روسيا والثورات العربية

العنوان: روسيا والثورات العربية

 

تفاوت الاهتمام
محددات المواقف

أظهرت المواقف الروسية حيال ثورات الربيع العربي ممانعة، بل وعداءً مبطناً أحياناً وسافراً في أحيان أخرى، الأمر الذي تترتب عليه قراءة الدور الروسي في المنطقة العربية، ومعرفة حيثياته ومحدداته وحدوده، والأسباب الكامنة وراء توجس روسيا من المتغيرات والتطورات التي حملتها الثورات والانتفاضات العربية، التي بدأت مع نهاية عام 2010 في تونس، وامتدت إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وسواها من البلدان العربية.
 
ولا شك في أن المواقف الروسية حيال الحراك الاحتجاجي الشعبي في البلدان العربية ستترتب عليها خسارة صورة روسيا وسمعتها الموروثة من أيام الاتحاد السوفياتي السابق، إلى جانب خسائر اقتصادية وسياسية وغيرها، ذلك أن هذه المواقف تبدو غير مفهومة ومريبة من طرف جموع المحتجين، وأثارت الغضب والسخط والاستنكار، لكونها تتحدث عن مؤامرات أطلسية غربية تقف وراء الثورات والانتفاضات العربية، وتتبنى روايات الأنظمة الحاكمة، وتصب في خانة دعم الأنظمة الاستبدادية، التي ربطت معها روسيا مصالحها وسياساتها، وأدارت ظهرها لتطلعات الشعوب العربية، ومطالبها بالحرية والكرامة والعدالة.

"
المواقف الروسية حيال الحراك الاحتجاجي الشعبي في البلدان العربية ستترتب عليها خسارة صورة روسيا وسمعتها الموروثة من أيام الاتحاد السوفياتي السابق
"

وقد أثارت المواقف الروسية من المتغيرات العربية العديد من التساؤلات والنقاشات، في أوساط المثقفين والمحللين العرب والروس وسواهم، وتعرضت لانتقادات حادة في البلدان العربية، حيث استغرب كثيرون تصريحات المسؤولين الروس المشوبة بالريبة والحذر، سواء صدرت عن الكرملين أم عن الخارجية الروسية، لكونها لم تكُ مبنية على أسس منهجية أو ضوابط معينة، وتشير إلى أن القيادة الروسية الحاكمة تفضل الاستقرار في المنطقة العربية، والركون إلى الاستثمار الذي تقدمه تحالفاتها وعلاقاتها مع الأنظمة العربية المتقادمة، بالرغم من الإشارات الخجولة إلى مطالب الشعوب المحقة واحتجاجاتها السلمية، فيما يشير واقع الحال إلى تفاوت الاهتمام الروسي بالانتفاضات والثورات العربية.

تفاوت الاهتمام
يلاحظ المراقب للمواقف الروسية أن القيادة الروسية لم تهتم -بشكل كاف- بما حدث في تونس من متغيرات مع الثورة التي اندلعت في 18 ديسمبر/كانون الأول من عام 2010، وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث البحرين، أما تجاه الثورة اليمنية وتداعياتها، فأعربت روسيا عن تخوفها من سير الأحداث، بحجة أن المعارضة اليمنية "مسلحة"، وتضم "عناصر إرهابية"، وكشفت تصريحات المسؤولين الروس عن تحفظات أساسية حيال الثورة اليمنية.

 
في حين أن المتغيرات التي شملت كلا من مصر وليبيا وسوريا نالت اهتماماً أكبر من طرف روسيا، إذ مع بداية الثورة المصرية أطلق الساسة الروس تصريحات حذرة، تعبّر عن عدم رضا وانتقاد لما يجري من حراك احتجاجي، وعن الخشية مما تحمله الثورة من متغيرات، فاتهم بعضهم شركة "غوغل" بتحريض الشعب المصري على الثورة ضد النظام المصري السابق.
والمفارق في الأمر هو أنه كان المفترض أن يشكل إسقاط نظام حسني مبارك فرصة للنظام الروسي، لكي يعيد ترتيب علاقته مع مصر والشعب المصري، وأن يسهم في المساعدة على ولادة نظام جديد يفترق عن النظام السابق، الذي لم يكن تربطه بموسكو أي علاقات مميزة، ووضع كل أوراقه في يد الولايات المتحدة الأميركية.
 
