هل ثمة جدوى من السلاح الفلسطيني في لبنان؟

هل ثمة جدوى من السلاح الفلسطيني في لبنان؟



مشكلة اللاجئين 
دولة داخل دولة
جدوى السلاح
نحو مراجعة فلسطينية لبنانية


يمكن اعتبار فلسطينيي لبنان، من بين كل تجمعات اللاجئين الفلسطينيين، أنهم أكثر من دفع ثمن النكبة وتجرّع مرارة التشرّد واللجوء، وأنهم أكثر من دفع ثمن إطلاق الثورة الفلسطينية (في منتصف الستينيات)، وبالتالي ثمن انحسار هذه الثورة، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان (1982).

في العام 1948، ونتيجة التداعيات الناجمة عن النكبة، وقيام إسرائيل، تم تشريد أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني من أرضه ودياره (حوالي تسعمائة ألف) إلى الدول العربية المجاورة، حل حوالي 180 ألفا منهم في لبنان (عددهم الآن حوالي 450 ألفا) معظمهم من قرى وبلدات شمالي فلسطين.

"
لبنان الرسمي لم يتعاط مع اللاجئين الفلسطينيين، وفق المفاهيم الوطنية والقومية، كما أنه لم يتعاط معهم من البوابة الإنسانية-الأخلاقية بقدر ما تعاطى معهم باعتبارهم موضوعا سياسيا وأمنيا
"

مشكلة اللاجئين 
منذ البداية لم يستطع لبنان هضم هؤلاء الفلسطينيين اللاجئين، من النواحي الإنسانية والاجتماعية، حيث قطن غالبيتهم العظمى في 12 مخيما (من أصل 59 مخيما في بلدان اللجوء). وكانت أحوال هذه المخيمات (ولا زالت) جد مزرية، من كل النواحي، وأدت إلى مفاقمة حال البؤس والحرمان لدى اللاجئين الفلسطينيين، مما جعلهم يعيشون نكبة جديدة فوق نكبتهم الأصلية.

وزاد الطين بلة وجود نوع من الممارسات التمييزية، إزاء هؤلاء اللاجئين، من مثل فرض نوع من العزل عليهم في المخيمات، وإخضاعهم لمراقبة أمنية مشددة، ومنعهم من العمل في عشرات المهن. والخلاصة فإن اللاجئين إلى لبنان حرموا من أدنى الحقوق، التي يمكن أن تمنحها دولة للاجئين إليها، حتى لو كانوا ينتمون إلى أمة أخرى.

هكذا فإن لبنان الرسمي لم يتعاط مع اللاجئين الفلسطينيين، وفق المفاهيم الوطنية والقومية، أي باعتبارهم جزءا من الأمة العربية، كما أنه لم يتعاط معهم من البوابة الإنسانية-الأخلاقية (على الأقل)، أي باعتبارهم ضحية للعدوان والاغتصاب والتشرد، في محاولة للتخفيف من معاناتهم، بقدر ما تعاطى معهم باعتبارهم موضوعا سياسيا وأمنيا.

وكانت التبريرات اللبنانية، في هذا الشأن، تنصب على ضرورة تفهم حساسية، أو فرادة وضع لبنان، بمعنى تفهم تعقيدات تركيبته الطائفية، في محاولة للتحسب من إمكان أن يخلّ الوجود الفلسطيني في لبنان، المحسوب على طائفة معينة على الأغلب (السنة) بالتركيبة اللبنانية.

دولة داخل دولة
في أواخر الستينيات وبعد بروز حركة التحرر الفلسطينية، وقيام منظمة التحرير ككيان سياسي للشعب الفلسطيني، دخل اللاجئون الفلسطينيون في لبنان في مسار جديد مختلف، حيث تمكنوا من إعادة بعض الاعتبار لذاتهم، عبر الانخراط الواسع والنشط في المؤسسات والتشكيلات الفلسطينية بكافة أشكالها: السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.

ونجحت الحركة الفلسطينية بهذه التشكيلات المتنوعة، وبفضل الدعم المالي الذي أغدق عليها، في إقامة نوع من دولة داخل الدولة، وخصوصا بعد إخراجها من الأردن (1970).

وبديهي أن هذا الوضع أدى إلى انعكاسات متباينة على الوضعين الفلسطيني واللبناني، إذ بات للفلسطينيين عموما، وللاجئين خصوصا، نوع من كيانية سياسية وليدة تناطح من أجل دحر الاحتلال من أرضها، وبات للاجئين الفلسطينيين وتحديدا في لبنان نوع من حماية، أو نوع من تعويض، في مواجهة السياسات التمييزية الرسمية اللبنانية.

