بالذكرى الـ30 للاغتيال الغامض لـ"إمام الجهاد".. من قتل الشيخ عزام؟

blogs الشيخ عبدالله عزام

في تمام الساعة الثانية عشرة والربع من ظهيرة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1989؛ اقتربت سيارة شيفروليه-ڤيجا حمراء من "مسجد سبع الليل" في مدينة بيشاور الباكستانية، حيث كانت الحشود تنتظرها مرحّبة بصاحب السيارة، إلا أن قنبلة على جانب الطريق قسمت السيارة نصفين فقتلت كل من كان فيها. نعم؛ لقد كان العنف يملأ بيشاور حينها إلا أن هذا الاغتيال لم يكن مثل سواه.

لقد كان الرجل الذي في السيارة هو عبد الله عزام الأب الروحي لما سُمّي "العرب الأفغان"، وهم المقاتلون الأجانب الذين سافروا بالآلاف ليقاتلوا السوفيات في أفغانستان طيلة ثمانينيات القرن الماضي.

لقد كان النضال لتخليص أفغانستان من الاحتلال السوفياتي قضية شرعية للجهاد العسكري في معظم أنحاء العالم الإسلامي. وقد انضم عزام -وهو الشيخ الفلسطيني- إلى الجهاد الأفغاني عام 1981، وقضى معظم ذلك العقد وهو يحشد له على المسرح الدولي. وفي عام 1989؛ كان عزام أسطورة حية والمنِّظر الجهادي الأكثر تأثيرا في العالم.

يُنظر إلى عزام بوصفه أباً للحركة الجهادية الدولية، أي كتلة الجماعات العنيفة -مثل تنظيم القاعدة و"داعش"- التي تصف نشاطاتها بالجهاد. لقد قاد عزام حشد المقاتلين الأجانب إلى أفغانستان، خالقا بذلك المجتمع الذي انبثق منه تنظيم القاعدة والمجموعات الراديكالية الأخرى. شهادات اعتماده الإسلامية، وصلاته الدولية، وكاريزمته الشخصية؛ جعلته كلها مجندا فعّالا بشكل استثنائي. وبدونه؛ لم يكن "العرب الأفغان" ليكونوا بهذا الحجم.

لقد صاغ عزام أيضا أفكارا ذات تأثير، وتحديدا محاججته بأن على المسلمين الدفاع عن بعضهم البعض، فإذا هوجم أحد أجزاء العالم الإسلامي فعلى كل المؤمنين أن يهرعوا للدفاع عنه.

لقد كانت هذه الفكرة هي الأساس الأيديولوجي للقتال الأجنبي الإسلامي، تلك الظاهرة التي تجلت في العديد من الصراعات الأخرى في العالم الإسلامي، بدءا من البوسنة إلى الشيشان في التسعينيات، مرورا بالعراق والصومال في العقد الأول من الألفية، وصولا إلى سوريا في العقد الثاني من الألفية.

إضافة لذلك؛ حث عزام الإسلاميين على نقل انتباههم من السياسات المحلية إلى السياسات الدولية، مهيِّئا الأرضية أيديولوجياً لصعود الجهادية المعادية للغرب في التسعينيات.

كان اغتيال عزام لغزاً للمراقبين؛ فمن سيقتل شيخا دينيا -ناهيك عن كونه مبجلا- مثل عزام؟ ولماذا حينها في الحلقة الأخيرة من الحرب؟ علم المقربون من عزام أن هناك شيئا يجري في الخفاء، نظرا لاكتشاف وجود قنبلة تحت منبره في "مسجد العرب" قبل ثلاثة أسابيع من الاغتيال. ومع ذلك؛ لم يعرف أحد من يسعى وراء عزام. أجرِي تحقيق للشرطة المحلية في الاغتيال لكنه لم يؤد إلى أي شيء، ولم يتم اتهام أحد. لقد كان هناك الكثير من التخمين، لكن القضية لم تغلق حتى اليوم

وكان المسلحون الذين سبقوه قد ركزوا على إسقاط الحكام المسلمين، مثل حالة مصر حيث قتلت "جماعة الجهاد الإسلامي" المصرية الرئيس أنور السادات عام ١٩٨١؛ أو في سوريا حيث شن جناح مسلح من "الإخوان المسلمين" تمردا لم ينجح ضد نظام حافظ الأسد نهاية السبعينيات. بينما قال عزام -على النقيض من ذلك- إن الأهم هو قتال الغزاة غير المسلمين.

لم يدافع عزام بنفسه عن الإرهاب الدولي، ولم تكن له علاقة بتأسيس "القاعدة"، لكن إصراره على الحاجة لردع أعداء الإسلاميين الخارجيين أصبح فكرة مركزية في تبرير "القاعدة" للهجمات على أميركا. وباختصار؛ كان عزام عملاقا في الحركة الجهادية.

