استفتاء دارفور.. من يجتاز به طريق الأشواك

استفتاء دارفور.. من يجتاز به طريق الأشواك؟ - الكاتب: منى عبد الفتاح



مراجعات التاريخ والواقع السياسي
على طريق حل الأزمة

مشروعية الاستفتاء

تباينت الآراء حول الاستفتاء على وضع ولايات دارفور الإداري، بين بقائها على حالها أو زيادتها أو الاكتفاء بإقليم واحد. وهذا التباين ليس في وجهات النظر فحسب وإنما في تمسك الحكومة بإجراء الاستفتاء كأحد استحقاقات اتفاقية أبوجا 2006، في حين ترى الحركات الدارفورية المسلحة أن قيام الاستفتاء يُعد نسفًا لمفاوضات الدوحة التي قطعت شوطًا في خلق نواة بناء السلام في الإقليم.

وبين نظرة الحكومة التي تختزل الاستفتاء في كونه قضية زمنية، وبين نظرة الحركات المسلحة إلى الاستحقاقات الأساسية التي ينبغي أن تلتزم بها الحكومة، تجاوز الأمد العشرين من أبريل/نيسان ليظل قدَر الإقليم معلّقًا ومرهونًا بتجاذبات السياسة.

مراجعات التاريخ والواقع السياسي
المطلع على تاريخ منطقة دارفور في غرب السودان يجد أن الصراعات في الإقليم ليست وليدة عهد الحكومات الوطنية وحدها، بل بدأت منذ أربعينيات القرن العشرين بنزاعات الرعاة والمزارعين حول المياه.

أما في عقد السبعينيات فقد ظهرت حركات تدعو إلى انفصال الإقليم عن السودان، وتصاعدت مطالب الانفصال إلى محاولات عسكرية عام 2003م في عهد حكومة الإنقاذ.

تصاعدت حدة الصراع نتيجة لعوامل ساهمت فيها طبيعة ولاية دارفور في تقاطع حدودها الدولية الممتدة مع تشاد وأفريقيا الوسطى وارتباطها بطرق برية مع ليبيا ومصر. هذه الخصائص مع الضغوط البيئية مثل الجفاف والتصحر وارتفاع النمو السكاني ساهم في نشوء النزاع بين السلطة وسكان الإقليم بسبب تدهور الحكم المحلي.

"
تصاعد العنف وتحوله إلى عنف سياسي هو الذي خلق من دارفور مسرحًا إضافيا لنزاعات السودان الموزعة على عدد من أقاليمه في الجنوب والشرق والجنوب الأوسط

"

وبشكل عام يمكن القول إن تصاعد العنف وتحوله إلى عنف سياسي هو الذي خلق من دارفور مسرحًا إضافيا لنزاعات السودان الموزعة على عدد من أقاليمه في الجنوب والشرق والجنوب الأوسط في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق.

هناك عوامل عديدة ساهمت في تغذية فكرة الانفصال التي تبنتها الحركات المسلحة فيما قبل، أما الآن وبعد مفاوضات السلام واتفاقية أبوجا عام 2006م فقد تحولت المطالب من مطالب انفصالية إلى مطالب اقتسام السلطة والثروة. وتحويل مطلب الانفصال إلى ورقة ضغط تستخدمها الحركات وتعبئها الآن محاولات الإبقاء على دارفور إقليمًا واحدًا استنادًا على واقع المنطقة التاريخي، بينما تصر الحكومة على قيام الاستفتاء على وضع دارفور الإداري يحدوها الأمل بأن يتكون الإقليم من ولايات متعددة حتى تستحيل فكرة الانفصال التي من المتوقع تطبيقها إذا كان الإقليم واحدًا.