كذلك خلق هذا الوضع، ولا سيما بحكم الفوضى والانفلات في العمل الفلسطيني، نوعا من السلطة المزدوجة في الساحة اللبنانية، مما أقحم الفلسطينيين في الملفات الداخلية اللبنانية المعقدة، وأدى ذلك إلى احتكاكات سلبية ودامية بين حركة التحرير الفلسطينية من جهة، والسلطة اللبنانية ومعها القوى اللبنانية المتخوفة من الوجود الفلسطيني والمعترضة عليه من جهة أخرى.

لكن هذا المسار انقطع إثر الغزو الإسرائيلي للبنان (صيف 1982)، وخروج الجسم الرئيس لحركة التحرير الفلسطينية منه، حيث تكبد اللاجئون في لبنان جراء ذلك خسائر معنوية وسياسية وبشرية فادحة.

"
نجحت الحركة الفلسطينية في لبنان بفضل تشكيلاتها المتنوعة والدعم المالي الذي أغدق عليها، في إقامة نوع من دولة داخل الدولة، وخصوصا بعد إخراجها من الأردن 1970
"

فقد خسروا كيانهم المعنوي الموحد، وتعبيراتهم السياسية الوطنية، وعادوا من جديد وحدهم في مواجهة السياسات التمييزية التي تنتهجها الدولة اللبنانية ضدهم، بدعوى رفض التوطين.

وفي هذه المرحلة حدثت مجازر صبرا وشاتيلا (1982)، ثم الاقتتال الفلسطيني في البقاع وطرابلس (1983-1984)، ثم حروب المخيمات، التي شنتها بعض القوى اللبنانية بدعوى محاربة نفوذ عرفات (1985-1987)، كما تجدد الاقتتال الفلسطيني-الفلسطيني أكثر من مرة، في بعض المخيمات، وبرزت ظاهرة فتح المجلس الثوري، كظاهرة نشاز، أشاعت جوا من الرعب وارتكبت الكثير من الأعمال غير القانونية، ومن ضمنها قتل عشرات وربما مئات من الفلسطينيين، من دون أن يردعها أو يردها أحد.

جدوى السلاح
الآن أثيرت مجددا عبر بعض التصريحات والمداخلات الفلسطينية، في لبنان، مشروعية السلاح الفلسطيني، داخل المخيمات وخارجها، وتوظيفاته، وجدواه السياسية.

وتبين التجربة بأن المخيمات الفلسطينية في لبنان، بسبب وضعها الخاص، وهشاشة الوضع اللبناني، وانقساماته الطائفية والسياسية، وتراجع مكانة منظمة التحرير، لأسباب ذاتية وموضوعية (ضمنها الانقسامات الداخلية)، باتت أكثر قابلية للتوظيفات السياسية البعيدة عن الأجندة الوطنية.

المشكلة أن هذه التوظيفات لا تقتصر على قوى إقليمية دولية، وإنما تشمل قوى غير ذلك، مثل الجماعات الإسلامية المتطرفة، والجماعات الإرهابية (التي تحتمي ببعض المخيمات)، فضلا عن الجماعات الخارجة عن القانون وعن سلطة الدولة في لبنان.

وفي الواقع فإن انفجار الوضع من مخيم نهر البارد (قبل عامين) ربما أشار إلى إمكان انفجاره، في مراحل أخرى، وبحسب تطور الأوضاع في لبنان، وتطورات الصراع على منطقة الشرق الأوسط، إلى أماكن أخرى، مثل مخيم عين الحلوة، الذي يشكل جزيرة أمنية، تكثر تعقيداتها، ويصعب التعامل معها.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فربما تصل الأمور في مرحلة ما إلى حد إقحام الوجود الفلسطيني، في الصراعات اللبنانية الداخلية، مرة ثانية، أو في الصراعات الإقليمية المحيطة بالصراع على الترتيبات المستقبلية للشرق الأوسط.

