الدين والمقدسات في دوامة المصطلحات

الدين والمقدسات في دوامة المصطلحات



بين مرجعيتين
تقديس فرض الأمر الواقع
استحالة الحلول الوسطية

كشفت الاتصالات واللقاءات المتتابعة لتطويق الغضبة الجماهيرية الإسلامية تجاه الإساءة كاريكاتيريا لمقام النبوة، أن الكلمات التي تُستخدم في التواصل وفي كثير من التصريحات الرسمية والكتابات الإعلامية، ليس لها المقاصد ذاتها، فهنا دين وهناك دين، وهنا حرية وهناك حرية، وهنا مقدس وهناك مقدس، ومن وراء ذلك كلمة حاضرة غائبة هي المرجعية، فالمرجعية التي تعبر عنها الغضبة الجماهيرية غير المرجعية التي تعبر عنها الدهشة الغربية، سواء كانت حقيقية نتيجة الجهل بالآخر أو مصطنعة إصرارا على تجاهله.

وتجاهل هذا الاختلاف يتبدى في استخدام كلمات أخرى عديدة -كالخصوصية والثقافة وحقوق الإنسان وغيرها- في حوارات أشبه بدوران الرحى في طاحون لا حبوب فيه، حتى باتت كلمة "حوار الطرشان" المعروفة هي الأصح لوصف قسط كبير مما يجري تحت عنوان حوار.

بين مرجعيتين

"
الطرف الإسلامي يعترف بوجود مرجعية أخرى عند الطرف الآخر بغض النظر عن اختلاف الرؤى حول جوانب صحتها وفسادها, أما الطرف الآخر فلا يجد فيما عند الطرف الإسلامي ما يرقى إلى مستوى "مرجعية" للحياة
"

المشكلة مشكلة معايير تحدد ما يُفهم من كلمة إساءة مثلا، ومتى يُراعى الآخر أو لا يراعى، والمعايير من صنع المرجعية السائدة، ومداخل التعبير عنها هي تلك المصطلحات، التي تحمل هنا مضمونا ومفهوما وهناك مضمونا ومفهوما مغايْرين، فكيف يراد الاتفاق على صيغة مشتركة ما، إن تم الوصول إليها فعلا، سيبقى تفسيرها هنا مختلفا عن تفسيرها هناك، ولا تجد بالتالي طريقا إلى تطبيق مفيد ومشترك؟

وليست الجولة التي أثارها حدث الإساءة وشاع في متابعتها الحديث عن فكرة صدام الحضارات ورفضها، جولةً قائمة بذاتها، تنتهي باتفاق بشأن الحدث، أو بتجاوزه دون اتفاق، إنما هي في جوهرها جولة من جولات يصنعها افتقاد الأسس والقواعد للتعامل بين طرفين مختلفين، فتتكرر بصورة أو بأخرى، حدثا بعد آخر.

ولكن من السمات المشتركة بين هذه الجولات -وهنا أحد مكامن الخطورة في المضي فيها دون الخروج من دوامة المصطلحات الكامنة من ورائها- أن أحد الطرفين، وهو الطرف الإسلامي، يعترف بوجود مرجعية أخرى عند الطرف الآخر، بغض النظر عن اختلاف الرؤى حول جوانب صحتها وفسادها وخيرها وشرها وإيجابياتها وسلبياتها، وهذا ما ينطوي عليه فهم واقع التعدد وفق ما تقتضيه قاعدة "لتعارفوا".

أما الطرف الآخر فلا يجد فيما عند الطرف الإسلامي ما يرقى إلى مستوى "مرجعية" للحياة بمختلف جوانبها، بل يعتبر مرجعيته "الغربية" وحدها التي يمكن -بل يجب- القبول بها إنسانيا.. جماعيا، ومن يرفض ذلك في عصر استفحال مفعول العولمة بات يواجه التعامل بموازين القوة السائدة، بمختلف أشكال القوة بدءا بالكلمة الإعلامية وانتهاء بالدبابة الغازية.

