صورة إسرائيل في ذكرى إقامتها الـ64

صورة إسرائيل في ذكرى إقامتها الـ64
 
لم يكن مصادفة أن يربط المؤرخ الصهيوني الراحل بنتسيون نتنياهو والد رئيس الحكومة الحالي، بين ذكرى النكبة الفلسطينية وما يسمى "استقلال" إسرائيل -وهما مناسبتان متناقضتان متعارضتان تحلان هذه الأيام- بمقولته الشهيرة "طالما أن الفلسطينيين يعتبرون يوم استقلالنا يوماً لنكبتهم، فلا مجال لحل الصراع بيننا وبينهم"!

هذا العام، تحيي إسرائيل ذكرى تأسيسها الـ64، وهي تجري كشف حساب لها، من خلال دراسة جملة من الظواهر المصاحبة لها، باتت تؤرق صانع القرار فيها، اليوم وفي قادم الأيام.

التقلص الميداني
منذ قرن من الزمن، وقع اختيار الصهاينة على فلسطين لإقامة دولتهم على أرضها، ولم يكن الاختيار عبثياً، اعتباطياً، عشوائياً، بل ضمن التحديد الصهيوني، باعتبار أن الدولة المقامة عام 1948 جاءت على جزء من أرض إسرائيل، وأصبح إنجاز الهدف المتمثل في إقامة "إسرائيل الكبرى"، المهمة الأساسية لإسرائيل الصغرى.

ووفق هذا المنطق، فما أسفرت عنه حرب 1967 من احتلال ما تبقى من أراض فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يَعْدُ أن يكون خطوة أخرى على طريق إنجاز الهدف الصهيوني الأكبر.

تواترت اعترافات القادة العسكريين والمفكرين الإسرائيليين بأن الاضطرار لتنفيذ انسحابات ميدانية من أراض عربية وفلسطينية محتلة، مثل تراجعاً واضحاً للمشروع الصهيوني الذي تجند للنيل من الشعب الفلسطيني

ولما اضطرت إسرائيل للانسحاب من أجزاء مختلفة من هذه الأراضي بفعل ضراوة المقاومة، تواترت اعترافات القادة العسكريين والمفكرين الإسرائيليين بأن الاضطرار لتنفيذ انسحابات ميدانية من أراض عربية وفلسطينية محتلة، مثل تراجعاً واضحاً للمشروع الصهيوني الذي تجند للنيل من الشعب الفلسطيني.

وجاءت هذه الاعترافات على النحو التالي:
– الرئيس السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية (شاباك) آفي ديختر يقول: لا أحد يستطيع إنكار أن الفلسطينيين حققوا إنجازاً كبيراً بدفع إسرائيل لإخلاء مستوطناتها من قطاع غزة بدون مقابل سياسي، وبالتالي فإن الاستنتاج الذي توصل إليه الفلسطينيون أن نضالهم المسلح أثمر انتصاراً عليها.

– القائد السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) الجنرال شلومو غازيت يرى أن على إسرائيل تعلّم الدرس من اضطرارها لتنفيذ الانسحابات من بعض الأراضي العربية، خاصة من فلسطين ولبنان، وهو أنه عاجلاً أم آجلاً ستكون مضطرة للجلاء عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنه لا يمكن إعطاء توصيف آخر للاحتلال غير هذا المصطلح.. "الاحتلال".

– وزير البنى التحتية عوزي لانداو يقول: إن الاضطرار الإسرائيلي للجلاء عن بعض الأراضي العربية والفلسطينية في الوقت الذي تتواصل فيه المقاومة، يدل على انتصارها وعلى هزيمة تاريخية لإسرائيل.

– رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يقول: إن خطة فك الارتباط عن قطاع غزة تمثل انتصاراً هاماً لحركة حماس ولفكرها المقاوم، وبإمكان الفلسطينيين أن يعبّروا عن فرحتهم بهذا النصر الكبير الذي لم يكن له مثيل في كل مواجهات دولة إسرائيل.

– زعيم المستوطنين في قطاع غزة وعضو الكنيست السابق تسيفي هندل يقول: قالوا لنا دائماً، دعوا الجيش ينتصر، لكن الذي حدث أن الفلسطينيين انتصروا، وإذا كانت الحكومة تجعل الجيش يفر على هذا النحو المخزي، فلماذا جعلونا نستثمر كل هذا الجهد في بناء المستوطنات وتقديم تضحيات من أجلها؟

– المعلق السياسي في صحيفة "معاريف" شالوم يروشالمي طالب صناع القرار في تل أبيب بالإقرار بالحقيقة أمام الرأي العام الإسرائيلي، والاعتراف بهزيمة المشروع الاستيطاني، مشيراً إلى أن الحيرة الأساسية تكمن في المستوى المعنوي، فالانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية انتصار للمقاومة، ولا يمكن إنكار ذلك.

