أخطاء أوروبا العشرة في المستنقع التركي

A general view shows supporters of Turkish President Tayyip Erdogan during a pro-government protest in Cologne, Germany July 31, 2016. REUTERS/Thilo Schmuelgen

لا تعدو نسخة الإسلاموفوبيا المسماة "ترك فوبيا" أو فوبيا العثمانيين أكثر من نسخة عابرة من إصدارات متعددة لفزاعة تخويف علقت مرارا على مدى حقبة الحملات الصليبية ومحاكم التفتيش والمد الاستعماري القديم والحديث، وإن تنوعت إصدارات الإسلاموفوبيا لتضم -بجانب اللهجات الأوروبية المختلفة- لكنات عربية وفارسية وعبرية وروسية وصينية وغيرها.

التعاطي الرسمي والإعلامي الأوروبي مع استفتاء التعديلات الدستورية التركية المرتقب منح الزخم لحملة الإسلاموفوبيا الصاعد منحاها بقوة على وقع التفجيرات بدءا من الحادي عشر من سبتمبر، إلى يومنا هذا.

لو افترضنا أن استفتاء التعديلات الدستورية الذي ثارت لأجله أوروبا بأسرها جرى ببلد غير تركيا، هل كان سيجد كل هذا الكم والحشد والتجييش واللغط والتحريض؟ وهل كانت عدوى ترمب ستنتقل من غربي الأطلسي نحو شرقيه المتوجس من ترمب أساسا؟

الشاهد أنه لم يعد ممكنا التمييز بمطبخ قرار الغرب السياسي اليوم بين المنتمي للظاهرة "الترمبية" ومن هو غير ذلك، كما لم يعد من السهل الفرز ما بين سياسي منتم إلى أقصى اليمين وآخر إلى أقصى اليسار أو الخضر والليبراليين وغيرهم.

الخطأ الأول يتعلق بالدوافع والأبعاد؛ قد لا يستحق تمكين ناخب تركي من الإدلاء بصوته في استفتاء دستوري في بلده كل تلك الضجة أو ردود الأفعال المتشنجة على مستوى قارة ترفع شعارات حرية الاختيار، اللهم إن كان مثل هذا الناخب قاصرا لا يحق له التصويت في خيار ديمقراطي يمس حياته

ترى ما أبرز الأخطاء التي وقعت فيها أوروبا في تعاطيها مع الملف التركي؟ وما تأثير مثل هذا التعاطي على مستقبل أوروبا نفسها في المنظورين القريب والبعيد؟

الخطأ الأول يتعلق بالدوافع والأبعاد؛ قد لا يستحق تمكين ناخب تركي من الإدلاء بصوته في استفتاء دستوري في بلده كل تلك الضجة أو ردود الأفعال المتشنجة على مستوى قارة ترفع شعارات حرية الاختيار، اللهم إن كان مثل هذا الناخب قاصرا لا يحق له التصويت في خيار ديمقراطي يمس حياته هو، أو أن يكون بلده جمهورية موز غير مؤهلة لتقرير مستقبلها بنفسها.

وتيرة التجييش السياسي الإعلامي الأوروبي ضد تركيا وتصعيدها جاءا بإيقاع فاجأ الكثيرين، وكأن المستهدف بالشيطنة هو هتلر ذاته.. شيطنة لم يحظ بمثلها دونالد ترمب وهو يدعو صراحة لتقسيم أوروبا، ولا فلاديمير بوتين وهو يغزو من البوابة الأوكرانية شرق أوروبا ويحاصر من البوابة السورية جنوب شرق أوروبا، ولا حتى نوري المالكي وبشار الأسد وحيدر العبادي وهم يحرقون العراق وسوريا مغرقين بمئات آلاف اللاجئين قلب أوروبا، ناهيك عن ساسة تل أبيب والقاهرة إذ يحاصرون -حتى الموت- غزة ومعها القيم الأوروبية كل يوم، أو طغاة الشرق الأوسط وهم يُردون المتظاهرين بالشوارع بالمجازر أو الرصاص الحي، بفضل مساعدات يأتي بعضها من جيب دافعي الضرائب في الغرب الديمقراطي، أو مما يجود به النفط العربي.

