سبعة أسئلة حول الإساءة البابوية

سبعة أسئلة حول الإساءة البابوية


– الأول: هل هي زلة لسان؟
– الثاني: هل الأمر استشهاد عابر؟
– الثالث: هل هي مقولة تاريخية محضة؟
– الرابع: هل أراد البابا دعم الحوار بما قال؟
– الخامس: هل الغرض استفزاز المسيحيين لصالح الكنيسة؟
– السادس: هل الغرض دعم حملة الهيمنة على المسلمين؟
– السابع: هل تعبر الإساءة عن سياسة كنسية جديدة؟

توجد أسئلة أثارتها إساءة البابا الكاثوليكي الرومي بينيديكت السادس عشر إلى الإسلام والمسلمين يوم 12/9/2006م، وأخرى أثارتها محاولات الكنيسة التهوين من شأنها، وتلك التي أثارتها ردود الفعل الفورية من جانب جهات إسلامية عديدة، شعبية ورسمية.

وليس مجهولا أن توقيت هذه الإساءة جاء في مرحلة يمكن أن تسبب فيها الشرارة الصغيرة انفجارا واسع النطاق، على مستوى صراع الأديان أو صدام الحضارات، أو أن تضيف على الأقل احتقانا عقديا إلى احتقان عقدي وإنساني وسياسي، فتصنف الكلمات المسيئة بين القذائف القاتلة، وتضيع محاولات رأب الصدع تحت تأثير تنوع الضربات وتعدد مصادرها.

فهل يمكن في مثل هذه الأجواء طرح بعض الأسئلة الأساسية والإجابة عليها إجابة هادئة موضوعية؟


السؤال الأول: هل هي زلة لسان؟

"
كلام البابا استشهاد مقصود بمضمونه، منحرف عن المنهج العلمي، ولذلك لا يمكن استبعاد وجود قصد آخر من ورائه يتجاوز حدود غرض المحاضرة
"

لقد أصبحت زلات اللسان"المزعومة بين "حرب صليبية" و"إسلام فاشي" على لسان جورج بوش الابن، أو "تفوق الثقافة الغربية" على لسان سيلفيو برلسكوني، من التوالي والكثرة ما جعل كلمة "زلة لسان" تفقد معناها، فيفقد الاعتذار عنها -إذا ورد اعتذار- مغزاه.

والزلة على لسان مسؤول تكبر المسؤولية عنها بقدر حجم مسؤولية المنصب الذي يشغله صاحبها في خريطة صناعة القرار، والتأثير على عدد كبير من الناس.

فلا يمكن القبول بزلة لسان لا يتبعها إجراء يمحو مفعولها، لا كلام يحاول التهوين من شأنها أو تجاهل أثرها، وهذا بالذات ما لا ينتظر من أحد من المذكورين ولا من البابا الكاثوليكي، لاسيما أنه يحمل درجة الأستاذية في علم الأديان (الكاثوليكي)، وأنه لم يرتجل كلمة أو تصريحا، بل ورد كلامه في محاضرة، مدروسة معدة، من جانب رجل متخصص، قبل أن يكون رجل كنيسة الكاثوليكية في روما، ورئيس دولة الفاتيكان.

فالجواب إذن "ليست هذه زلة لسان بل هي كلام مدروس مقصود".


السؤال الثاني: هل الأمر استشهاد عابر؟
القيصر الألماني فيلهلم الثاني عبر خلال زيارة له في فلسطين عن تقديره للإسلام بمقولة مشهورة لدى الألمان والمسلمين، والأديب الألماني يوهانس فولفغانغ غوته كتب عن الإسلام ما نشر عنه لاحقا أنه احتمال أو شبهة أنه أسلم.

ويوجد من ألف الكتب في جمع مقولات كبار المفكرين والفلاسفة ورجال السلطة في ألمانيا نفسها، وفي الغرب عموما -مثل توينبي أو تولستوي- ممن أدلوا بدلوهم في إنصاف الإسلام وإنكار ما نشرت الحقبة الصليبية في القرون الوسطى عنه من أقاويل.

فعلام ينتقي أستاذ تاريخ "الإملاءات العقدية/ الدوغماتية" الكنسية سابقا، وبابا الكنيسة الكاثوليكية لاحقا، عبارة من أسوأ ما قيل عن الإسلام في الغرب، دون سواها، ودون أن يفندها، أو أن يقول إنه لا يتبناها، في استشهاد أورده في محاضرة خصصها للحديث عن العلاقة بين العقل والدين وبين العنف والحوار؟

الجواب: هو استشهاد مقصود بمضمونه، منحرف عن المنهج العلمي، ولذلك لا يمكن استبعاد وجود قصد آخر من ورائه يتجاوز حدود غرض المحاضرة.