– مستشار الأمن القومي الحالي الجنرال المتقاعد يعكوف عميدرور يعتبر أن قوة الردع الإسرائيلية في مواجهة المقاومة الفلسطينية انهارت بعد تنفيذ الانسحابات من أراض عربية وفلسطينية، لأن الأمر الذي بات معروفاً للفلسطينيين والعرب أن بإمكانهم الحصول على منجزات سياسية إذا واصلوا استخدام الضغط على إسرائيل، وللأسف فإننا ننسحب بعدما تبين للفلسطينيين أنه بالإمكان هزيمتنا!

انكماش التأثير السياسي
تعتقد إسرائيل يأن المسوغ الأساسي لقيامها على أنقاض الأرض الفلسطينية، جاء لتكون قاعدة عسكرية متقدمة للمشروع الغربي في المنطقة العربية، وفي مراحل لاحقة تحولت لتصبح "حاملة طائرات" بكل ما تحمل الكلمة من معنى، مما جعلها "الطفل المدلل" للعواصم الغربية، ليس بالضرورة حباً في سواد عيون اليهود، ولكن لأنهم يقدمون خدمات جليلة "غير مجانية" لتلك العواصم.

ومع ذلك، فإن الضلع الثاني من أضلاع الأزمة الإستراتيجية لإسرائيل إقليمياً ودولياً -وهي تحيي ذكرى قيامها الرابعة والستين- يتمثل في شعورها بفقدان الدور والوظيفة المناطة بها منذ تأسيسها، لاسيما بالنسبة للغرب.

وتمثل ذلك في ما عرضته شعبة التخطيط في هيئة الأركان العامة للجيش، من تقديرات متشائمة للأوضاع السياسية والأمنية بشكل استثنائي، واعتقادها بأن الذكرى السنوية الحالية لاستقلال الدولة تشهد تفاقماً لبيئتها الإستراتيجية بشكل خطير، مما سيجعلها تقف في وضع بالغ الصعوبة أكثر من الوضع الحالي.

ويتزامن هذا الأمر بصورة وثيقة بما يسمى "تآكل" المواقف الأميركية في الساحة العالمية، مما سيجعل من قدرتها على تحقيق استقرار الشرق الأوسط مقيدة مقارنة بالماضي.

إسرائيل موجودة في وضع يمكن فيه أن تهتز، وكل جهد لمنع هذه الاهتزازات سيكون منوطاً بثمن دبلوماسي، وبصعوبة في استيعاب التحديات الأمنية

ولمحاولة استدراك تراجع الوظيفة الغربية للدولة الإسرائيلية، تطالب تلك الأوساط صناع القرار بالتصدي للتحديات العسكرية والسياسية المناطقية، وللتآكل في أساس قوة ردعها، لأن ذلك سيتركها فترة من الزمن تقف بانتظار الحسم في مواضيع سياسية وأمنية جوهرية، وسيكون لها تأثير حتمي على الحلبة السياسية الداخلية والخارجية.

فإسرائيل موجودة في وضع يمكن فيه أن تهتز، وكل جهد لمنع هذه الاهتزازات سيكون منوطاً بثمن دبلوماسي، وبصعوبة في استيعاب التحديات الأمنية.

أما على الصعيد الخارجي، فإنها تعيش فترة تتميز بتفاقم سريع للتهديدات الأمنية والسياسية المحدقة بها، وتدهور وضعها الإستراتيجي في ظل الحراك العربي المتلاحق، وفقدانها لأنظمة شكلت لها على الدوام مخزوناً احتياطياً عز نظيره.

والمثير أن سيطرة إسرائيل باتت محدودة على حجم هذه التغيرات وآثارها، مما سيجعلها تجد نفسها عالقة في وضع لا تملك فيه ردوداً على أكثر التحديات التي تؤثر في مكانتها السياسية ووضعها الأمني في السنوات المقبلة.

وربما ما يزيد الأمور تعقيداً وسواداً لدى مراكز التفكير الإسرائيلية، ما تشهده العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أزمة غير مسبوقة في حدّتها حول جملة من المواقف، لعل أهمها الصراع مع الفلسطينيين، وجميع المؤشرات تقطع بما لا يدع مجالاً للشك أن شرخاً أصاب "الحليفين الإستراتيجيين"!

وهناك تخوّف من أن تصل العلاقات بين تل أبيب وباقي العواصم الغربية مرحلة "الطلاق البائن"، في ضوء أن الأزمة الحالية بينهما لا تتلخص في الفوارق السياسية العميقة القائمة، بل في الاختلاف العميق في أوضاعهما.

فقدان الردع
يشهد المراقب لحالة إسرائيل بعد مرور 64 عاما على تأسيسها، سلّماً بيانياً يميل إلى التراجع في مختلف المستويات السياسية والأخلاقية والسكانية. وتقتضي الضرورة العلمية الإشارة إلى أن هذه التراجعات باتت على أبواب المستوى العسكري، رغم أنه شهد طفرات كبيرة -وكبيرة جدا- خلال العقود الماضية.

