الرغبة في التحكم بالإله.. نيتشه والتاريخية

"عندما تبدو الأمور صعبة التصديق قليلا، أليس ذلك هو أكثر وقت نحتاج فيه إلى الإيمان؟ أليس الإيمان هو أن نصدق الأشياء مهما بدت مستحيلة؟ ألا نحتاج إلى الإيمان عندما تكون كل المؤشرات ضدنا، وعندما يعتقد الجميع أن الاستمرار خيار مجنون، وعندما تبدو الأشياء غير قابلة للتصديق؟".

هذه كلمات فيلسوف علم التأويل أو الهرمنيوطيقا جون كابوتو، وهو أيضا من علماء الدين الكاثوليك، وقد وردت في مقال له بعنوان "تجربة الإله وأكسيولوجيا المستحيل"، وهي من الأمثلة القوية على خطاب المقاومة في العالم المسيحي ضد التهديدات الحداثية والتنويرية.

وجهة النظر المذكورة، تحيلنا إلى ذكريات حول العالميْن المسيحي واليهودي، اللذين اتبعا منهجا استسلاميا أمام تحديات الحداثة، لدرجة أنهما سلما كل كتبهما ومعتقداتهما ومعجزاتهما للاستبداد التنويري. وفي الواقع هنالك كميات كبيرة من الأدب الغربي التي تحيلنا إلى هذه الذكريات. ونشير هنا إلى الفلسفة العدمية لنيتشه، الذي أعلن "موت الإله" بعد أن تم محو وجوده من الحياة في الغرب.

ولكن في الواقع هذا ليس صحيحا، إذ إن هذا الإعلان الذي قام به نيتشه كان جزءا من ثورة ضد نفاق الفلسفة الإنسانية الغربية، وكان الهدف منه لفت الأنظار إلى العلاقة الفاسدة بين الناس والإله، والتي جعلت من هذا الإله خادما للناس، ونزعت عنه مكانته.

في الحقيقة فإن موت الإله هو عملية تبدأ عندما يتم تشبيه هذا الإله بالبشر؛ أي إننا نقرر ما يجب علينا سماعه منه وما يجب تجاهله. بالطبع لم يكن نيتشه أول شخص في التاريخ يعلن عن موت الإله؛ إذ إنه على مر الأزمان قام كثيرون بهذا الفعل من أرسطو إلى بعض علماء الدين اليهود.

هذا التدين الذي يجعل من الإله خادما، بناء على سؤال "أي نوع من الآلهة نحتاج؟"، هو فهم لعلم اللاهوت أطلق العنان للبشر للتجرؤ وطرح سؤال يمكن وصفه بأنه أول سهم يطلق لقتل الإله. وقد جعلت التكنولوجيا الغربية من الإله مجرد شيء، وذلك في إطار مقاربتها لتكييف وتشييء كل ما حولنا. وبهذه الطريقة لم يعد الإله قادرا على كل شيء كما كان، تتجاوز قوته البشر، ويشملهم برحمته وعلمه اللامحدود وحكمته الواسعة، ويستمع الناس إلى كلامه ووحيه بآذانهم. الآن بات الأمر كما لو أننا نعرف أكثر منه ما نحتاجه في هذا العالم. وقد يعمد البعض إلى تصحيح هذه المقولة جزئيا وتخفيف حدتها، من خلال القول "بالطبع ليس السبب هو أن الله لم يعد عارفا بكل شيء؛ بل لأنه لن يزعج نفسه بالتدخل في الشؤون الدنيوية للبشر.. إنه منشغل بأشياء أهم من الأفعال الحقيرة للبشر الفانين من أمثالنا".

وفي الحقيقة فإن موت الإله هو عملية تبدأ عندما يتم تشبيه هذا الإله بالبشر؛ أي إننا نقرر ما يجب علينا سماعه منه، وما يجب تجاهله. بالطبع لم يكن نيتشه أول شخص في التاريخ يعلن عن موت الإله؛ إذ إنه على مر الأزمان قام كثيرون بهذا الفعل من أرسطو إلى بعض علماء الدين اليهود. والقاسم المشترك بين كل هؤلاء، كما هو مشار إليه في كتاب القرآن هو أنهم ما قدروا الله حق تقديره، حيث قالوا (ما أنزل الله على بشر من شيء) [الأنعام: 91].

وفي الواقع فإن معرفة حقيقة الله تبدأ من تنزيهه، وهذا يعني عدم إطلاق صفات أو تشبيهات سلبية عليه، والتنزيه يعني أيضا الاستعداد للاستماع والانصياع لكلامه بكل انتباه، وعندما نعتقد أنه يمكننا أن نقرر بأنفسنا ما سنختاره، ونحاول التدخل في المشيئة الإلهية، فهذا يعني أننا لم نستمع إلى الإله؛ بل حاولنا أن نأمره، وكما قال الفيلسوف جون كابوتو "لا يمكننا أن نسير في طريق نقول عنه إنه مضمون وندعي أننا قمنا بحساباتنا بكل دقة، واستبعدنا كل المخاطر والاحتمالات، في هذه الحالة نحن لا نقدر الله حق تقديره".

المقصود هنا ليس الامتناع عن بذل مجهود لفهم الأشياء؛ بل يجب أن نتذكر دائما أن فهمنا لهذا العالم يتأثر بظروفنا والسياق التاريخي؛ لكن ما نحتاج إليه هو معرفة أننا نتعامل مع الإله، ولا يمكننا أن نقرر ما الذي سيقوله لنا، لأن أوامره لن تأتي حسب انتظاراتنا؛ بل حسب ما يريده هو.

كل هذه النقاشات في الفكر الديني المسيحي المعاصر كانت دقيقة جدا، ولا يوجد فيها استسلام للفلسفة التاريخية، بما أن تاريخ البشر يختلف عن تاريخ الإله والكتاب المقدس، والاعتقاد بأن الإله الذي خلقنا جميعا مكبل هو أيضا بالتاريخ، هو تفكير سطحي يرقى إلى مرتبة التجسيم أو إطلاق صفات بشرية على الإله.

والشيء المثير للاهتمام هو أن مفكرين مثل غادامير وهايدغر، وهم من رواد الفلسفة التاريخية بأسوأ ما فيها من معان، هم في المقابل من كرسوا جهودهم؛ لتجنب تفسير الكتاب المقدس في سياق تاريخي. بالنسبة لغادامير، الحقيقة ليست شيئا يمكن الوصول إليه بالمنهج؛ بل هناك الحقيقة، وهناك مناهج متعددة لبلوغها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.