابًا منهجيّا بالمعنى الحديث؛ حتى إنّ بعض "الحداثيين الإسلاميين" اعتبروا هذا "النقص المنهجي" مؤشرًا على تاريخية الكتاب؛ وفقاً للكتب القديمة، ورأوا أن علامة افتقاره المنهجي هي الاختلافات التي (تبدو) عشوائية في التحوّل من موضوع إلى آخر، وتخطّي موضوع إلى آخر، واختلاف أحجام السور.

بالطبع، من الضروري أن نرى وأن نلاحظ أن القرآن الكريم -الذي هو كتاب حياة- يجيب بالرّدّ الأمثل -وبأقوى طريقة- عن هذه القضية الموجودة في الحياة نفسها؛ بخفقانها وتشابُكها وتموُّجاتها.

فالإنسان ليس مجرد عقل؛ كي يتم خطابه بالعقل الصِّرْف؛ وإنّ ما نسميه "العقل" هو ليس عقلًا صِرْفا، بل هو ملكة متشابكة بالعواطف.

ولا شك في أنّ من أبسط أساسيات العقيدة أن نعتقد ونثق بأنّ الخالق الذي خلق الإنسان هو الأعلم بخطاب مخلوقه بأفضل خطاب وأسلوب يجذبه، ويؤثّر فيه.

وطبيعةُ الإنسان أنّه عندما يستمع -بكل جوارحه- إلى ما يخاطِب عقله وعواطفَه؛ فإنّه يأخذ من هذا الخطاب ما يأخذ دون حاجةٍ إلى التفريق بين ما يخاطب العقل وما يخاطب العاطفة، بل دون أن يفكّر أو يشعر بذلك أيضا.

إن جزءًا من هذا التصور المتوهَّم عن هذا "الافتقار المنهجي" يعود إلى مسألة "التسلسل الزمني" (Chronology) في القرآن الكريم.

ومن المعلوم أنّ ترتيب سور القرآن الكريم الذي تنزّل وحيًا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم؛ لم يُرتَّب في المصحف (القرآن المكتوب في الصحف) على الترتيب نفسه الذي نزل به، بل إنّ السّوَر الأولى في النزول موجودة في الجزء الأخير من المصحف المكتوب، وكذا آيات نزلت في النهاية قُدِّمت -توقيفا من الله تعالى- إلى البداية في المصحف الشريف.

ومما لا شك فيه أنّنا إن نظرنا في هذا الترتيب جيدا -بتدبُّر وتمعُّن- فإنه يمكننا أن نعثر على المنطق فيه. وقد جهد المفسرون باستفاضة في تبيين السبب المنطقي في هذا الترتيب؛ تحت عنوان "الحكمة في ترتيب سور القرآن". بالطبع كانوا يدلون دلوهم، بدون أن يتركوا الاحتياط؛ بقولهم بعد كل بيان حكمة: "والله تعالى أعلم بالصواب".

وفي مقابل هذه الاجتهادات؛ هناك أيضا مناهج تحدد أو تثبّت القرآن الكريم بحسب ترتيب النزول، بل، وتعرض قراءتَه على هذا النحو.

بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أن كل المعلومات حول القرآن الكريم، وترتيب النزول، وترتيب المصحف، وأسباب النزول، والقراءات، …، قد تم تجميعها بدقة، وتمّ تدوينها بإحكام في إطار "علوم القرآن الكريم"، وأن مثل هذه الأسئلة قد أُثيرت سابقا، وأُجيب عنها في زمانها، وطويت صفحتها.

وبعبارة أخرى، قد اجتهد العلماء للغاية في بحث مسألة "ترتيب نزول الآيات القرآنية"، وفي التنقيب عن أسبابِ أو حكمة اختلاف ترتيب المصحف عن ترتيب النزول.

ولكنّنا -في العصر الحديث- يمكننا أن نرى أن هناك رغبة -عند بعضهم- في قراءة القرآن الكريم قراءةً جديدة بحسب ترتيب نزول آياته، وعلينا -بكل تأكيد- أن نفكّر وندقّق في مصدر هذه الرغبة ودوافعها.

ويقال أيضًا: إن مثل هذه القراءة قد تساعد على فهمٍ أفضل لسيرة النبي صلى الله عليه وسلّم مباشرةً من الوحي. بمعنى آخر؛ هي رغبة في متابعة حياة الرسول من خلال القرآن.

وبالتالي، هذا يُتيح تنقيح السيرة من الروايات الزائفة التي ربما التبست بها، أو يتيح إعادة فرزها وترتيبها بطريقة معيَّنة.

وإنّه مع تزايُد نسبة الريبة والشك في الأحاديث النبوية، يزداد الطلب على مثل هذه الاقتراحات. وهذا يمكن أن نناقشه ونردّ عليه في مقام آخر.

ولدى هؤلاء -الداعين إلى هذه القراءة الجديدة بحسب ترتيب النزول- سبب آخر؛ هو اعتقادُهم أنّ هذا سيكون أكثر ملاءمةً اليومَ من أجل فهمٍ أفضل لتجربة ولادة المجتمع الإسلامي، بل، ولأجل تكرارها في أكثر أشكالها أصالة.

إن الجهود المبذولة لفهم لحظة ميلادِ أو تشكّل الأمة الإسلامية أمر متفهَّم بالطبع، ولكن من الضروري الوقوف ضد اشتهاء "التكرار".

ماذا نكرّر، وكيف نكرره؟ عجبًا هل اتّباعُ السنّة النبوية يكون في إعادة إنشائها من جديد؟!

وتجربةٌ وحوادث عاشها شخصٌ ما، كيف يتم تكرارها -بالطريقة نفسِها- من قِبل الآخَرين؟

أعتقد أنّ هذا الاشتهاء للتكرار على وجه التحديد -أي البحث عن مثل هذا القرآن لإعادة تجربة الولادة لأول مجتمع مسلم (بالضبط) من جديد، هذا يفسر سبب عدم ترتيب المصحف الشريف وفقا لترتيب النزول.

ولكن، كيف هذا؟

للجواب على ذلك؛ فإننا سوف نكمل في المقالات القادمة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.