انجرار الشارع الأوروبي وراء هيستيريا التُرك فوبيا على الصعد السياسية والإعلامية والاجتماعية يؤكد رسوب الأوروبيين في امتحان الديمقراطية.

الخطأ الثاني يتعلق بالوسائل لا سيما مع توظيف الإسلاموفوبيا لتحقيق مكاسب انتخابية أوروبية محلية آنية بمخاطرة كبيرة، لأن إشاعة الخوف والكراهية بهدف توحيد المجتمع بوجه عدو خارجي -كالمسلم التركي- سرعان ما يمزق المجتمع المحلي بدلا من أن يوحده، ليس لأن المواطن المسلم والتركي مكون أصيل من مكونات المجتمع الأوروبي فحسب، بل لأن أفضل وصفة لتفكيك الكيانات الاجتماعية هو شحنها بثقافة الكراهية وإلغاء الآخر. لا نتحدث هنا عن تفكك للاتحاد الأوروبي بأسره فحسب، بل تفكيك لمجتمعاته ودوله نفسها، وهو ما يعززه الخطأ القاتل الثالث والمتمثل باللعب على ورقة القومية.

الخطأ الثالث تصعيد المد القومي في أوروبا، وهو ما يلجأ إليه عادة أعداء الدولة لإقحامها في مشاكل داخلية بخلفية قومية تقضي على ثقافة التعايش تمهيدا لإضعاف وتمزيق تلك الدولة، وهو ما نرى مثاله اليوم في سوريا والعراق حاضرا، تماما كما حصل مع الدولة العثمانية، إذ عمل الأوروبي على تغذية المشاعر القومية ودعم الطموحات الانفصالية بموازاة توظيف ورقة حماية الأقليات لتمزيق الإمبراطورية ودفعها نحو الانهيار بنهاية المطاف. المفارقة الصارخة اليوم أن من يشيع المشاعر القومية والشعبوية المتطرفة التي تقضي على وحدة أوروبا ومكونات كل شعب من شعوبها هم الساسة والإعلاميون الأوروبيون -لا الأتراك- أنفسهم، والعجب أن يلعب القوم -في عقر دارهم- ذات اللعبة التي يتهمون بوتين بلعبها عبر دعم التيار القومي الشعبوي.

وبموازاة تصعيد المد القومي في أوروبا على يد أوروبا نفسها، يستمر الدعم الأوروبي للحركات الانفصالية والجماعات الإرهابية والمحاولات الانقلابية داخل تركيا؛ بما يؤدي لإضعاف حليف مهم لأوروبا، مما يترتب عليه إضعاف السياسة الخارجية والدفاعية والاقتصادية لأوروبا نفسها.

الخطأ الرابع تنافس الأحزاب في المزايدة على اليمين المتطرف وهو ما يدفع لمزيد من تشظي الشارع السياسي الأوروبي المنقسم أصلا. تتشابه الشعارات لتتفتت الأصوات بين عدد أكبر من الأحزاب، فيما يتجه أصحاب الأصول المهاجرة كالأتراك وغيرهم من المسلمين وأبناء مستعمرات أوروبا السابقة -بعيدا عن الأحزاب الكبيرة- صوب أحزاب أصغر تمثلهم بشكل أفضل. والمحصلة صعوبة أو استحالة تشكيل حكومات مستقرة مستقبلا، لا سيما عندما يتطلب الأمر تجميع أربعة أو خمسة أحزاب في ائتلاف حاكم يفتقد التجانس على صعيد الرؤى والأهداف والبرامج اقتصاديا، كما رأينا في الانتخابات الهولندية الأخيرة، حيث لم تجن حملة الترك فوبيا سوى استنساخ لمشهد اليونان وإيطاليا السياسي حيث تهتز منظومة الحكم تبعا لتفتت أصوات الناخبين.

الواقع أن حزب العدالة والتنمية التركي لم يعد بحاجة للمضي بحملته الدعائية في الدول الأوروبية، بعدما ما استفز خطاب الكراهية والتحريض الأوروبي شرائح واسعة من الناخبين الأتراك، ولتصطف شرائح الشارع المترددة -بل وجزء من المعارضة- في خندق تأييد التعديلات الدستورية للحزب الحاكم

الخطأ الخامس أن ازدواجية المعايير الأخلاقية والانكفاء في مجال حرية التعبير والقيم الديمقراطية يسحب من أوروبا أوراقا مهمة على صعيد التأثير العالمي والتدخل في الصراعات الدولية، ويحرمها مستقبلا من تسويق وصفة الإصلاحات الديمقراطية خارج القارة الأوروبية، لتخسر فوائد اقتصادية وسياسية وعسكرية عديدة.

