حركة فتح اليوم.. ما بعد غزة

حركة فتح اليوم.. ما بعد غزة



– زوال القشرة السميكة
– أزمات مركبة ومؤتمر لم ينعقد
– ما بعد غزة ليس كما قبلها
– فتح والتحديات الجديدة

لم يسبق أن تعرضت حركة فتح عبر مسارها الطويل الشائك لامتحان عسير كما تتعرض له الآن بعد التحولات الفلسطينية الأخيرة التي وقعت في الجزء الجنوبي من فلسطين، وتحديداً في قطاع غزة، والصمود الهائل الذي وقفت به قوى المقاومة بشكل عام في وجه ترسانة الاحتلال التي ألقت بحممها المرعبة على القطاع طوال 23 يوما بشكل متواصل.

فقد شكل العدوان الفاشي الصهيوني على قطاع غزة عاملاً كاشفا لحجم التباينات الداخلية التي مازالت تهز البيت الفتحاوي من جذوره، وبانت للجميع حالة الإرباك الكبير في الأداء السياسي للقيادة الفتحاوية القابضة على سلطة القرار في فتح والسلطة الفلسطينية، في مرحلة بات ملحوظا فيها تراجع الفعل والتأثير الفتحاوي تحت وطأة الخلل الواسع الذي أصاب جسد حركة فتح، كبرى فصائل العمل الوطني الفلسطيني التي طالما وسمها البعض عبر عقود العمل الفلسطيني المعاصرة باعتبارها صاحبة الرصاصة الأولى وأنها "العمود الفقري للثورة الفلسطينية" وكذلك "جمل المحامل" وصانعة الطريق نحو الاستقلال.


"
جاء العدوان على قطاع غزة ليزيل القشرة السميكة التي غطت أزمات فتح السياسية والتنظيمية وهي أزمات خارجية تحاصرها من الخارج  وأزمات داخلية مركبة تنظيمية وسياسية
"

زوال القشرة السميكة
ومن نافلة القول إن أزمات حركة فتح لم تكن وليدة لحظتها، كما لم تكن صاعقة في سماء صافية، بل جاءت نتيجة لحالة من التردي العام الذي أصاب جسد الحركة وعموم مفاصلها التنظيمية في ظل حالة التفكك التي كانت قد بدأت تعانيها الأطر التنظيمية الفتحاوية منذ أكثر من عقد ونيف من الزمن، وتحديداً منذ الفترة التي تلت مؤتمر فتح الخامس الذي عقد عام 1989 في العاصمة تونس.

فقد تتالى وقوع التحولات الهائلة على الأرض بعد المشاركة الفلسطينية الرسمية في مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاق أوسلو الأول، وتأسيس السلطة الفلسطينية، الأمر الذي استدعى ضرورة العودة إلى قواعد حركة فتح ووضعها أمام ما تم صناعته على الأرض.

غير أن روح المماطلة التي اتسمت بها المرحلة منذ ذاك الزمن إلى الآن، انعكست سلباً وبشكل قاتل على الجسم الفتحاوي الذي ظل أسيراً لحالة من التهالك السياسي والتكتيكي المغرق في التعاطي مع الأحداث، وبروز حالة التماهي والاندغام الحركي في السلطة، وسيادة التهتك التنظيمي والتفكك القاعدي، وحتى انفصال القيادة عن القاعدة، وتوالد التيارات وصراعاتها، بالرغم من المشاركة الفعالة للبنى التنظيمية القاعدية لحركة فتح في الانتفاضة وفعالياتها، وخصوصاً بعد تأسيس كتائب شهداء الأقصى في الانتفاضة الثانية نهاية العام 2001.

في هذا السياق، جاء العدوان البربري الصهيوني على قطاع غزة ليزيل القشرة السميكة التي غطت أزمات فتح العميقة السياسية البرنامجية، والتنظيمية الداخلية، فطفت على سطح الأحداث نتائج الأزمات التي تعانيها فتح، وهي أزمات خارجية تحاصرها من الخارج (صراع على فتح لتطويعها) وأزمات داخلية مركبة تنظيمية وسياسية داخل الأطر والهيئات القيادية في فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية على حد سواء.

وهذا يتضح إلى حد بعيد ما يعتمل داخل صفوف فتح، بين اتجاهات سلطوية ما تزال تؤمن بالتسوية وحدها دون غيرها كطريق وحيد أمام حلول للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وبين اتجاهات قاعدية تقودها كوادر وسطى ما تزال تعتقد بصواب الجمع بين كل أشكال الكفاح، خصوصاً العمل المقاوم، وتؤمن بضروراتها كعامل إسناد رئيسي لابد منه أمام بلدوزر العملية السياسية.