"
في حالة حسن النية، فقد أخطأ البابا الذي يوصف بالعصمة في اختيار الوسيلة، وفي حال سوء النية فالإساءة إلى الإسلام باتت من وسائل الزعماء السياسيين والكاريكاتوريين الإعلاميين والآن رجال الدين المسؤولين لتقويض الحوار وتأجيج الصراع
"

السؤال الثالث: هل هي مقولة تاريخية محضة؟
لو كان الأمر أمر محاضرة تاريخية لوجب على البابا أن يتحدث عن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية مع العقل والعلم وقد عطلتهما أكثر من خمسة قرون، ومع العنف الذي أودى بحياة الملايين من البشر من المسيحيين أنفسهم إلى ما بعد "عصر التنوير" الأوروبي.

ولوجب عليه أن يتحدث عن تاريخ الغرب مع العنف الذي انتشر في أنحاء الدنيا من عهد كولومبوس وإبادة الهنود الحمر إلى عهد أميركا في حقبة دعوتها للتحرير من الاستعمار وقنبلة هيروشيما وناغازاكي، إلى عهد أميركا وحروبها الإرهابية والوقائية بأسلحتها الفتاكة في أنحاء الأرض.

ويمكن إن شاء أن يضيف بالمقابل إنجازات مواثيق حقوق الإنسان وسواها، وإن بقيت حتى الآن مغلولة إلى حد بعيد بمعايير القوة وتحكيمها في خدمة المصالح المادية.

ولو كان الأمر أمر محاضرة عن الإسلام، لكان عليه أن يورد من المصادر الإسلامية الموثوقة ما ورد بشأن الدعوة بالحسنى وموضع الجهاد في الشريعة، وبشأن الإنسان وتكريمه وحرية العقيدة والعدالة مع المحسن والعدو، بدلا من أن يورد فيما أورد آية "لا إكراه في الدين" ليزعم أنها كانت في فترة عدم امتلاك الرسول صلى الله عليه وسلم أسباب القوة.

وهذا ما يلتقي فيه واقعيا مع أصحاب فكر العنف الحديث، الذين يزعمون بنسخ هذه الآية، على النقيض مما يقول به العلماء المسلمون الأقدمون والمعاصرون.

الجواب إذن: لم يكن الحديث حديثا علميا، وليس صحيحا ما تحاول المصادر الكنسية القول به من أن العبارة المعنية أسيء فهمها.

ولم يقتصر مضمون المحاضرة فيما يتعلق بالإسلام على عبارة واحدة، وكأن معناها المجتزأ ضمن إطار "المحاضرة العلمية" هو الذي أعطى "انطباعا خاطئا" عند المسلمين بعد تناقلها عبر وسائل الإعلام.


السؤال الرابع: هل أراد البابا دعم الحوار بما قال؟
لا يكفي السؤال عن النيّة الطيبة إذا كان التعبير مناقضا لها، وعلى افتراض ذلك، فإن كتابات المتخصصين الغربيين عن البابا بينديكت السادس عشر، من قبل استلامه منصب البابوية حتى الآن تؤكد عددا من الأمور.

ومحور ما نشر أنه غير متحمس للحوار بين الأديان والثقافات مثل سلفه، بل يدعو إلى الحوار من زاوية واحدة هي انطلاقه من الكنيسة الكاثوليكية فقط، وقابلية "استيعابها" لسواها من الطوائف والكنائس المسيحية، و"تعاملها" وفق ضرورات الواقع مع الأديان الأخرى كالإسلام.

الجواب إذن: في حالة حسن النية، فقد أخطأ البابا الذي يوصف بالعصمة في اختيار الوسيلة، وفي حال سوء النية، فالإساءة إلى الإسلام باتت من وسائل "الزعماء السياسيين" و"الكاريكاتوريين الإعلاميين" والآن "رجال الدين المسؤولين" لتقويض الحوار وتأجيج الصراع.


السؤال الخامس: هل الغرض استفزاز المسيحيين لصالح الكنيسة؟

"
ما كان لرجل في مكانة البابا الكاثوليكي الرومي أن يصدر عنه موقف يسهم في الاستثارة، كما أنه لا يعفي رجلا في موقعه ادعاء أنه لم يقصد ذلك بما قال
"

قد يكون هذا أقرب إلى تفسير مواقف بينديكت السادس عشر، إذ الهم الأكبر الذي أعرب عنه بصورة متكررة مذ كان في المرتبة الثانية في الفاتيكان، هو دفع المسيحيين إلى الأخذ بقيم الكنيسة من جديد بعد أن نأوا عنها.

وبات الاستشهاد بإقبال المسلمين على دينهم، مع محاولة وضع ذلك في قالب "الخطر على الغرب وحضارته" من الوسائل المفضلة في الغرب لاستثارة أهله، ولكن لا تأتي هذه الاستثارة في خدمة الحوار بل فيما يشبه التعبئة للمواجهة.

والجواب إذن: ما كان لرجل في مكانة البابا الكاثوليكي الرومي أن يصدر عنه موقف يسهم في تلك الاستثارة، ولا يعفي رجلا في موقعه ادعاء أنه لم يقصد ذلك بما قال.


السؤال السادس: هل الغرض دعم حملة الهيمنة على المسلمين؟
روي عن البابا الكاثوليكي منذ وصول المحافظين الجدد بخلفيّتهم "الصهيونية المسيحية" أو ما يوصف بالمسيحية التوراتية إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، أنه يرى في ذلك نموذجا صالحا لأوروبا، أي أن تعود الكنيسة إلى صلب توجيه صناعة القرار السياسي.