فكرة بقاء الإقليم وحدة إدارية واحدة مستقلة ساهمت فيها عوامل عديدة. أهم هذه العوامل هي مساحة إقليم دارفور التي تبلغ 510 آلاف كيلومتر مربع، تُحد بتشاد بحدود طولها 600كام، وتمتد الحدود إلى أفريقيا الوسطى. وهذه الحدود تنبع أهميتها من وقوعها فاصلا بين الدول التي كانت تسيطر عليها إنجلترا شرقًا والدول التي كانت تسيطر عليها فرنسا غربًا.

أما داخليًّا فتُحد دارفور بولاية كردفان وبحر الغزال والولاية الشمالية. وينقسم الإقليم إداريًّا إلى ثلاث ولايات هي  شمال دارفور وجنوب دارفور وغرب دارفور. وكما تحكّمت طبيعة القبائل في تأجيج الصراع في جنوب السودان فيما قبل، فإن دارفور مؤهلة بالمستوى نفسه لأن تكون شعلة إثنية ملتهبة على الدوام، خاصة أن أغلب قبائل دارفور ترجع بأصولها إلى القبائل الأفريقية غير العربية، أما البقية فقد هاجرت قديمًا إلى المنطقة حيث تتباين نشاطات السكان الأصليين والمهاجرين بين النشاط الزراعي والرعوي مما ولّد صراعًا اقتصاديا على موارد الماء ومناطق الزراعة والرعي تمت إضافته للصراعات الإثنية.

أما أهم عامل مؤهل لفكرة الانفصال فهو البعد الديني والتاريخي لمنطقة دارفور، التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة في أكثر من 50 قبيلة تعتنق كلها الدين الإسلامي على المذهب السني وتتميز بالنزعة الصوفية.

هذا العامل يوحدهم كقوة في دولة واحدة صغيرة، كانت فيما قبل بمثابة دولة مستقلة متمثلة في مملكة دارفور بنظامها الإداري وجيشها الوطني وعلاقاتها الخارجية، يتعامل معها العالم الخارجي سلطنة مسلمة إلى آخر سلاطينها "السلطان علي دينار" الذي حكم من 1898م إلى 1917م والذي اشتهر بإرسال كسوة الكعبة إلى مكة المكرمة على مدى عشرين عامًا.

ما يعيشه أهل دارفور اليوم من ظروف سياسية واقتصادية وأمنية سيئة، بالإضافة إلى تهميش الإقليم على مدى عقود طويلة من قِبل الحكومات الوطنية، ونظرة الحكومات المتعاقبة إلى دارفور على أنها منطقة صحراوية غير غنية تقطنها قبائل بدوية، أدى كل ذلك إلى عدم الاهتمام بالمنطقة مما دمّر بنيتها التحتية وأضعف الوعي العام والصحة والتعليم والتنمية مما أدى إلى ضعف الولاء للسودان الوطن.

ثم فاقم من ازدياد مشكلات الانفلات الأمني ضعف القوة العسكرية في تلك المنطقة، مما أدى إلى تنامي "الجنجويد" وهي عصابات منسوبة إلى النظام الحاكم، تتكون من قبائل عربية تركب الخيول وتلبس الملابس البيضاء. فرضت سيطرتها بالقتل والسرقة وفرض ما تريده من تصرفات على أهالي الإقليم.

على طريق حل الأزمة

"
التوقيع على اتفاقية أبوجا في 2006م بين حكومة السودان وحركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة أهم ما تم تحقيقه من جهود لوضع حل دائم للنزاع في دارفور
"

وقبل أن يتم الاستفتاء على وضع دارفور الإداري قامت الحكومة والحركات المسلحة بعدد من المفاوضات لإرساء قواعد السلام في الإقليم.

وكان التوقيع على اتفاقية أبوجا في 2006م بين حكومة السودان وحركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة أهم ما تم تحقيقه من جهود لوضع حل دائم للنزاع في دارفور. ثم دور الوساطة القطرية والوساطة الأممية الأفريقية.

