حزيران أو بوابة الجنون

تصميم حزيران أو بوابة الجنون .... إبراهيم نصر الله



إبراهيم نصر الله

من المفارقة أن هزيمة يونيو/ حزيران لم تزل أمامنا، لأن كل مسبباتها ونتائجها لم تزل بعد على قيد الحياة، بل إنها تستغول يوما بعد يوم.

يعتقد البعض أن شهادة ميلاد قيام إسرائيل، قد سجلت في حزيران، واعتمدت في ذلك اليوم المشؤوم، وهذه رؤية ليست بعيدة عن الواقع، إذا ما ذهبنا إلى تحليلها.

والأكثر مأساوية في الأمر هو تنصل مسببات الهزيمة من نتائجها، أي ترك الشعب الفلسطيني في النهاية معزولا ومطالبا في آن بتحرير نفسه، بل وبتحرير العالم العربي بأكمله.

كان عمري 13 عاما حين وقعت تلك الحرب، ولم أزل أردد منذ ذلك الحين ما قاله طفل طيور الحذر: أهذه هي الحرب؟ الحرب سهلة إذن، الحرب عمودا دخان ومذياع.

مشهد 1

"
قالت الحكومة: الأسلحة وزعت على الأهالي، حدق الأهالي في أيديهم، وجدوا أيديهم فقط، وتأكد لهم أن نظرهم لم يخدعهم
"

فتح باب التطوع، أعلنت ذلك الحكومة، هب الناس بحثا عن المراكز التي حددها البيان، للحصول على السلاح، لم يجدوها.

وقالت الحكومة: الأسلحة وزعت على الأهالي، حدق الأهالي في أيديهم، وجدوا أيديهم فقط، وتأكد لهم أن نظرهم لم يخدعهم. ما إن اشتعلت الحرب، ما إن دوت (زوامير) الخطر، ما إن بدأ المذياع يهدر: (اصبروا وصابروا ورابطوا، اقتلوهم حيث وجدتموهم، بأيديكم، بأظافركم، بأسنانكم).

***

حاملا (فرش) العجين، مبتعدا بتثاقل، باحثا عن أبيه الذي اختفى، بين ليلة وضحاها، سار باتجاه الفرن. ولم يكن قطع نصف المسافة حين أغارت طائرتان، حين انطلقت القذائف المضادة، حين انفجرت مخلفة بقعا من الدخان الرمادي في تلك الظهيرة الزرقاء.

قَبع بجانب أحد البيوت، مرت رصاصة من رصاصات المضادات الأرضية قرب أذنه، أحس بها ملتهبة، وربما لم يكن ما مر غير صوتها.

ارتفع عمود دخان من المطار، أعقبه آخر، المطار المدني-العسكري في ماركا، وعادت الطائرتان طائرتين: أهذه هي الحرب؟

وفكر: الحرب سهلة، الحرب عمودا دخان ومذياع.

ووصل الفرن، لم يجد الفران، كانت هناك رائحة عجين فاسد، محمض، وبعض نساء يشتمن. عاد بالفرش.

أشعلت أمه النار بأحذية قديمة، بقطع أخشاب، وأحمت الصاج، وخبزت مريم.

***

"
كنا مهاجرين، وكانت طيور السمن مهاجرة، طيور سمن تصطدم بنا، فنمسكها بأيدينا، طيور متعبة قطعت البحر كله، وأكلناها، أكل المهاجر المهاجر، وبها عشنا حتى وصلنا غزة، قبل أن نذهب إلى الخليل
"

تساقط البشر على بوابة بيتهم، بيتهم الصغير، عشرات من الأقارب تساقطوا كطيور السمن، طيور السمن التي تقطع البحر وترتمي منهكة على الشواطئ أو في شباك الصيادين.

قالت أمه الحكاية التي يعرفها قبل أن تقولها: كنا نسير، تلاحقنا الطائرات، تلقي (الكيازين) فتحرق الشجر والحجر، يتموج الشاطئ، فنمشي معه، يستقيم فنمشي معه، من الشمال إلى غزة قطعناها مشيا في الـ48.

كنا مهاجرين، وكانت طيور السمن مهاجرة، طيور سمن تصطدم بنا، فنمسكها بأيدينا، طيور متعبة قطعت البحر كله، وأكلناها، أكل المهاجر المهاجر، وبها عشنا حتى وصلنا غزة، قبل أن نذهب إلى الخليل.

ولم يكن في السماء طيور هذه المرة.

***

تحت غبار الحرب فتشوا عن وجوه يعرفونها، عن أخبار، ولم يكن يعرف عمن يبحث في هذا الفتات الآدمي من الشرود والإنهاك.

امتلأت المدارس عن آخرها..

: إذا رأيت جدك قل لي، أو جدتك، فاهم؟

ووصلت طلائع الجيوش إلى العاصمة.

الجيوش المنسحبة، بعضها صعد بشاحناته العسكرية طلعة سوق الخضار باتجاه المخيم، انعطف نحو شارع (مأدبا)، أوغل بعيدا في الصحراء، وبعضها توقّف في منتصف الطريق بعد نفاد الوقود.

كل العيون في الأرض.

ووحدها الكلمات تخترق الأثير، تزف كل خمس دقائق أنباء إسقاط مزيد من الطائرات، الطائرات العدوة. وكل ثلاث دقائق أنباء تدمير رتل من الدبابات.

وعلى بعد 4 سم من إذاعة عمان، كانت (صوت العرب) تعلن موافقة المشير عبد الحكيم عامر على سحب الجيش النظامي ودعوة الأهالي للمقاومة الشعبية.