لكن القادة الروس ظنوا أن نظام حسني مبارك السابق باق بالرغم من كل شيء، فلم يقطعوا اتصالاتهم مع مبارك إلى أن تنحى عن السلطة. واضطرت السلطات الروسية إلى تغيير موقفها بعد نجاح الثورة المصرية في إزاحة نظام مبارك، فجاء الإعلان الروسي بدعم الثورة متأخراً، وغير واضح المعالم، ولم يتجسد في خطوات محددة على الأرض.
 

"
القادة الروس ظنوا أن نظام حسني مبارك السابق باق بالرغم من كل شيء، فلم يقطعوا اتصالاتهم مع مبارك إلى أن تنحى عن السلطة، واضطروا بعد ذلك إلى تغيير مواقفهم
"

وكان الموقف الروسي حيال ثورة 17 فبراير الليبية مشككاً وممانعاً، حيث أعلنت روسيا، في أكثر من مناسبة، معارضتها لأي قرار دولي حول ليبيا، وأعربت عن خشيتها من أن يؤدي أي تدخل عسكري في ليبيا إلى دخولها في أتون الحرب الأهلية، وحاولت منع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي فرض منطقة حظر جوي على ليبيا، إضافة إلى فرضه عقوبات على نظام القذافي، فامتنعت عن التصويت لصالح القرار، لكنها لم تستطع منع صدوره، نظراً للإجماع الدولي عليه، ولكونه جاء تحت مبدأ التدخل الإنساني وحماية المدنيين.

ولم تقطع روسيا علاقاتها مع القذافي، بل انتقدت معارضيه وشككت في قدراتهم ونواياهم، وحاولت القيام بمبادرات ووساطات ما بين القذافي والمجلس الانتقالي الليبي، لكنها لم تنجح. وبعد دخول الثوار إلى طرابلس وهرب القذافي منها، اضطرت روسيا إلى تغيير موقفها، فاعترفت بالمجلس الليبي الانتقالي، وجاء اعترافها بالمتغيرات الجديدة متأخراً أيضاً، ولم يلاق أي صدى إيجابي.
أما الموقف من الأزمة السورية، فيكتسي أهمية خاصة بالنسبة إليها، حيث تمنع القيادة الروسية صدور أي قرار يدين النظام أو يفرض عقوبات دولية عليه، وقد قوبل موقفها بسخط جموع المحتجين والمنتفضين، الذين أحرقوا الأعلام الروسية في العديد من المدن السورية، في سابقة لم تسجل قط من قبل، وخصصوا يوم الثلاثاء 13/9/2011 كيوم غضب على روسيا.
 
وتولي موسكو أهمية خاصة لعلاقاتها مع النظام السوري، وتتحدث عن عدم سماحها لتكرار النموذج الليبي، مع أن روسيا تعي تماماً أن سوريا ليست ليبيا، وأن المعارضة السورية ترفض أي تدخل عسكري أجنبي في الأزمة السورية.

محددات المواقف
تتمحور محددات المواقف الروسية حيال المتغيرات في المنطقة العربية حول مصالح الشركات الروسية، وخاصة مصالح المجمع العسكري وشركات إنتاج وبيع الأسلحة، أكثر من ارتباطها بمصالح روسيا الوطنية البعيدة المدى، وتعكس هواجس حيال الحراك الداخلي في الاتحاد الروسي ومحيطه الحيوي، وما يفرضه الغرب الأوروبي والأطلسي من تحديات على قادة موسكو.

 
وتدخل المصالح الاقتصادية، وحسابات الربح والخسارة، في مقدمة الأولويات بالنسبة للقادة الروس، ويعتبرون أن العقوبات الغربية المفروضة على إيران جعلتهم يخسرون ما يقارب ثلاثة عشر ملياراً من الدولارات، وأن الغرب خذلهم بشأن ليبيا، وسبب لهم خسارة أكثر من أربعة مليارات فيها، كانت مبرمة في عقود معها كثمن أسلحة، إلى جانب مشاريع في مجال الطاقة والبنى التحتية.
 

"
تتمحور محددات المواقف الروسية حيال المتغيرات في المنطقة العربية حول مصالح الشركات الروسية، أكثر من ارتباطها بمصالح روسيا الوطنية البعيدة المدى
"

ويتوقع الخبراء أن يصل حجم الخسائر الروسية في ليبيا إلى عشرة مليارات دولار، بالرغم من تطمينات المجلس الانتقالي الليبي تجاه العقود المبرمة في المرحلة السابقة. ولا شك في أن المصالح الروسية في سوريا كبيرة وهامة بالنسبة إلى روسيا، حيث تقدر مبيعات الأسلحة إلى سوريا بعدة مليارات من الدولارات. يضاف إلى ذلك عشرات المشاريع المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها، وتقدّر قيمة عقودها بمليارات الدولارات.