لا تزعم هذه الصورة وجود تجانس مطلق هنا أو هناك، ولكن نلاحظ في المنطقة الإسلامية، كيف كشف التفاعل مع حدث الإساءة عن أن للتغريب نفسه خطوطا حمراء أيضا، رغم ما سبق أن أحدثه من خلل داخلي في طرح مسألة المرجعية، فمن يخرق تلك الخطوط الحمراء يفصل نفسه عن السائد جماهيريا، وما دام عاجزا عن صنع شعوب أخرى، فهو مخير بين الاحتضار والتلاشي، وبين إعادة النظر في أطروحاته ومواقفه بمعايير المرجعية التي صنعت تلك الشعوب وصنعت تاريخها وخصوصيتها وهي التي تحركها.

بل إن إنكار خصوصية المرجعية الذاتية من جانب بعض من ينتمي إلى الدائرة الحضارية الإسلامية، لا يخلو من آثارها عليه، فهو لا يتوقع أن يجد قبولا لأطروحاته دون استخدام مصطلحات محلية، أو إعادة صياغة ما يستعير من مصطلحات مرجعية أخرى.

وبالمقابل لا ينجو مفهوم التعددية في الغرب الذي يكثر ترداده بهذا الصدد، من مفعول دوامة المصطلحات أيضا، ولهذا فما نرصده من عدم التجانس لا يعني تعدد المرجعيات في الغرب بل تعدد المواقف. قد يكون من هذه المواقف ما هو منصف، أو غوغائي، أو منهجي، أو متعصب، أو حتى عدائي، ولكنها جميعا تعود في حصيلتها إلى أثر من آثار مرجعية مشتركة سائدة، وإن تفاوتت أبعاد التأثير وانعكاساته.

تقديس فرض الأمر الواقع
حدث الإساءة والغضبة التي فجرها كشف عن أمر آخر بالغ الأهمية، هو أن عنصر "المعتقد" بالذات احتفظ بقوته رغم سائر ما نُشر حتى الآن، تحت عناوين معروفة، تنويرا، وحداثة، وعلمانية، ومعاصرة، وقيما إنسانية مشتركة، وبما يشمل مقولات معروفة من قبيل "نهاية عصر الأيديولوجيات".

والمعتقد هو الذي يصنع المقدس، والدين بمفهومه الراسخ في الدائرة الحضارية الإسلامية حدد مقدساتها، كمقام الألوهية، ثم مقام النبوة، الشامل لسائر الأنبياء، بالإضافة إلى منظومة القيم، مثل العفة، والكرامة الإنسانية، والحرية دون المساس بالعبودية لله عند المسلم، ولا بحرية المعتقد والدعوة دون إكراه الآخر، ولا بالتزام التعارف بين البشر والحضارات على اختلاف الألسن والألوان والمعتقدات. وقد عايشنا تشتيتَ مفهوم كلمة ثوابت اصطلاحيا، ويبقى من المؤكد أن هذه القيم وأمثالها في الدائرة الثقافية للحضارة الإسلامية على رأس ما تعنيه كلمة الثوابت إسلاميا.

"
تبدو مشكلة تقديس "فرض الأمر الواقع" في المرحلة الراهنة مشكلة بالغة الخطورة، من خلال نقلتها الكبرى في عصر التقنيات الحديثة من عالم أطماع الاقتصاد والمال، إلى عالم عولمة الأفكار والأذواق
"

بالمقابل صنع مسلسل التنوير فالحداثة فالعلمانية صيغة "معتقد" آخر للحضارة البشرية وفق رؤيتها غربيا، وإن قام صرح المصطلحات في ذلك المسلسل على استبعاد كلمة المعتقد نفسها لأسباب تاريخية، وقد اجتمع في هذا التصور أو المعتقد أو الرؤية الذاتية للثوابت والمرجعية -فليست التسميات هي المهمة هنا- بعضُ ما جرى إحياؤه من عصر الإغريق والرومان، مع بقية ما تم تقويضه من عهد الكنيسة والإقطاع، ومع كثير مما نشأ من أطروحات جديدة، بمشارب متعددة، ومتناقضة للغاية فيما بينها، فلسفةً واقعية وعقلانية، وجدلية مثالية ومادية، ومناهج رأسمالية وشيوعية، وكانت الحصيلة -رغم التناقضات داخلها- في منزلة المقدسات، وإن استخدم التعبير عنها أحيانا كلماتٍ تتطابق لفظا مع بعض ما تداولَه تاريخ الحضارة الإسلامية، والرؤية العقدية فيها، منذ نشأتها، وهو ما استمر في حقبة ازدهارها، ولم ينقطع في ظل كبوتها المعاصرة، بدءا بالكرامة الإنسانية وما ينبثق عنها، انتهاء بإعمال الفكر والعقل والوجدان.

