انتخابات بيرزيت.. رسائل متعددة في اتجاهات مختلفة

كتلة الوفاء الإسلامية جامعة بيرزيت


لعل انتخابات مؤتمر مجلس طلبة جامعة بيرزيت للعام 2016/2017، والتي أُعلنت نتائجها مساء يوم الأربعاء 27 نيسان/إبريل 2016، وفازت فيها الكتلة الإسلامية (الذراع الطلابية لحركة حماس)؛ واحدة من أهم الانتخابات التي أُجريت في تاريخ هذه الجامعة، وربما في تاريخ الحركة الطلابية الفلسطينية عموما.

ويعود ذلك لأسباب متعلقة أساسا بالظرف السياسي الفلسطيني الراهن، والذي لا ينفك عن الظرف الإقليمي، وهو ما أدركته السلطة الفلسطينية هذا العام، حينما لم تكتف بالأدوات القديمة، لاسيما الأمنية والخفية منها، في دعم الكتلة الطلابية الممثلة لحزب السلطة، وإنما سخرت لذلك هذه المرة الوزارات المدنية، كما فعلت وزارة التربية والتعليم العالي التي قدمت رسالة لصالح حركة الشبيبة (ذراع حركة فتح الطلابية)، تستجيب فيها لبعض من الوعود التي طرحتها الأخيرة على طلاب الجامعة في سياق دعايتها الانتخابية، وذلك بالإضافة إلى وعود أخرى، مالية تحديدا، تنوء بها قدرات أي كتلة طلابية.

شكلت حرب غزة عام 2014، رافعة دعائية كبيرة لحركة حماس، عوضتها عن حرمانها من فضاءات ومنابر العمل العام في الضفة الغربية، وبدت تلك الحرب بالنسبة لها، ودون إغفال الفوارق الموضوعية، كمعركة الكرامة بالنسبة لحركة فتح في 1968، وقد انعكس ذلك في نتيجة انتخابات بيرزيت

ليس ذلك إلا جزءا من المشهد، فالانتخابات في حقيقتها، من الناحية الإجرائية لا من الناحية السياسية، بين كتلة طلابية محظورة من طرف الاحتلال، ومحاصرة من طرف السلطة الفلسطينية، وبين السلطة التي تستنفر كل أدواتها لدعم وإسناد الكتلة الممثلة لحزبها الحاكم، إذ إن حركة حماس محرومة تماما من كل فضاءات العمل العام في الضفة الغربية، بسبب استهداف الاحتلال والسلطة لها، فهي لذلك تفتقر إلى قدرات الحشد والتأطير والتنظيم والتواصل مع الشريحة الطلابية، سواء طلاب المدارس الصاعدين إلى الجامعات، أو طلاب الجامعات، لتعتمد كتلتها الطلابية وبشكل كامل على ممكناتها الذاتية.

وإذا كانت هذه الكتلة محظورة إسرائيليا ويتعرض عناصرها للاعتقال والمحاكمة لمجرد العمل في إطارها، فإنها عانت من ظروف غاية في القسوة من بعد الانقسام في العام 2007، حتى باتت أقرب إلى التنظيم المحظور في إجراءات السلطة الفلسطينية تجاهها، ومن ثم فإن فوزها خلاصة لعملية نضالية طويلة وشاقة، فضلا عن العوامل السياسية والنقابية المفضية بدورها إلى هذا الفوز.

شكلت حرب غزة عام 2014، رافعة دعائية كبيرة لحركة حماس عوضتها عن حرمانها من فضاءات ومنابر العمل العام في الضفة الغربية، وبدت تلك الحرب بالنسبة لحماس، وبدون إغفال الفوارق الموضوعية، كمعركة الكرامة بالنسبة لحركة فتح في العام 1968، وقد انعكس ذلك في نتيجة انتخابات جامعة بيرزيت العام الماضي، فكتلتها الطلابية وإن فازت في انتخابات الجامعة مرات عديدة، فإن فوزها الذي تلا الحرب لم يكن مسبوقا في حجمه، وهو ما عُد طفرة في حال لم يتكرر.