الخطأ السادس الدعاية المعاكسة، مع تقديم الترك فوبيا خدمة جليلة ودعاية مجانية للخصم المعلن. والواقع أن حزب العدالة والتنمية التركي لم يعد بحاجة للمضي بحملته الدعائية في الدول الأوروبية، بعدما ما استفز خطاب الكراهية والتحريض الأوروبي شرائح واسعة من الناخبين الأتراك، ولتصطف شرائح الشارع المترددة -بل وجزء من المعارضة- في خندق تأييد التعديلات الدستورية للحزب الحاكم، وهو ما يدفع نحو توحد الشارع التركي أكثر فأكثر.

ما لم تنتبه له الآلة الإعلامية الأوروبية المناهضة للتعديلات الدستورية التركية هو مدى حساسية المواطن التركي -أيا كان اتجاهه- إزاء التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي التركي، كما لم تفطن لحساسيته اليوم تجاه الانقلابات العسكرية ليفشل الانقلاب العسكري المدعوم خارجيا -ولو على استحياء- عام 2016.

وستؤدي المواقف الأوروبية أيضا لإفشال الاندماج عبر تشجيع ثقافة الكراهية إزاء كل ما هو تركي ومسلم، بما يترتب عليه من انهيار لبرامج اندماج الأجانب والمهاجرين واللاجئين، وضياع موازنات تناهز المليارات سنويا، مع أن الأصل هو تشديد القوانين ضد جرائم الحض على الكراهية أسوة بقوانين معاداة السامية، لوقف مزيد من التمزق المجتمعي الداخلي.

وحتى لو سلمنا جدلا بتوقف حملة الترك فوبيا عقب الاستفتاء التركي المرتقب، فإن الآثار العميقة الناجمة عن تلك الحملة عصية على العلاج لأجيال، كون الاندماج يقوم أساسا على قيم عالمية معاصرة من بينها احترام التنوع وحرية التفكير والاختيار والعيش والفهم المشترك، وكلها على المحك في خضم عولمة الإسلاموفوبيا الراهنة.

الخطأ السابع خسارة أوروبا تركيا كدرع دفاعي في جنوبها الشرقي لربما إلى الأبد. المستغرب هنا تزامن التصعيد الأوروبي ضد تركيا ومجيئه في وقت تتطابق فيه عناوين السياسة الخارجية التركية مع نظيرتها الأوروبية على المدى البعيد؛ فمثلا ألا تعد المطالبة التركية الدائمة بمنطقة آمنة للسوريين مصلحة أوروبية؟ أليست عملية درع الفرات التركية لاستئصال الإرهاب شمال سوريا مصلحة أوروبية؟ أليست الدعوة التركية لحلف دولي بوجه جرائم بشار الأسد ونظام طهران وتنظيم الدولة لإيقاف النزيف السوري مصلحة أوروبية؟

ثم أليست الإصلاحات الديمقراطية التركية واتفاقات السلام مع الانفصاليين الكرد ومنح الأكراد حقوقهم الثقافية في تركيا عبر حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة مصلحة أوروبية -كما يُفترض-؟ ألا يُعد تصدي تركيا لنزعة بوتين التوسعية في القوقاز وشرق المتوسط وجنوب أوروبا مصلحة أوروبية؟ أليس ضمان تركيا إمدادات الطاقة لأوروبا مصلحة أوروبية؟

أليس سعي تركيا صوب انضمام اقتصاد من أقوى اقتصاديات العالم كالاقتصاد التركي إلى الاتحاد الأوروبي -الذي يخيم عليه شبح الإفلاس- مصلحة أوروبية؟ أليس امتداد أوروبا إلى مصادر الطاقة في الشرق الأوسط عبر البوابة التركية مصلحة أوروبية؟ ماذا عن التزام الجانب التركي باتفاق استيعاب وتوطين اللاجئين مع الاتحاد الأوروبي؟ أليس هو مصلحة أوروبية هو الآخر؟ أوَ كلما أمعنت تركيا بالاقتراب من أوروبا على قاعدة تكامل المصالح، تزداد أوروبا بعدا عن تركيا على قاعدة حرق المشترك من المصالح؟ من هو عدو أوروبا حقيقة؟ أهُو تركيا أم أوروبا نفسها؟

الخطأ الثامن تهديد مصالح أوروبا السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر تقويض الاتفاق الأوروبي التركي حول اللاجئين.