وقد نقل على لسانه ما يفيد تعزيز القائلين بذلك عنه، وفي هذا الإطار يمكن أن تسهم إساءته إلى الإسلام والمسلمين من المنطلق الكنسي في الحملة الجارية لترسيخ هيمنة مطلقة على المنطقة الإسلامية.

والجواب إذن: يبقى الأمر في نطاق التكهنات، وللتكهنات خطورتها، فلا ينجلي مفعولها إلا من خلال خطوات عملية تسهم في تأكيد عدم صحتها.

وهذا ما ينبغي أن يصدر عن الكيسة الكاثوليكية في روما، سواء صدر اعتذار كلامي عما قيل أم لم يصدر.


السؤال السابع: هل تعبر الإساءة عن سياسة كنسية جديدة؟

"
يجب أن يكون الجواب على الإساءة البابوية من جانب المسلمين وعلمائهم والمسؤولين في دولهم ردا حضاريا حكيما، إذ جميع ما قاله لا يغير حقائق الدين ولا حقائق التاريخ، ولا يغير أيضا حقيقة أن المستقبل للإسلام
"

القائلون بذلك في الأوساط الغربية هم الأقرب إلى الرغبة في تأجيج الصراع، ومما يقولون في هذا الصدد، أنه كان على البابا الكاثوليكي أن يكسر "المحرّمات" في نطاق الحوار مع المسلمين، فحتى الآن يدور الحديث عن تبادل وجهات النظر والمواقف بلا جدوى.

والمطلوب أن يقال بصريح العبارة للمسلمين: غيروا هذا الجانب وذاك من دينكم، ليمكن الحوار معكم أصلا، تماما كما يقول السياسيون عبر مشاريع "الشروق الأوسطية، العتيق والكبير والجديد والأدنى والأوسط"، ومشاريع "تغيير المناهج" وغيرها.

وهنا بالذات يأتي توظيف الحديث عن "الجهاد" تحت عنوان "العنف والسيف" وعن "الإيمان في الإسلام" تحت عنوان "التناقض مع العقل والعلم"، وبالتالي مع الحوار.

والجواب إذن: ما أراده البابا الكاثوليكي كامن في ظهر الغيب، فالمستقبل هو الذي يبين ما إذا كان يريد فعلا اتباع سياسة "حوار" جديدة، حافلة بالألغام والمتفجرات، أو أنه أراد اختبار الأجواء، كما صنع سواه من منطلقات أخرى غير المنطلق الكنسي.

إن التخصص الجامعي للأستاذ الدكتور يوزيف آلويس راتسينجر، قبل اعتلائه منصب البابوية الكاثوليكية وتسمية نفسه بينديكت السادس عشر، كان فيما يسمى "الدوغما الكنسية"، وهو ما يعني "الإملاءات الكنسية العقدية" التي لا تقبل الرفض أو النقض، إذ هي بمنزلة "حكم إلهي".

وهذا بالذات هو ما جعل الكنيسة بعد اندماجها في الإمبراطورية البيزنطية فالرومانية، بداية لعهد استبدادي أطلق الغربيون عليه وصف القرون الوسطى المظلمة.

وفيه كانت الحملات العسكرية الدائمة دون انقطاع، ثمّ الحملات على المفكّرين والعلماء والنساء، فور ظهور البذور الأولى للتنوير في أوروبا، مع وصول الحضارة الإسلامية إلى أوج عصرها الذهبي، وانتشارها من أقصى الأرض إلى أقصاها، دون أن تقضي على هوية الشعوب التي اعتنقت الإسلام أو انتماءاتها القومية، كما يشهد واقع "العالم الإسلامي" حتى الآن.

فكان من المفروض أن يكون التخصص وحده كافيا لتجنب توجيه التهمة إلى الإسلام بشأن تناقض مزعوم بين العقل والدين، لاسيما أن رتسينجر لم يكن جاهلا بالإسلام، عندما رد على "زلة لسان" برلسكوني –وفق ما تمليه سياسة سلفه يوحنا بولس الثاني آنذاك- فقال إنّ الحضارة الإسلامية كانت هي المتفوقة على المسيحية الغربية لقرون عديدة.

وفي هذا ما يشير أيضا إلى ضرورة أن يكون الجواب على الإساءة البابوية من جانب المسلمين وعلمائهم والمسؤولين في دولهم ردا حضاريا حكيما، إذ جميع ما قاله بينديكت السادس عشر لا يغير حقائق الدين ولا حقائق التاريخ، ولا يغيّر أيضا حقيقة أن التطورات الجارية تؤكد أن انحراف الحضارة الغربية عن القيم الإنسانية يكاد يودي بها، وأن عودة ظهور الحضارة الإسلامية من جديد، بات وشيكا، وأن هذا ما يخدم البشرية جمعاء، لا المسلمين وحدهم، لأن الإسلام هو الدين الذي أنزل رحمة للعالمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.