بيد أن انتخابات هذا العام كرست نتيجة العام السابق، بالرغم من انعدام الحدث الفارق الذي يمكنه أن يمنح حماس الدفعة الكبيرة التي أخذتها بفضل الحرب السابقة، وهو ما يعني أن وعي الشرائح الشابة في الضفة الغربية، قد أخذ بالتجدد والتحرر، خطوة فخطوة، من الوعي الزائف الذي خلقته أحداث الانقسام في غزة في العام 2007، وبكلمة أخرى عادت حماس بالتدريج لتحتل موقع حركة المقاومة، في الوعي الفلسطيني، أكثر من موقعها كحركة تنافس على السلطة، في مقابل الحركة التي قادت مشروع السلطة السياسي، وتماهت معها وارتبطت بها عضويا.

وإذن، تحظى انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت هذا العام بأهمية بالغة، بالنظر إلى الانتخابات التي سبقتها، وفي السياق الذي جاءت فيه سياسيا، من جهة خطاب السلطة الرسمي المعادي للمقاومة، والمتحفظ في أحسن أحواله، تجاه انتفاضة القدس الجارية، وأيضا إجرائيا بالنظر إلى استنفار السلطة لكل إمكاناتها دعما لكتلتها الطلابية، في مقابل افتقار الكتلة المنافسة إلى الظرف المكافئ فضلا عن الحصار الأمني، والتحديات الجسيمة التي يواجهها عناصرها وكوادرها، والكلفة الباهظة التي يدفعونها، والمحاذير التي يفرضها العامل الأمني على مناصريها ومنتخبيها، غير أنها مُهمة أيضا من جهة الجامعة التي أُجريت فيها هذه الانتخابات، فأي شيء يميز جامعة بيرزيت؟

لا تخلو جامعة بيرزيت من ميزات خاصة، تمنح انتخاباتها دلالات لافتة، فهي -فضلا عن عراقتها وإرثها الوطني والنضالي-جامعة ليبرالية أسستها أسرة مسيحية، وتتوسط الضفة الغربية مما يجعلها ملتقى طلاب وطالبات الضفة الغربية كلها

لا تخلو جامعة بيرزيت من ميزات خاصة، تمنح انتخاباتها دلالات لافتة، فهي وفضلا عن اشتراكها مع جامعات أخرى في عراقتها وإرثها الوطني والنضالي، فإنها جامعة ليبرالية أسستها أسرة مسيحية، وتتوسط الضفة الغربية مما يجعلها ملتقى طلاب وطالبات الضفة الغربية كلها، بيد أن حرص مؤسسي الجامعة ومجلس أمنائها على استقلاليتها، وتحررها من ضغوط وإكراهات السلطة؛ هو الميزة الأكبر لهذه الجامعة، بعدما تمكنت السلطة من إعادة هندسة بقية جامعات الضفة، إلى الدرجة التي حولتها فيها إلى ملحقات بالسلطة السياسية، تمارس فيها الإدارات ما تمارسه السلطة خارج الجامعات، فظلت جامعة بيرزيت -نسبيا- الجامعة الأكثر قدرة على إدارة انتخابات نزيهة وذات قدرة تمثيلية، ومع الجمود السياسي الذي فرضته السلطة الفلسطينية، باتت هذه الجامعة المتنفس السياسي الوحيد للفلسطينيين.

يأتي فوز الكتلة الإسلامية للعام الثاني على التوالي، ورغم حشد السلطة ودفعها لإنجاح كتلتها، وإذ ينتظم هذا الفوز مع انتفاضة القدس، وإضراب المعلمين؛ كمحاولة جادة من الفلسطينيين لامتلاك المبادرة بما يتجاوز السلطة السياسية، ويأتي من جهة أخرى تعبيرا عن الضيق الشعبي بالسلطة وسياساتها. وفي هذا السياق يمكن أن يلتقي هذا الناظم بالظرف الإقليمي، ليعطي معنى جديدا يفيد استحالة استئصال التيار الإسلامي، بما هو تيار شعبي متجذر في مجتمعاتنا، وقد سبقت محاولات استئصال حركة حماس في الضفة الغربية، عمليات استئصال الإسلاميين الجارية الآن في الإقليم العربي.