ستؤدي المواقف الأوروبية أيضا لإفشال الاندماج عبر تشجيع ثقافة الكراهية إزاء كل ما هو تركي ومسلم، بما يترتب عليه من انهيار لبرامج اندماج الأجانب والمهاجرين واللاجئين، وضياع موازنات تناهز المليارات سنويا، مع أن الأصل هو تشديد القوانين ضد جرائم الحض على الكراهية

لا مصلحة لطرف في التصعيد بما يمس ملفي الاقتصاد واللاجئين، والخطأ كل الخطأ إقحامهما في صلب السجال الدائر حاليا. ترى من المستفيد من دعوات تصعيد مقاطعة تركيا سياحيا، أو تلويح وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله بورقة استمرار مساعدة تركيا على استبقاء اللاجئين فيها بديلا عن اللجوء لأوروبا؟ الجانب التركي أوفى بالتزاماته، إذا لمصلحة من يماطل الأوروبيون في تقديم المساعدات وإعفاء الأتراك من تأشيرة دول شنغن؟ ولمصلحة من يتم تسليح قوى انفصالية إرهابية لضرب عمق المدن التركية بسلاح وأموال من جيب دافعي الضرائب في عدد من الدول الأوروبية؟

الخطأ التاسع الإمعان في مقاربة مضللة على صعيد الجغرافيا والتاريخ تباعد ما بين الأمن القومي التركي والأمن القومي الأوروبي، عبر استحضار التاريخ العثماني وصورة تركيا كدولة عظمى وعدو لدود لكل ما هو أوروبي، وبمعنى آخر اعتبار كل خطوة صوب التنمية السياسية والنمو الاقتصادي والاجتماعي والعسكري في تركيا تهديدا لمستقبل الأمن الأوروبي، الذي يحتاج تركيا في واقع الأمر، كواقٍ بوجه التهديدات القادمة من الشرق.

الخطأ العاشر سياسة حرق الأوراق وتدمير المصداقية بما يقطع خط الرجعة في العلاقة مع دولة بوزن جيوسياسي هائل كتركيا.

برهنت الأزمة الجارية على ارتفاع عقيرة المعسكر الداعي للمواجهة مع تركيا بقيادة دول وسط أوروبا على حساب همس دعاة العقلانية في التعامل مع الملف التركي كإيطاليا وبريطانيا. وعندما تقوم زعيمة اليمين العنصري الفرنسي لوبان بزيارة لبنان لأغراض انتخابية تستهدف أصوات 23 ألف لبناني مزدوج الجنسية يحق لهم التصويت في الانتخابات الفرنسية، وعندما تسمح أوروبا لـ"إرهابيين" -يقتلون أتراكا وأوروبيين في الشوارع التركية- بتنظيم فعاليات جماهيرية في دول أوروبية، في وقت يُمنع فيه مسؤولون أتراك من التحدث مع الملايين من ناخبيهم على الساحة الأوروبية، ألا تكون رسالة أوروبا هنا أن ممثل تركيا الشرعي والوحيد -المعترف به لديها- هم "الإرهابيون القتلة" لا الحكومات الشرعية المنتخبة من شعوبها ديمقراطيا؟

وبما أن التعديلات الدستورية المقترحة من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم تستحدث نظاما رئاسيا على غرار ما هو متبع في الولايات المتحدة الأميركية التي تتبعها أوروبا في سياساتها الخارجية والدفاعية، يتبادر السؤال حول الدافع الحقيقي وراء هستيريا الترك فوبيا الراهنة: أهو كيف تُحكم تركيا؟ أم من يحكم تركيا تحديدا؟ وهل ترمي تلك الحملة لإنقاذ آخر ما شيده الغرب من بنية تحتية وأذرع سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية في الساحة التركية على أنقاض الدولة العثمانية، وآخرها دستور انقلابي تطيح به تعديلات دستورية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.