"
الساحة الفلسطينية معنية بمراجعة أحوالها في لبنان، ومن ضمن ذلك مراجعة خطاباتها وبناها وأشكال عملها، ولا سيما ما يتعلق بشأن التواجد المسلح على الساحة اللبنانية
"

لهذه الأسباب يمكن القول بأن الساحة الفلسطينية معنية بمراجعة أحوالها في لبنان، ومن ضمن ذلك مراجعة خطاباتها وبناها وأشكال عملها، ولا سيما ما يتعلق بشأن التواجد المسلح على الساحة اللبنانية. ولعل ذلك يفترض ضمنا البحث في مسألة طي التواجد العسكري في لبنان خارج المخيمات وخارجها، لقطع الطريق على استدراج الفلسطينيين في الصراعات الداخلية اللبنانية، ولوضع حد لعمليات التوظيف الخارجي للقضية الفلسطينية وللسلاح الفلسطيني. وحينها يمكن للفصائل التي تحبذ السلاح أن تركز جهودها على المقاومة ضد الاحتلال، وأن ترحم الفلسطينيين في لبنان، فيما تبقى لهم من مخيمات.

إن الحضّ على هذه المراجعة الضرورية تستند إلى المنطلقات التالية:

أولا: إن الفصائل التي ظلت تحرص على إبقاء وجودها العسكري في المخيمات وخارجها، لم تعد تقوم، من لبنان، بأي فعل من أفعال المقاومة المسلحة في مواجهة إسرائيل، لأسباب متعددة. ومعنى ذلك أن حديثنا عن السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها (في لبنان)، يتوخى الجهر بحقائق يجري حجبها عن عمد، لأغراض التنافسات الفصائلية، ولأغراض وظيفية، لا تمت بصلة إلى الغرض الحقيقي من وجود السلاح الفلسطيني في لبنان، أي مواجهة العدو الصهيوني.

ثانيا: إن حرص الفصائل على إبقاء تشكيلاتها العسكرية، في مخيمات لبنان، لا يبدو مفهوما ولا منطقيا، في وقت كانت استقالت فيه تماما من باقي الوظائف السياسية والاجتماعية والثقافية والخدمية، التي كان يفترض أن تقوم بها في إطار المجتمع الفلسطيني في المخيمات.

ثالثا: إن الحديث عن السلاح في المخيمات وخارجها يتم على ضوء تجربة مريرة دفع خلالها فلسطينيو لبنان ثمنا باهظا، من أرواحهم وممتلكاتهم ومعاناتهم، من دون أن تجلب عليهم أية عوائد، على صعيد حل قضيتهم، أو على صعيد تأمين حقوقهم المدنية-الاجتماعية، كمقيمين مؤقتين على أرض لبنان.

ومعلوم أن الفصائل الفلسطينية عموما لم تول أهمية لائقة للحقوق المدنية والاجتماعية للاجئين، ربما رغبة منها في استمرار توظيف قضيتهم، من منظور ضيق، لا يمت لمصلحة الوطن والشعب بصلة. وهو ما أكده العقيد أبو موسى مؤخرا في تصريح له أشار إلى عدم ربط السلاح في المخيمات وخارجها بقضية الحقوق المدنية للفلسطينيين اللاجئين وإنما بالصراع العربي الإسرائيلي، رغم أن الفصيل الذي يقوده لم يعرف عنه أي دور في هذا المجال، بقدر ما عرف عنه الانخراط في موجات الاقتتال الفلسطيني.

رابعا: إن الظروف الدولية والعربية المحيطة جعلت من لبنان مجالا للتصارع الإقليمي، وبذلك باتت مخيمات لبنان مجالا رحبا للتنافسات والتوظيفات السياسية، ودليل ذلك الوضع الشاذ الذي جعل من مخيم عين الحلوة بؤرة للجماعات الأصولية المتطرفة والمتعصبة، وموئلا للخارجين عن القانون، وعن سلطة الدولة اللبنانية، وكلها جماعات يسهل توظيفها من قبل القوى الفاعلة في لبنان وفي عموم المنطقة، مما يلحق أفدح الضرر بالقضية الفلسطينية، وبأحوال اللاجئين في المخيمات.

"
الفلسطينيون فصائل ومجتمعا مدنيا معنيون بمراجعة وظيفة السلاح لديهم، فهو ليس غاية في ذاته، ولا سيما لجهة رفع الغطاء عن القوى التي تتعاطى بالسلاح لتوظيفهم في مهب السياسات المحلية أو الإقليمية
"

خامسا: لا شك أن الخلافات الداخلية الفلسطينية بدورها تخلق أوضاعا متوترة في مخيمات لبنان. وبديهي أن هذه الخلافات المعطوفة على إشاعة البنى العسكرية، وفلتان السلاح، وتمجيد ثقافة العنف، ورفض الآخر، من شأنها أن تؤدي، في ظل غياب المقاومة (وهي الوظيفة الوطنية للسلاح)، إلى الفوضى، والانفلات، وغياب المرجعيات، وارتداد شحنة العنف إلى الداخل (لاحظ الوضع المتفجر والمؤسف في غزة)، وصولا للمعركة الجارية في نهر البارد بين الجيش اللبناني وما يسمى جماعة فتح الإسلام، من دون أن ننسى الأوضاع الشاذة والاشتباكات المتكررة بين الجماعات المسلحة، المنفلتة من عقالها، والمتضاربة في مشاريعها، في مخيم عين الحلوة.