وإذا كان التصويت لصالح حماس، يُفسر عادة، على أنه عقاب للسلطة السياسية، فإن أصحاب هذا التفسير الأحادي لموضوع تتعدد العوامل الفاعلة فيه، لا يفسرون السر الذي يجعل الأصوات المنصرفة عن فتح تتجه إلى حماس تحديدا، وليس إلى أي من الكتل غير المتورطة في الانقسام، بل إن كل انتخابات فلسطينية تزيد حقيقة الموقف وضوحا، من حيث استمرار استحواذ الفصيلين الكبيرين (حماس وفتح) على الجمهور الفلسطيني، وعدم قدرة أي من الخيارات الأخرى على الاستفادة من صراع هذين الفصيلين.

وإذا كان عامل المقاومة يعزز من فرص حماس، ولاسيما بعد الرافعة التي صنعتها الحرب الأخيرة في غزة، فإن هذا لا يعني ميكانيكيا، أن كل الأصوات التي تتجه إلى فتح معترضة على خيار المقاومة، إذ لا يزال الإرث النضالي لحركة فتح، مادة دعائية تتمتع بقدر من الفاعلية، وتلجأ لها الأطر الطلابية التابعة لفتح، كلما أحرجها الموقف السياسي الراهن لحركتها.

وقد نأت كتلة فتح في هذه الانتخابات عن قيادتها السياسية الراهنة، وحاولت منافسة حماس على خطاب المقاومة، كما لجأت إلى الوعود النقابية، وهذا وإن كان مؤثرا في نسبة من الشريحة المستهدفة بالخطاب، فإنه يستبطن استغفالا للطالب القادر على عرض الخطاب داخل الجامعة على الوقائع خارجها، ومن ثم فإنه لم يفلح في تحقيق الفوز المطلوب للكتلة التي تمثل السلطة السياسية، وترتبط بها شرائح اجتماعية واسعة، كأي سلطة حاكمة في العالم العربي.

لا يحتاج مسار فتح إلى مثل هذه الانتخابات لإثبات خطئه، كما لا تحتاج الأطر الشابة في فتح إلى مثل هذا الإنذار، ولكن الظاهر أن هذه الأطر باتت عاجزة عن إنتاج محاولات تتجاوز مواقف القيادة المتنفذة، فقد تكرست كامتدادات لسياساتها الرسمية بأبعادها كلها

وفي المقابل أيضا، لم يكن عامل المقاومة هو الفاعل الوحيد في اجتذاب أصوات الطلبة لصالح كتلة حماس، فهذه الكتلة قطفت في النهاية ثمرة نضالها المثير للإعجاب في مواجهة حملات الاستئصال المركزة، وقدمت أداء نقابيا مقنعا للطالب، وتمكنت من الفصل بين أدوارها المتعددة بين ما تمثله من تصور إسلامي وموقف سياسي ودور نقابي، فخففت من أدلجتها حيثما وجب ذلك، وباتت أكثر قدرة على استيعاب الجميع بما يليق بها ككتلة نقابية، وامتداد لحركة تحرر وطني، ثم هي الكتلة التي قدمت العديد من كوادر صفها الأول معتقلين لدى الاحتلال، بما في ذلك رئيس مجلس الطلبة، بعدما قادت عبر رئاستها للمجلس الفعاليات الشعبية الأهم في انتفاضة القدس، في استعادة رائدة للدور القيادي الذي لعبته الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت في هبات وانتفاضات الشعب الفلسطيني منذ ما قبل الانتفاضة الأولى وحتى نهاية الانتفاضة الثانية.

وأخيرا، لا يحتاج مسار فتح إلى مثل هذه الانتخابات لإثبات خطئه، كما لا تحتاج الأطر الشابة في فتح إلى مثل هذا الإنذار، ولكن الظاهر أن هذه الأطر باتت عاجزة عن إنتاج محاولات تتجاوز مواقف القيادة المتنفذة، فقد تكرست كامتدادات لسياساتها الرسمية بأبعادها كلها، ولكن على الأقل ينبغي على فتح أن تيأس من محاولاتها استئصال حماس، وأن تقبل بها شريكا وطنيا.

أما حماس، فهي مدعوة لتطوير الخطاب المتقدم الذي صاغته كتلتها الطلابية في بيرزيت، سعيا نحو حركة تحرر وطني تجد فيها جماهير الشعب كافةً صورتها، وإذا كانت الحرب الأخيرة قد فتحت فرصا يمكن استثمارها شعبيا، وقد أكدتها الانتخابات الأخيرة، فإن على حماس ألا تفوت ذلك، مهما بلغت التحديات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.