 
وليس غريباً أن تكون حسابات المصالح الروسية راجحة في تحديد طبيعة الدور الروسي، لأن ذلك ينطبق على سائر الدول الغربية والأطلسية وسواها، إلا أنها في الحالة الروسية تمتلك أهمية قصوى ومتشابكة مع عوامل داخلية وخارجية، خاصة أن روسيا تمكنت في السنوات القليلة الماضية من تحسين علاقاتها مع عدد من الدول العربية، بما فيها دول الخليج العربي، فضلاً عن علاقاتها وتعاونها العسكري والتقني مع إسرائيل.
 
وبالتالي صارت لها مصالح تتأثر بالمتغيرات الجارية في المنطقة العربية، لذلك باتت تعتبر أن الاستقرار هو الضمانة الأساسية للمصالح الروسية، بصرف النظر عن ممارسات الأنظمة، وعن مطالب الشعوب المحقة، فراحت تتحدث عن وجود "إرهابيين"، وعن مؤامرات ومكايد، وتؤكد باستمرار مبدأ رفض التدخل الخارجي في الأوضاع الداخلية العربية، وترك الشعوب وحيدة في معركتها مع قمع الأنظمة.
وتمتلك روسيا مصالح هامة في سوريا، حيث تقدر مبيعات الأسلحة إلى سوريا بعدة مليارات من الدولارات. يضاف إلى ذلك عشرات الاتفاقيات والمشاريع المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها في السنوات السابقة، وتقدّر قيمة عقودها بمليارات الدولارات، وتختص بالتعاون في مجاليْ النفط والغاز وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والعلمية.
وتبدي روسيا تخوفاً غير معلن من تأثر الوضع الداخلي في اتحادها من رياح التغيير الديمقراطي التي تجتاح المنطقة العربية، ومن إرهاصات تهديد الربيع العربي لمستقبل أنظمة دول آسيا الوسطى، وخاصة الدول الحليفة لها مثل أذربيجان وكزاخستان وطاجيكستان وبيلاروسيا وسواها.
غير أن المشكلة تتجسد في أن الساسة الروس يرون في الثورات والانتفاضات العربية نسخة طبق الأصل مما سُمي الثورات الملونة، والتي تلقت دعماً كبيراً من الغرب الأوروبي والأطلسي، واعتبرتها موسكو مدبرة من طرف الإدارة الأميركية، ودَعَمَت اعتقادَهم هذا تصريحاتُ بعض المسؤولين الأميركيين، من أمثال الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، الذي صرح في أكثر من مناسبة بأنه قدم الدعم "للثورة الوردية" في جورجيا عام 2003، و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام 2005، ودعم كذلك الحركات في كل من أوزبكستان وقرغيزستان ومولدافيا وسواها من الدول التي كانت تنضوي تحت مظلة الاتحاد السوفياتي السابق.
 
وراح قادة هذه الدول يعقدون الاجتماعات تحسباً لأي حراك شعبي قادم، ويضعون الآليات والخطط لمواجهته، ولم يستثنوا استخدام القوة العسكرية المشتركة لقمع حراك شعوبهم.

"
حدود المواقف الروسية ضيقة، وتخضع في غالب الأحيان للمقايضات، ولا يبرر كل ذلك تجاهل مطالب الثورات المنادية بالحرية والكرامة والديمقراطية
"
والحاصل هو أن المواقف الروسية الرسمية -حيال ما يجري في المنطقة العربية- ما زالت محكومة بإرث مرحلة الحرب الباردة، وما يتمخض عنها من ردات فعل ضد المواقف الأوروبية والأطلسية، إضافة إلى حسابات الربح والخسارة الاقتصادية، والتخوف الروسي مما يمكن أن تقدمه التغييرات الجارية في بعض البلدان العربية من تهديدات للأنظمة التي تدخل في نطاق مجالها الحيوي، ومن ازدياد مساحات نفوذ الغرب الأوروبي والأطلسي، لكن حدود المواقف الروسية ضيقة، وتخضع في غالب الأحيان للمقايضات والمساومات، ولا يبرر كل ذلك تجاهل مطالب الثورات والانتفاضات المنادية بالحرية والكرامة والديمقراطية، وتحسين الأحوال المعيشية للقطاعات المحرومة والفقيرة من الشعوب العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.