الاغتيال: لنعد الآن إلى ذلك اليوم المصيري في بيشاور قبل ثلاثين عاما؛ لقد كان مقتله صدمة، لا "للعرب الأفغان" فحسب؛ بل وللحركة الإسلامية الأوسع كذلك. لقد حضر الآلاف جنازته في "بابي" مساء ذلك اليوم، وتم تأبينه في العديد من الدول، وكتبت مئات القصائد ومقالات النعي والرثاء خلال الأسابيع التالية لمقتله.

كان اغتيال عزام لغزاً للمراقبين؛ فمن سيقتل شيخا دينيا -ناهيك عن كونه مبجلا- مثل عزام؟ ولماذا حينها في الحلقة الأخيرة من الحرب؟ علم المقربون من عزام أن هناك شيئا يجري في الخفاء، نظرا لاكتشاف وجود قنبلة تحت منبره في "مسجد العرب" قبل ثلاثة أسابيع من الاغتيال. ومع ذلك؛ لم يعرف أحد من يسعى وراء عزام.

أجرِي تحقيق للشرطة المحلية في الاغتيال لكنه لم يؤد إلى أي شيء، ولم يتم اتهام أحد. لقد كان هناك الكثير من التخمين، لكن القضية لم تغلق حتى اليوم.

ولكن هل نحن أقرب اليوم إلى معرفة الحقيقة؟ لقد قضى كاتب هذه السطور 12 عاما وهو يكتب سيرة عزام، وهذا هو تقييمه للقضية. حتى الآن؛ ما زالت التحاليل الجنائية شحيحة. كان وزن القنبلة عشرين كيلوغراما، وتكونت من جزئين، وُضع كل منهما على جانب جسر صغير نُصب فوق خندق، وكانا مربوطيْن بسلك؛ وهنا يقف التحقيق الفني.

ولكننا نستطيع أن نضع بعض الملاحظات: أولا؛ الشخص الذي قام بالاغتيال أراد أن يُحدث جلبة ويخيف العرب، فقد كانت هناك طرق أسهل لقتل عزام، مثلا بإطلاق النار عليه ثم الهرب. ثانيا؛ لا شك في أن مرتكبي العملية كانوا عاليي الكفاءة، فمن الصعب ضرب سيارة محددة متحركة بقنبلة ثابتة.

إضافة لذلك؛ لقد كان لدى المنفذين عيون يرصدون الهدف، لأن سيارات أخرى عبرت فوق الجسر نفسه -وفي الوقت نفسه تقريبا- دون أن يحصل لها شيء. كما كان لديهم أمن عملياتي عالٍ؛ فمن الصعب تنفيذ عملية كهذه والاختفاء بعدها بدون ملاحظة الأجهزة الأمنية الباكستانية.

المتهمون: هذه الملاحظات يمكن أن تصوغ العديد من النظريات بشأن اغتيال عزام. ومهما كان من نفذه؛ فلا شك أنه كان يملك الدافع ليفعله بهذا الشكل حينها، والقدرة على تنفيذه، والهرب دون أن يُعرف. اقترح البعض أن أحد رفاق عزام من "العرب الأفغان" -مثل أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري- هو من نفذ الاغتيال، إلا أن هذا يبدو مستبعدا بسبب كلفة السمعة لأي أحد قد يُقبض عليه متورطا في قتل "إمام الجهاد".

اقترح آخرون ضلوع أجهزة استخبارات أجنبية مثل المخابرات المركزية الأميركية أو "الموساد" الإسرائيلي، لكن عزام لم يكن مهمًّا بما يكفي حينها. كانت الولايات المتحدة تنسحب حينها من المسرح الأفغاني، وإسرائيل كانت مشغولة بمواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وحزب الله اللبناني.

في كتابه الصادر بعنوان: "انهض واقتل أولاً" (Rise and Kill First)؛ يوثق الصحفي رونين بيرجمان ما يقارب 3000 اغتيال نفذتها إسرائيل منذ عام 1948، لكن عزام ليس ضمن هؤلاء المغتالين. هذا؛ ويتحدث فريق آخر حتى عن المخابرات الأردنية أو السعودية، لكن تلك البلدان لم تكن تمارس اغتيال الإسلاميين حينها.