وما فاقم التباين استمرار الخلافات بشأن انعقاد المؤتمر العام للحركة، بعد سنوات طويلة من انعقاد المؤتمر السابق، بالرغم من إقرار الجميع بأهمية التئام المؤتمر لتقييم المرحلة الماضية وانتخاب قيادة جديدة (مجلس ثوري + لجنة مركزية) يتم رفدها بالدماء الشابة التي نمت وترعرعت في صفوف الانتفاضة في الداخل منذ العام 1987 ومن الشتات الفلسطيني خصوصاً من التجمعات الفلسطينية في سوريا ولبنان التي أصبحت على ما يبدو نسياً منسياً.

هذا إذا تناسينا مجموع الخلافات المتعلقة بالشأن والمسار السياسي، وبشأن الأوضاع الداخلية المتعلقة بمصير ومآل منظمة التحرير الفلسطينية التي باتت بدورها تعيش في سبات عميق منذ العام 1991.


"
عدم انعقاد المؤتمر العام لفتح منذ زمن طويل، أدى إلى استمرار نمو الأزمة التنظيمية الداخلية، وتفاقم مظاهر الخلل، عدا التهميش الذي أصاب تنظيمات الحركة في الشتات الفلسطيني
"

أزمات مركبة ومؤتمر لم ينعقد
وعليه، فإن سلسلة الأحداث الفلسطينية الداخلية الأخيرة، أظهرت على الملأ أزمات حركة فتح الخارجية الوافدة عليها أولاً، وأزماتها السياسية والتنظيمية ثانياً، في ظل تراجع دور مؤسساتها الداخلية وتوالد حالات التفكك الداخلي مقابل ظهور أشكال من الاستقطاب القائم على أساس الولاء.

وهذا هو الذي دفع بقادة تاريخيين في الحركة كفاروق القدومي وهاني الحسن إلى الإفصاح الصريح عما يجري داخل فتح، ونقل التباينات من ردهات الكواليس الفتحاوية ومن فناء البيت الفلسطيني إلى فضاء الإعلام الخارجي في خطوة صراخ واحتجاج.

ففي الجانب السياسي، ما تزال تخيم على حركة فتح أجواء الانتكاسات التي تتالت في سياق عملية التسوية المتوقفة منذ سنوات، وما تزال تخيم معها حالة الارتباك في إدارة دفة القرار السياسي وتوجيهه، وتواتر توالد الإشكالات الداخلية حول الموضوع السياسي، فتم التعبير عنها بحدوث اصطفافات، تحولت إلى تيارات متصارعة داخل فتح.

وأصبحت هذه التيارات قاب قوسين من حالة التيارات المحتكمة إلى السلاح في فترات معينة، فضلاً عن غياب البرنامج الملموس للخروج بالوضع الفلسطيني من حالة الأزمات السياسية باتجاه برنامج ائتلافي توحيدي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وكافة تلاوين الخريطة السياسية، فبقي الدور الفتحاوي بعيداً عن الجدية في الحوارات الفلسطينية الداخلية التي راوحت مكانها ولم ترتق إلى مستوى التحديات التي تواجه الفلسطينيين عموماً.

أما في الجانب التنظيمي، فيمكن القول إن الأوضاع الفتحاوية الداخلية تعاني أزمات مستعصية بعد سلسلة من التراجع طرأت على الجسم التنظيمي للحركة منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وبعد توالد ظاهرة تفكك أشكال الفوضى الداخلية.

كما بات واضحا مدى الخلط الكبير الذي وقع بين فتح كتنظيم رائد في العمل الوطني الفلسطيني وبين السباق على مواقع القيادة في سلطة ناشئة اعتقد بعض الفتحاويين أنها نهاية المطاف لحركة فتح كصيغة تنظيمية، فزاد الخلل الداخلي وتعددت المرجعيات، ونشأت مراكز القوى.

وبالنتيجة فقد راوحت الأمور مكانها عند حدود المؤتمر العام الخامس لحركة فتح الذي عقد في تونس العاصمة قبل عشرين عاما، بينما تطلبت المرحلة والهزات العنيفة التي وقعت خلال الفترات الماضية السير نحو مؤتمر حركي موحد، لتقييم أداء فتح ووضع التجربة على مقياس التقييم والمراجعة، وإعادة انتخاب الهيئات القيادية المركزية بطريقة شفافة، ونزيهة تضمن انتقال حركة فتح (كما طالب عدد من أبرز قيادييها من المعارضين) من حالة حزب التحرر الوطني إلى حالة المزاوجة بين حزب التحرر الوطني وحزب بناء الكيان الفلسطيني وتجسيده على أرض فلسطين.

ويمكن القول إن عدم انعقاد المؤتمر العام لفتح منذ زمن طويل، أدى إلى استمرار نمو الأزمة التنظيمية الداخلية، وتفاقم مظاهر الخلل، عدا التهميش الذي أصاب تنظيمات الحركة في الشتات الفلسطيني.