وقد نصت اتفاقية أبوجا على جملة أمور يُنتظر أن تفي بها الحكومة قبل إجراء الاستفتاء. وعلى رأس هذه الالتزامات: التعويضات بالنسبة للنازحين واللاجئين وتوفير الأمن لهم، وعودتهم طوعيًّا إلى مناطقهم التي هجروا منها، ومحاكمات لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في حق أهل دارفور بعدالة وشفافية، وإجراء مصالحات بين مكونات أهل دارفور، وهناك استحقاقات فيما يتعلق بالتنمية والسلطة والثروة.

هناك ملفات كثيرة على رأسها ضرورة إعلان وقف إطلاق نار حقيقي، ثم التسوية الكاملة للجانب الأمني للقضية بحيث يتم تجريد مليشيات الجنجويد من السلاح، وتجريد مليشيات الحركات المسلحة وإدماجهم في المجتمع وفي الأجهزة الرسمية، بعد استيفاء كل الاستحقاقات تأتي مسألة تحديد الوضع الدائم لدارفور.

أما بالنسبة للاستفتاء فقد نصت بنود اتفاقية أبوجا على أنه "يتحدد الوضع الدائم لدارفور من خلال استفتاء يجري في وقت متزامن في ولايات دارفور الثلاث".

ويجري الاستفتاء على وضع دارفور في وقت لا يتجاوز اثني عشر شهرًا بعد إجراء الانتخابات في دارفور التي سوف تنظم بالتزامن مع الانتخابات الوطنية كما نص على ذلك الدستور القومي الانتقالي، على ألا يتجاوز ذلك بأي حال شهر يوليو/تموز 2010م".

على أن تقدم في الاستفتاء خيارات الإدارة السياسية لدارفور وهي: "إنشاء إقليم دارفور المكون من ثلاث ولايات، أو الإبقاء على الوضع القائم للولايات الثلاث وفي كلتا الحالتين يتم احترام المميزات الخاصة لدارفور على نحو ما حددته التقاليد والصلات الثقافية والتاريخية".

مشروعية الاستفتاء
بعد أن أصدرت رئاسة الجمهورية قرارًا لإجراء استفتاء دارفور الإداري وأسندت تنفيذه وتنظيمه وتحديد القواعد والإجراءات المنظمة له، للمفوضية القومية للانتخابات ذهب البعض لتحديد مدى مشروعية استفتاء دارفور الذي يعتبر بمثابة مشورة شعبية يشترك فيها كل أهل دارفور وتهدف النتيجة فيه إلى الإبقاء على الوضع القائم للولايات أو إنشاء إقليم دارفور المكون من ولايات.

ترى الحكومة أن شرعية الاستفتاء وقانونيته تدعمها نصوص اتفاقية أبوجا حتى ولو خرج عن ذلك الأمر أهم الموقعين عليها مثل مني أركو مناوي .

أما من ناحية سياسية فإن قيام الاستفتاء يعتبر عملاً ديمقراطيا ينبغي ألا يستثمره أي من الطرفين في غير ذلك، حتى لا يقود إلى تمرد آخر أو احتجاجات أو يقود إلى تنفيذ أجندة بدعوى تحقيق هذا العمل الديمقراطي.

لم يثر بند الاستفتاء في الاتفاقية حفيظة أهل دارفور والحركات المسلحة حين التوقيع على الاتفاقية، باعتباره أحد منجزات عملية السلام، ولكن عندما أعلنت عنه الحكومة السودانية في الأشهر القليلة الماضية أثار جدلاً كثيفًا وسط الحركات بدعوى أن حرص الحكومة على إقامة الاستفتاء هو لتقسيم دارفور وإضعاف شوكتها مما يشي بأن هناك فكرة مدفونة وسط نيران الرفض هذه مفادها أن النتيجة التي لن تكون مرضية ستقود هذه الحركات لتبني المناداة بحق تقرير المصير.