هناك عدة ملاحظات يمكن أن تصوغ العديد من النظريات بشأن اغتيال عزام. ومهما كان من نفذه؛ فلا شك أنه كان يملك الدافع ليفعله بهذا الشكل حينها، والقدرة على تنفيذه، والهرب دون أن يُعرف. اقترح البعض أن أحد رفاق عزام من "العرب الأفغان" هو من نفذ الاغتيال، إلا أن هذا يبدو مستبعدا بسبب كلفة السمعة لأي أحد قد يُقبض عليه متورطا في قتل "إمام الجهاد". بينما اقترح آخرون ضلوع أجهزة أجنبية كالمخابرات الأميركية أو "الموساد" الإسرائيلي

قد يكون لدى المخابرات الأفغانية "KAAD" سبب لتقتل عزام، لكن ذلك في وقت أسبق في الحرب وليس في نهاية عام 1989. لقد اتهم عديدون أمير الحرب الأفغاني قلب الدين حكمتيار، الذي استاء من تأثير عزام المتزايد لصالح خصمه الرئيسي أحمد شاه مسعود، إلا أن أدلة جديدة أظهرت أن حكمتيار وعزام كانا صديقين مقربين حتى النهاية.

إن كل ذلك يتركنا فقط أمام المخابرات الباكستانية التي تملك القدرة والدافع. ففي نهاية الثمانينيات؛ كان "العرب الأفغان" مصدرا للإزعاج، بانتقادهم باكستان بشكل أكثر انفتاحا، وبتدخلهم في سياسات المجاهدين الأفغان.

لا يوجد دليل متماسك يشير إلى تورط المخابرات الباكستانية، ولذلك لا نستطيع وضع خطين تحت اسمها للتأكيد، إلا أن الدليل الظرفي مقنع؛ فالعملية كانت معقدة وتطلبت تحركا للأفراد حول الموقع قبل وأثناء وبعد تنفيذ العملية، والتوقيت والموقع يشيران إلى رغبة في توجيه صدمة للعرب، لأن عزام كان يمكن قتله ببساطة بإطلاق النار عليه ثم الهرب. وبذلك؛ تبقى عملية اغتيال عزام هي أكبر جريمة غامضة في تاريخ الحركة الإسلامية.

ماذا بعد؟ لقد كانت لذلك الحدث تبعات مهمة لأن عزام -قبل اغتياله- كان قد زرع فكرة خطيرة جدا في عقول أتباعه. لقد كانت تلك الفكرة هي أن على المسلمين تجاهل السلطات التقليدية فيما يتعلق بالجهاد، سواء أكانت هذه السلطات هي الحكومات، أم العلماء المحليين، أم الزعماء القبليين، أم حتى الوالديْن.

وحسب رؤية عزام؛ كان الحكم الشرعي واضحا: إذا انتهكت أرض للمسلمين فعلى كل المسلمين الحشد عسكريا للدفاع عنها، وكل عبارات "لو" و"لكن" هي نوع من الضلال. لقد فتح هذا "صندوق باندورا" للراديكالية، وخلق حركة لا يمكن التحكم فيها. فبعد كل شيء؛ كيف ستجعل الناس ينصتون لك حين تقول لهم إنهم يجب ألا ينصتوا لأحد؟

لقد استشعر عزام التأثيرات المبكرة لهذه المشكلة في سنواته الأخيرة، لكنه حافظ على النظام في صفوف المقاتلين عبر هيبته الهائلة ضمن مجتمعهم. ولكن؛ بعد الاغتيال لم يكن هناك أحد يمكن أن يكبح الشباب الذي كان دمه يغلي، ودخلت الحركة الجهادية منذ حينها في حالة من التشظي والوحشية.

فبينما كان "العرب الأفغان" في الثمانينيات يستخدمون تكتيكات حرب العصابات فقط؛ تحول بعض ورثتهم إلى الإرهاب الدولي، والتفجيرات الانتحارية، وقطع الرؤوس. وكان العنف المفرط لـ"داعش" في السنوات الأخيرة هو الحلقة الأخيرة في هذه العملية.

وبذلك؛ فإن قصة عبد الله عزام تشير إلى أن انهيار احترام السلطة الدينية بين الشباب في نهاية الثمانينيات كان قضية جذرية. عزام بدأها، واختفاؤه سرّعها، ثم كانت تداعياتها مدمرة. إنها أيضا أحد دروس التاريخ العديدة المتعلقة بالتبعات غير المقصودة، إذ إنه من الممكن القول إنه لم يكن عزام ولا الذين اغتالوه يقصدون أن تتحول الأمور إلى هذا الشكل.

والسؤال الآن هو: هل كان من الممكن إعادة الجنّيّ إلى القمقم؟ وهل كانت ممكنة استعادة السلطة الدينية تأثيرها على الشباب الذين جذبتهم الحركة الجهادية؟ هناك بعض الإشارات إلى أن تطرف "داعش" قوض جاذبية الحركة، لكن من المبكر قول ما إن كان من الممكن تصحيح الضرر الذي أحدثه ذلك التفجير الغامض قبل ثلاثين عاما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.