ومع ذلك فإن احتمال عقد المؤتمر العام ما يزال متواضعا بالرغم من إعلان مصدر في اللجنة التحضيرية التي اجتمعت في اليوم الثالث من فبراير/ شباط الجاري في العاصمة الأردنية برئاسة رئيسها وعضو اللجنة المركزية للحركة محمد راتب غنيم (أبو ماهر).


"
إنقاذ حركة فتح وتشغيل بوصلتها المعطلة، وإعادة الاعتبار لها ولتاريخها الوطني ودورها المؤثر في صياغة السياسات الوطنية الفلسطينية، يتطلب من اللجنة المركزية استيعاب دروس مسار الحركة عبر عقد التسوية الأخير واستيعاب ما جرى في قطاع غزة من الزاوية المتعلقة بالمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني
"

ما بعد غزة ليس كما قبلها
ولا شك أن الأوضاع على الساحة الفلسطينية، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لن تكون كما كانت قبلها نهاية المطاف، لا على صعيد عملية التسوية، ولا بالنسبة إلى شكل النظام السياسي، ولا بالنسبة إلى العلاقة بين حركتي فتح وحماس.

بعد هذه الحرب الوحشية المدمرة، لم يعد من المقبول فلسطينيا وعربيا، استمرار المفاوضات والمفاوضات دون غيرها التي تحولت إلى مجرد عملية علاقات عامة لا نهاية لها، تبرئ الاحتلال وتدفعه للعمل تحت غطائها لفرض الأمر الواقع، بالاستيطان الاستعماري الإجلائي وتهويد القدس والجدار الفاصل ومحاصرة غزة.

كما أصبح من غير المقبول أن تبقى منظمة التحرير الفلسطينية على حالها من حيث بقائها أداة استخدامية تستدعى عند الضرورة، بل بات واضحا أن على حركة فتح باعتبارها الطرف الرئيسي المقرر في شؤون منظمة التحرير أولا، ومن موقع إعادة الاعتبار لذاتها ثانيا، أن تبادر لالتقاط مبادرة إيجابية جديدة، شجاعة وصادقة، بالإعلان عن استعدادها للحوار الشامل التام دون شروط مسبقة، واستعدادها الجدي لبحث كل أوضاع منظمة التحرير، والانطلاق نحو إعادة بناء المرجعية الوطنية للشعب الفلسطيني على أسس جديدة تضمن مشاركة الجميع وفقا لميزان الحضور والتأثير على الأرض، عبر انتخابات شعبية فلسطينية لمجلس وطني فلسطيني جديد (برلمان المنظمة والشعب) في الداخل والشتات، يفضي بدوره لتشكيل مؤسسات المنظمة (المجلس المركزي واللجنة التنفيذية) وتاليا توليد إطارات ائتلافية تحالفية تضمن صياغة القرار التوافقي الوطني الفلسطيني، وإدارة السياسات الوطنية الجامعة وفق قرارات وبرنامج المرجعية الائتلافية.


فتح والتحديات الجديدة
التحدي الجديد بالنسبة لحركة فتح ومستقبلها في الخارطة السياسية الفلسطينية، وفي موقعها داخل منظمة التحرير الفلسطينية، تحد بالغ الخطورة وعميق الأثر، يطرح عليها مهام وطنية بالنسبة للمنظمة من حيث السير نحو ترجمة وثيقة القاهرة 2005 وضرورة إعادة بنائها.

كما يطرح عليها مهام عامة، لكنها أساسية لتجديد هويتها السياسية وخياراتها الحقيقية النابعة من برنامجها الوطني الأساسي، ومهام داخلية لتطوير أدواتها ومؤسساتها المتواضعة، ودفع الجيل الجديد الرابع من قياداتها الميدانية في فلسطين والشتات نحو المواقع المقررة، وهو الجيل الذي نما وترعرع في الداخل الفلسطيني في ظل الانتفاضتين الأولى والثانية وفي الشتات، وهو جيل لم يحمل من نتوءات وتشوهات وأمراض وخطايا المرحلة مع ما تراكم من مثالب بعد نشوء "سلطة فلسطينية وبريق الامتيازات" بعد العام 1994.

أخيرا، ننطلق من الحرص على حركة فتح، في مواجهة سياسة الاختطاف والاغتراب التي تعانيها، وفي مواجهة عمليات تلبيسها قميصا يتعارض مع برنامجها الأساسي، كما لا نغبن تاريخها ودورها العريق في حمل راية المشروع الوطني الفلسطيني.

وعليه فإن إنقاذ حركة فتح وتشغيل بوصلتها المعطلة، وإعادة الاعتبار لها ولتاريخها الوطني ودورها المؤثر في صياغة السياسات الوطنية الفلسطينية، يتطلب من اللجنة المركزية استيعاب دروس مسار الحركة عبر عقد التسوية الأخير واستيعاب ما جرى في قطاع غزة من الزاوية المتعلقة بالمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وانطلاقاً من ضرورات الوحدة الوطنية كخيار لابد منه في مواجهة المرحلة التالية في مشوار الكفاح الوطني الفلسطيني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.