الحصاد الأمني لانقلاب السيسي

صورة 4 شرطة بزي مدي تلقي القبض على مشاركين في مظاهرة احتجاجية 25 يناير 2015 بمحيط ميدان التحرير-السيسي سن قوانين طوق بها رقبة المعارضة.jpg

إرهاب بزي رسمي
سيناء الجريحة
رسائل خطيرة
حصاد مرير

 

 

"يوم الجمعة القادمة لابد من نزول كل المصريين الشرفاء الأمناء. ينزلوا ليه؟ ينزلوا عشان يعطوني تفويض وأمر لمحاربة العنف والإرهاب المحتمل." عبارات قالها الفريق عبد الفتاح السيسي يوم ٢٦ يوليو/تموز ٢٠١٣، بعد أسابيع من قيادته الانقلاب العسكري الأكثر دموية في تاريخ مصر الحديث. وبعد ثلاث سنوات، صار العنف والإرهاب حقائق، لا احتمالات. فما هو الحصاد الأمني للانقلاب خلال السنوات الثلاث الأخيرة؟

إرهاب بزي رسمي
تصاعد العنف السياسي بشكل غير مسبوق في ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣، حين قرر السيسي مع قادته العسكريين والأمنيين فض اعتصامات ضخمة في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة والنهضة بالجيزة، حيث احتشد معارضون لإزاحة أول رئيس منتخب لمصر، الدكتور محمد مرسي.

فض الاعتصام سمته منظمة "هيومان رايتس واتش" الحقوقية "أسوأ عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث" و "جريمة محتملة ضد الإنسانية"، وقد رجحت المنظمة أن يكون عدد القتلى أكثر من ألف معتصم قُتِلوا في نحو عشر ساعات (مائة قتيل في الساعة). وقد وثق حينها المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية ٩٣٢ جثة توثيقا كاملا، و٢٩٤ جثة توثيقا جزئيا، مع وجود ٢٩ جثة مجهولة الهوية. وتشمل هذه الأرقام ٣٠ جثة لقاصرين و١٧ امرأة.

أثّر الانقلاب وما تبعه من إجراءات قمعية على الوضع الأمني في مصر وخارجها، ولاتزال الآثار تتوالى كذلك على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الذكرى الثالثة له. وفيما يخص البعد الأمني فقد تفاقمت ثلاث أزمات كحصاد مباشر للانقلاب: التمرد المسلح في سيناء، الكفر بالمقاومة المدنية، واشتعال الحرب على الديمقراطيين والديمقراطية.

سيناء الجريحة
بعيدا عن الدماء التي سالت في القاهرة والجيزة في صيف ٢٠١٣، تفاقم الوضع في سيناء -المضطربة أصلا منذ أكثر من عقد- بشكل سريع. ففي ٢٧ يوليو/تموز شنت قوات نخبة من الجيشين الثاني والثالث الميداني، بمساعدة من سلاح الجو ما سماه العسكر "بعاصفة الصحراء". وقد أعلن بعدها المتحدث العسكري مقتل ٧٨ "إرهابيا"، واعتقال٢٠٧، والقضاء على "الإرهاب" في سيناء. بعد أشهر قليلة، أسقط المسلحون السيناويون مروحية عسكرية من طراز Mi-17 بصاروخ أرض-جو موجه، وهو ما بين أنهم تطوروا ولم ينتهوا، وأن قدراتهم العسكرية أصبحت غير مسبوقة في تاريخ التمردات المسلحة وحروب المغاوير غير النظامية في مصر.

وفي ١٠ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٤، أعطى المسلحون المحليون البيعة لتنظيم الدولة بعد أن أعلن الأخير "خلافته" في الموصل. وصار الكيان الجديد يُعرف "بولاية سيناء،" بعد أن ضم معظم فصائل تنظيم "أنصار بيت المقدس" مع مجموعات محلية أخرى أصغر منه. كان هذا تطورا جديدا لافتا، فلم يبايع أية تنظيم جهادي مصري تنظيما أكبر منه خارج الحدود من قبل.

تنشر "ولاية سيناء" تقاريرها العسكرية شهريا وسنويا؛ فبين نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٤ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٥ (موافق لعام ١٤٣٦هجريا)، زعمت "الولاية" قتل نحو ٨٠٠ جندي وضابط نظامي وأكثر من ١٠٠ مخبر ومتعاون. كما زعمت استيلائها على مدافع هاون ثقيلة (١٢٠ مم)، ومضادات طائرات من طراز ZU-23 (٢٥مم)، ورشاشات ثقيلة من طراز DShK (14.5 مم)، وعشرات البنادق الآلية من طراز الكلاشينكوف (7.62 مم)، وكلها أُخذِت أثناء هجمات أو هجمات مضادة على القوات النظامية.

وفي أكتوبر/تشرين أول ٢٠١٥، اخترقت عناصر "الولاية" الإجراءات الأمنية لمطار شرم الشيخ، وزرعت قنبلة صغيرة على طائرة إيرباص روسية، مما أسفر عن مقتل ٢٢٤ من ركابها وطاقمها، وهي -بهذا العدد من الضحايا- تعد أسوأ عملية إرهابية في تاريخ كل من مصر وروسيا.