كما أن هناك وجهات نظر رحبت باستفتاء دارفور الإداري من حيث المبدأ إلا أنها تتوجس من حالة الحرب والظروف الأمنية السيئة التي تعيشها دارفور، خاصة أن كثيرا من القضايا ما زالت تجري المفاوضات بشأنها في الدوحة.

وترى أنه للوصول إلى عملية استفتاء جيدة لا بد من الوصول قبلها إلى اتفاق سياسي مع الحركات المسلحة وتهيئة الظروف لوقف الحرب وتنفيذ بقية بنود اتفاقية أبوجا حتى ينجح الاستفتاء الإداري بدارفور.

وبالنظر إلى هذه الاختلافات فإن اتفاقية أبوجا قد وضعت كل الاحتمالات وبوادر حلها. "ففي حالة تصويت غالبية أهالي دارفور في الاستفتاء لصالح إنشاء إقليم دارفور، تقوم سلطة دارفور الإقليمية الانتقالية بتشكيل لجنة دستورية لتحديد اختصاصات حكومة دارفور الإقليمية.

أما في حالة تصويت الأغلبية ضد الاقتراح الرامي إلى إنشاء إقليم، فيتم الإبقاء على وضع وبنية الولايات الثلاث في دارفور ويجري حل سلطة دارفور الإقليمية الانتقالية.

وتضطلع كل من الحكومات المنتخبة في ولايات دارفور الثلاث بأية مهام متبقية لسلطة دارفور الإقليمية الانتقالية، كل في ولايته". هذا ما كان في أبوجا 2006م عندما وقّع مني أركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان، الاتفاقية مع الحكومة وقبل أن تتبدل الأدوار، ويرجع مرة أخرى للميدان معلنًا الحرب على الحكومة ومفرغًا اتفاقية أبوجا من محتواها الشرعي والقانوني.

"
قيام الاستفتاء يعتبر عملاً ديمقراطيا ينبغي ألا يستثمره أي من الطرفين في غير ذلك، حتى لا يقود إلى تمرد آخر أو احتجاجات أو يقود إلى تنفيذ أجندة بدعوى تحقيق هذا العمل الديمقراطي
"

وترى حركات مثل حركة العدل والمساواة السودانية بقيادة د. خليل إبراهيم وحركة جيش تحرير السودان بقيادة مِنِّي مِنَّاوِي، وحركة جيش تحرير السودان الأم بقيادة أبي القاسم إمام الحاج، في بيان مشترك أصدرته في أبريل/نيسان الجاري، أن قرار رئاسة الجمهورية بشأن الاستفتاء لأهل الإقليم باطل، وقد قررت عدم الاعتراف بأية نتائج يسفر عنها هذا الاستفتاء الذي وصفته بأنه قسري وأحادي حول موضوع قيد التفاوض والمعالجة بإرادة مشتركة للأطراف المتعددة.

وجاء في البيان أن إقليم دارفور ظلَّ وحدة إدارية واحدة، إلى أن تم تقسيمه بقرار إداري صادر من رئيس جمهورية السودان في عام 1994م إلى ثلاث ولايات في سياق تكريس سياسة المركز لتجزئة أقاليم السودان لتسهيل إخضاعها للمركز، وظلت مطلب عودة دارفور إلى الإقليم الواحد مطلبًا ثابتًا لجميع أبناء الإقليم.

بمنطق الحكومة فإن الاستفتاء يعد مشروعًا لإعادة بناء إقليم دارفور إداريًّا، وبمنطق الحركات المسلحة فهي تعدّه هدمًا لما تم التعارف عليه بإقليم دارفور.

ووفقًا لذلك فإن أي اختراق للوضع الإداري من غير بوابة البنى التحتية كالمدارس والمستشفيات وغيرها سيجسد النظرة التي يدرك من خلالها أهل الإقليم مزيدًا من التفاوتات التنموية والسياسية الموجودة أصلاً لتدخل التفاوتات الاجتماعية في هذا التصور في محاولة لإعادة تحديد مكونات الهوية الدارفورية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.