على ذلك وفي ظل انتفاء فعل المقاومة، وغياب المشروعية السياسية، فإن الفلسطينيين، فصائل ومجتمعا مدني، معنيون بمراجعة وظيفة السلاح لديهم، فهو ليس غاية في ذاته، ولا سيما لجهة رفع الغطاء عن القوى التي تتعاطى بالسلاح لتوظيفهم في مهب السياسات المحلية أو الإقليمية وفوق الإقليمية.

نحو مراجعة فلسطينية لبنانية
في الواقع لا شيء يجعل من فلسطينيي لبنان استثناء بين كل الفلسطينيين في مناطق اللجوء بالنسبة لحمل السلاح، خصوصا في ظل المعطيات السياسية السائدة، الفلسطينية والعربية والدولية.

طبعا ثمة من يبرر السلاح الفلسطيني في لبنان، بضرورة إيجاد نوع من الرد على اعتداءات إسرائيلية محتملة، نتيجة أحداث معينة، ولكن هل يستطيع الفلسطينيون فعلا حماية أنفسهم بالسلاح الذي يمتلكونه، في مواجهة طائرات ومدفعية وصواريخ إسرائيل؟ وما هو مصير الدولة اللبنانية إذا كان ثمة تسليح ذاتي لكل الجماعات في لبنان؟ ثم ألا يضع ذلك الفلسطينيين في احتكاك مع باقي الجماعات اللبنانية، على تفاوتاتها وتلاوينها؟.

أيضا ثمة من يبرر السلاح الفلسطيني في المخيمات بضرورة الأمن الذاتي تخوفا من التحولات الداخلية اللبنانية. وبرغم مشروعية ذلك، على ضوء التجربة الفلسطينية في لبنان، فإن السلاح الفلسطيني في لبنان لا يقلل من هذه المخاوف، وإنما هو يغذيها ويعززها ويستفزها، بخاصة أن هذا السلاح سيكون عرضة للتوظيفات الداخلية والإقليمية.

"
ثمة أهمية للتنسيق بين القيادة الفلسطينية والدولة اللبنانية بشأن وضع اللاجئين في لبنان، بعيدا عن المزايدات والابتزازات المتعلقة بالتوطين أو الحق بالمقاومة
"

كذلك فثمة من يرى إمكان مقايضة سلاح المخيمات بالحقوق المدنية والاجتماعية، ورغم مشروعية هذه الحقوق وأهميتها للفلسطينيين ولسلامة العلاقات الفلسطينية-اللبنانية، لكن مقايضة كهذه لا تبدو في محلها، حاليا، لأن هذه الحقوق تحتاج إلى مجال ثقة متبادلة، كما تحتاج إلى عنوان سياسي، ولا يمكن أن تأتي تحت الضغط في الظروف اللبنانية الراهنة.

وبالنسبة لقيادة الشعب الفلسطيني، في المنظمة والسلطة والفصائل، فهي معنية بإيلاء فلسطينيي لبنان اهتماما أكبر وتأمين الخدمات لهم، والتخفيف من معاناتهم ومأساتهم، وتعزيز ارتباطهم بكيانهم السياسي، وفتح نقاش مع الدولة اللبنانية بشأن منحهم الجنسية الفلسطينية، لدفع شبهة التوطين عنهم، وضمان تمتعهم بحق المقيم، مثلهم مثل المقيمين من أي جنسية أخرى.

أما الدولة اللبنانية فهي مسؤولة عن وضع حد لمعاناة اللاجئين، بمنحهم الحقوق المدنية والاجتماعية، التي حرموا منها طوال وجودهم في لبنان، ويكفي أنهم محرومون من الوطن والهوية، مما يجعلهم في دائرة الإحباط واليأس، ويدفعهم دفعا لدوائر التعصب والتطرف.

هناك أهمية للتنسيق بين القيادة الفلسطينية والدولة اللبنانية بشأن وضع اللاجئين في لبنان، بعيدا عن المزايدات والابتزازات المتعلقة بالتوطين أو الحق بالمقاومة، أو غيرها من الشعارات التي ليس لها صلة البتة بقضايا الشعب والوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.