وفي يناير/كانون الثاني، وفبراير/شباط ٢٠١٦، زعمت "الولاية" تدمير ٢٥ مدرعة (بما في ذلك دبابات وكاسحات ألغام وجرافات لهدم البيوت والأنفاق)، وقتل ١٠٠ جندي (لم يؤكد الجيش النظامي إلا مقتل ٣٧ منهم فقط). وبغض النظر عن الخلافات في أعداد قتلى الطرفين، والبروباغاندا والبروباغاندا المضادة المستخدمة من الطرفين، فإن الشيء المؤكد هو أن التمرد لم ينته لا في يوليو/تموز ٢٠١٣ ولا في يوليو/تموز ٢٠١٦، وإنما تفاقم.

واذا كان التمرد قد بقى وتمدد في سيناء والصحراء الغربية ما بين سبتمبر/أيلول ٢٠١٣ ويوليو/تموز ٢٠١٦، فإن عناصره وصلت للقاهرة في سبتمبر/أيلول ٢٠١٣ (محاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم)، ولكنها لم تتمدد فيها.

عانت قوى الأمن والجيش في القاهرة وبعض مدن الدلتا من مفخخات التنظيم وهجمات المسلحين، ولعل آخرها كان هجوم حلوان في مايو/أيار الماضي، حين استهدفت مجموعة مسلحة حافلة سرية لقوات الأمن. قتل المهاجمون ثمانية أفراد أمن، ثم اختفوا داخل الغابة الإسمنتية (ضاحية حلوان) التي عانت ولازالت تعاني من الفقر والتهميش والقمع.

تَفَاقُم الوضع في سيناء لم يكن هو الحصاد الأمني الوحيد للانقلاب؛ فقد بعث الانقلاب -عبر سياساته وسلوكياته- برسائل شديدة الخطورة لكثير من النشطاء الشباب المؤيدين للتغيير (ثوريا كان أو إصلاحيا)، مفادها أن قدرة المقاومة المدنية على التغيير محدودة، وأن صندوق الرصاص أكثر فعالية من صندوق الاقتراع ومن الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات، وأن إستراتيجية "استئصال المخالف" أكثر شرعية بين جماهير المؤيدين والمصفقين من إستراتيجية "الإدماج والتسوية" حقنا للدماء.

وقد أثر ذلك كله بالسلب على توجهات النشطاء والسياسيين المعتدلين، وخاصة الذين قرروا خوض المعترك السياسي بوسائل ديمقراطية سلمية، فكان مصير الكثير منهم التهميش والسخرية، وأحيانا الراديكالية.

رسائل خطيرة
وفي هذا الإطار حالتان جديرتان بالذكر، الأولى هي حالة الشرطي السابق والناشط الديمقراطي، أحمد الدروي، الذي كان مرشحا نيابيا في أول انتخابات برلمانية حرة ونزيهة في مصر عام٢٠١٢. وبعد مجزرة ميدان رابعة، انضم لتنظيم الدولة وقُتل تحت رايته، بعد أن رأى بعينه فشل المقاومة المدنية والنخب السياسية في إحداث تحول ديمقراطي.

أما الحالة الثانية، فهي حالة رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، عصام دربالة. فقد خرجت "الجماعة" من صفوف التيار الجهادي بعد مواجهات دموية خلال عقد التسعينيات، وأعلنت التخلي عن العنف السياسي -بأشكاله المختلفة بما فيها الإرهاب- عام ١٩٩٧، وقبلت بالعمل الديمقراطي حين سمحت البيئة السياسية بذلك بعد إسقاط مبارك في فبراير/شباط ٢٠١١.

وما بين ٢٠٠٢ و٢٠٠٩ ألف قادة الجماعة -ومن بينهم دربالة- أكثر من ثلاثين كتابا لمواجهة أيديولوجية تنظيم القاعدة، وتفكيك خطاب وجدليات التيار الجهادي. وبعد أن أعلن بعض المحسوبين على تنظيم الدولة نيتهم إعلان "ولاية" في صعيد مصر في أبريل/نيسان ٢٠١٥، قام دربالة بجولة في مناطق الصعيد (جنوب وادي النيل) في مايو/أيار ٢٠١٥ لتحذير الشباب من خطورة تبني إيديولوجية وسلوكيات تنظيم الدولة، وكانت إحدى رسائله الأخيرة إلى مؤيديه "ألا يكفروا بالسلمية ولا بالوسائل الديمقراطية" بالرغم من كل ما حدث.

ورغم مجهوداته، اعتقل دربالة وتُوفي في السجن في أغسطس/آب 2015، ولعل رمزية وفاته في السجن بعد جهوده تضيف قتامة ورسالة واضحة لمن ينحو نحو الاعتدال: لا مزايا أو مكافآت، فقط المزيد من القمع والإذلال، وهي رسائل -بلا شك- تزيد من تفاقم الوضع الأمني وخطورته.

حصاد مرير
كانت إحدى الأسباب الرئيسية المعلنة لانقلاب يوليو/تموز ٢٠١٣ هي مواجهة العنف والإرهاب المحتمل، وكانت إحدى النتائج الرئيسية له هي تصاعد عمليات العنف والإرهاب الحقيقي. وبينما يتفاقم الوضع الأمني بشكل غير مسبوق، لا توجد مؤشرات على رغبة سياسية أو أمنية في تهدئة الأوضاع، أو مراجعة سياسات الاستئصال، أو حتى تخفيف الحرب على الديمقراطية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.