***

على باب مدرسته توقّف، مدرسته التي ما عاد الصغير يعرفها. تحلّق الناس حول رجل في الخمسين، يسألونه سؤالا واحدا، ويجيب عن كل الأسئلة:

"
قال لي الولد: اصح يابا، اليهود وصلوا البلد، قلت له: مجنون، ارجع لنومك، كيف يصل اليهود البلد وليس هناك صوت رصاص؟ الحرب ستقع، أي نعم، لكن الحرب طائرات، وقاهر، وظافر يا حبيبي
"

قال لي الولد: اصح يابا، اليهود وصلوا البلد، قلت له: مجنون، ارجع لنومك، كيف يصل اليهود البلد وليس هناك صوت رصاص؟ الحرب ستقع، أي نعم، لكن الحرب طائرات، وقاهر، وظافر يا حبيبي، عندما تندلع الحرب، هم الذين سيكتشفون أننا أصبحنا فوق رؤوسهم، نم، نم، يا جاسوس.

ولاحت الدبابات بأنجمها السداسية.

قلت: انظر كم نحن أذكياء، انظر إلى قدرتنا على تمويه دباباتنا بصورة متقنة، نم يا ولد، نم، غدا ستتناول إفطارك في بيتك القديم في حيفا.

وحين مرت الطائرات، الطائرات القادمة من الغرب، بأنجمها السداسية، قلت: انظر، ضربوا وعادوا.

ولكنه قال لي، ابني، الجاسوس: يابا الطائرات ضربت وعادت، أمر الله، لكن الدبابات تتجه شرقا.

قلت: لو كانوا يهودا لأطلقوا النار علينا، لماذا تمر الدبابات من طرف القرية دون أن تطلق النار وتقتلنا؟

قال: لأنه لا يوجد جيش يطلق النار عليها، وستنهي مهماتها وتعود إلينا.

قلت: ولد جاسوس، طابور خامس، طابور خمسين. هذه الحرب قامت لننتصر لا لننهزم، ولو كانت هذه الدبابات إسرائيلية يا جاسوس، لرأيت (دير ياسين) و(قبيه) و(الدوايمة) في الشوارع، لرأيت الدم.

ويلتفت إلى وجوه الناس: كلّكم أصبحتم جواسيس، كلّكم. تصوروا واحد قواد يقول لي: اصح يا عمي، أنت في عمان. جواسيس، مش قلتلكوا؟!

مشهد 2

ارتفع المذياع إلى السماء، وهوى. وفجأة كف عن تكرار تلك الأغنية التي كانت السبب في تهشمه. وتقافز خميس فوقه حتى سحق أجزاءه كلها، بحيث أصبح من الصعب على المرء أن يعرف أصل ذلك الحطام، وكما لو أن الأغنية لم يعد لها مكان تسكنه في هذا العالم، فرح خميس، لكنها قفزت، الأغنية! فإذا بها تقيم في فمه نفسه، وتطل برأسها طوال الوقت من أعماقه..

في تلك الأيام المليئة بالترقب، وحين كانت الإذاعات مشغولة بحياكة أقواس النصر، كان مذياع خميس قد تخصص ببث تلك الأغنية، كما لو أنه لا يحفظ سواها.

.. في الصباح تسمعها، ظهرا، عصرا، مساء، الأغنية ذاتها. وكنا نحتار أمام القدرة العجيبة لمذياعه على ترديدها، واستحضارها على ذلك النحو، مثل أي آلة تسجيل.

إحنا عرب شجعان..

ما حد فينا جبان

ويدوي صوت خميس متتبعا صوت المغني.

بالنخوة والإيمان

بالنخوة والإيمان.

نحمي الحمى والدار

يا ويل عدو الدار…

يا ويله يا ويله يا ويله

***

خميس لم يجن، لكنه كان يريد أن يفهم لماذا واصلوا انتهاكه إلى ذلك الحد دون أن ينتبه. كان يريد أن يفهم، ولم يكن عقله كافيا، كان عليه أن يطلق عينيه، يديه، قدميه، لسانه، قلبه، عنقه، شعره، كل أعضائه، لتعمل بأقصى طاقاتها من أجل شيء واحد: أن يفهم.

: يا ويل عدو الدار

يا ويله…

***

"
أقسم، أن كل من استطاع استيعاب حزيران 67 قد نجا، الذي جن، جن يومها، والذي لم يجن تمسح. انظر إليهم، لم يعودوا يتذكرون
"

: أشاح الجنود بوجوههم بعيدا، حين تقافز أمام عرباتهم. حين تجاوز الحدود، وصعد إلى مقدمة إحداها:

إحنا عرب شجعان

ما حد فينا جبان

حين خلع قميصه وأخذ يلوح به

: بالنخوة والإيمان

نحمي الحمى والدار..

.. حين تجمع الناس، وتوقف الرتل وسط الطريق، مجللا بغبار الهزيمة المرة.

لم يكن في عيني أحد من الجنود قوة تساعده على أن يلتفت إلى خميس ليقول له: اصمت. أو يد تدفعه وتلقي به بعيدا إلى الرصيف الغارق في الذهول.

كانت تلك لحظات خميس

زمنه الذي لن يتكرر على ذلك النحو دون أن يدفع الثمن.

أقسم، أن كل من استطاع استيعاب حزيران 67 قد نجا، الذي جن، جن يومها، والذي لم يجن تمسح. انظر إليهم، لم يعودوا يتذكرون.
ــــــــــــ
أديب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.