وهو الأمر الذي وجد ترجمته العملية والميدانية في نجاح "جيش الدفاع الإسرائيلي" في تحقيق نجاحات عسكرية عز نظيرها في التاريخ الحديث والمعاصر، بدءًا بما يسميه المؤرخون الإسرائيليون "حرب الاستقلال" عام 1948 والتي شكلت العد التصاعدي لنكبة فلسطين، وصولا إلى "حرب الأيام الستة" عام 1967 والتي أسماها العرب "نكسة حزيران"، وانتهاء "بحرب سلامة الجليل" عام 1982 والتي نجحت إسرائيل من خلالها في إخراج الثورة الفلسطينية من الأراضي اللبنانية.

ولكن، ما الذي جعل ذات الجيش -ودولته صاحبة القوة العسكرية الرابعة على مستوى العالم- يتوقف عن ذلك المسلسل من الانتصارات؟ وما الذي حل به من تراجعات وعيوب وثغرات؟ ولماذا وصل قطار الانتصارات الإسرائيلية إلى محطته الأخيرة ليبدأ مسلسل الهزائم والإخفاقات؟

يمكن الإشارة إلى بعض هذه الحقائق المادية الملموسة التي يأبى بعض العرب حتى اللحظة الإقرار بها، بدءًا بإخفاق تل أبيب في وقف تمدد انتفاضة الحجارة 1987-1993، والعجز المطبق عن وضع حد للمقاومة اللبنانية خلال حرب 2006، وصولا إلى تواصل معضلة انتفاضة الأقصى ممثلة في حركات المقاومة الفلسطينية خلال حرب 2008/2009.

وهو ما يدفع إلى القول بأن إسرائيل ذات الـ64 عاماً تعاني من غياب حقيقي لمفهوم الردع الذي بنت عليه أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، بعدما ألغت المقاومة الفلسطينية من القاموس الإسرائيلي مصطلح "الحدود الآمنة"، ووقف جيشها عاجزًا أمام ابتكارات المقاومين، مما دفع قادته إلى إعلان عدم امتلاكهم حلولاً سحرية لقمعها، ونجحت في فرض المعاناة المباشرة على الإسرائيليين نتيجة سياسات حكوماتهم المتعاقبة.

وبينت أن اختلال موازين القوى لصالح المحتل، لم يحقق له الحل الذي أراد، بل على العكس، فقد فاقمت من أزمة نظامه السياسي، وأقنعت الأحزاب الحاكمة طوال ستة عقود بأن سياستها القائمة على الضم والإلحاق بأرض "إسرائيل" الكاملة اصطدمت بعقبات جدية، رغم تبنيها شعار الأمن أولاً! وعدم التفاوض في ظل العنف!

عكست المقاومتان الفلسطينية والعربية طوال عقود ستة ماضية هي عمر إسرائيل، حالة تدهور وضعها الأمني، وتراجع القيمة الردعية لجيشها، خاصة مع الجرأة المتزايدة للمقاومين

وعكست المقاومتان الفلسطينية والعربية طوال عقود ستة ماضية هي عمر إسرائيل، حالة تدهور وضعها الأمني، وتراجع القيمة الردعية لجيشها، خاصة الجرأة المتزايدة للمقاومين، مما أشار إلى تخطيط واستعداد لمواجهة مباشرة مع قوات الأمن، بعدما لوحظ تغير في أساليب عمل خلايا المقاومة التي أصبحت توجه مجهوداتها ضد قوات الاحتلال، ولا ترتدع عن خوض صدامات مباشرة معها، وبات واضحًا أن هذه العمليات سبقتها نشاطات استخبارية وتخطيط وجمع معلومات.

كما شهدت المقاومة خلال مختلف مراحلها وفي جميع جبهاتها الداخلية والخارجية، صراعًا دامياً مع الجيش الإسرائيلي، اشتد من الناحيتين الكمية والنوعية، حيث استمات المقاومون في الصدام على اعتبار أن موتهم سيزيد حدة المواجهة، رغم أن مجموعاتهم المسلحة لم يزد عدد أفراد الواحدة منها على أصابع اليد، تنطلق للاصطياد ولديها سلاح مصدره الأساسي مخازن جيش الاحتلال!

ووصلت إسرائيل إلى قناعة جاءت على لسان أحد قادتها بقوله "حظي أعداؤنا بنجاح عسكري، ولاشك أن هذا النجاح سيثير شهيتهم لإحراز نجاحات جديدة.. لقد ولدت الحرب الاحتلال، والاحتلال ولد المقاومة، والمقاومة ولدت الخطوات الوقائية والقيود والاعتقالات والتحقيقات، ومقابلها الردود، والردود على الردود، وحسابات الدم متواصلة، وأحلام الانتقام، وما نضج مجددًا هو روح الكراهية المتبادلة، وولدت الانتفاضة والمقاومة الواسعة".

أخيراً.. فقد أثبتت أكثر من ستين عاماً من تاريخ إسرائيل على الأرض الفلسطينية، أن المقاومة خلال مختلف مراحلها التاريخية أكدت فشل الهدف الإسرائيلي نحو خفض مستوياتها، لأن الجيش لم يقدر على خوض حرب طويلة، وليس هناك في الأفق ما يشير إلى نهايتها، وقد باتت أطول حرب يخوض غمارها "جيش الدفاع"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.