إن الفهم المنتشر عموما عن تقديس الحرية الفردية أو الفنية أو الأدبية في الغرب إلى درجة عدم الإحساس بالخطأ أو إنكاره عند "تدنيس مقدسات الآخر" هو بحد ذاته في منزلة المقدسات المعتقدية، المقابلة لمقدسات الآخر.

وإن تقديس "فرض الأمر الواقع" وفق موازين القوة كما صنعه تاريخ "اكتشافات" جغرافية مزعومة لأراضي الآخر، واعتبار استعمارها حقا "طبيعيا"، هو أيضا من مقدسات ذلك المسلسل التاريخي في الغرب، حتى باتت مصطلحات حق تقرير المصير، وحق التحرير، وحق المقاومة، وغير ذلك من المصطلحات المتداولة، مقيدةً بقدسية الصراع على فرض الأمر الواقع بالقوة، وتصطدم بمضامين فهمنا نحن لتلك المصطلحات نفسها، انطلاقا من الدائرة الحضارية الإسلامية ومرجعيتها في صياغة أفكارنا وأحاسيسنا ومواقفنا، على اختلاف انتماءاتنا، بالإضافة إلى ما تصنعه المعاناة في واقعنا الآني.

وتبدو مشكلة تقديس "فرض الأمر الواقع" في المرحلة الراهنة مشكلة بالغة الخطورة، من خلال نقلتها الكبرى في عصر التقنيات الحديثة، تواصلا وعسكرة للهيمنة، من عالم أطماع الاقتصاد والمال، إلى عالم عولمة الأفكار والأذواق، ولم يكن هذا منعدما فيما مضى، ولكن لم يكن يصل بآثاره إلى أعماق البيوت وردهات الأدمغة وخلجات الصدور كما هو الحال الآن.

استحالة الحلول الوسطية
إن تقديس فرض الأمر الواقع في مقدمة ما يصطدم بأهم العلامات الفارقة بين المرجعيتين، وسائر ما ينبثق عنهما، ومنها:

– القيم في الدائرة الحضارية الإسلامية ثوابت غير قابلة للتغيير، بدءا بمفهوم الحرية الشخصية المحددة بحرية المعتقد حظرا للإكراه وحرية الآخر وكرامته الأصيلة دون تمييز بين بني آدم جميعا، مرورا بمفهوم العفة -مثلا- حتى عند من يتجاوزه ولا يفتقد الشعور بالإثم وفق المصطلحات الإسلامية، بل حتى وهو يتبجح بما يصنع دون أن يفقد الإدراك أنه يتحدى المجتمع حوله، انتهاءً بمفهوم الدين وقد ارتبط بكلمة الوحي ارتباطا لا ينفصم، فلم يتحول قط -رغم سائر ما كان في حقبة ازدهار التغريب- إلى مفهوم "دين طبيعي" وفق مصطلح الفلسفات الغربية عبر مختلف عصورها لتصنيف أي تصور عن وجود قوة علوية ما، دون تمييز بين وحي إلهي ومثالية أفلاطونية وما تفرع عنها ومنطق أرسطوطالي وما تشعب من سبله.

مقابل ذلك انتشر وفق مسيرة الفلسفات الغربية تلك أن القيم تُصنع صنعا -مثل الأديان الطبيعية- وما دام نهج الصراع القائم على موازين القوة هو السائد، فهي قيم متقلبة من عصر إلى آخر مع تقلب تلك الموازين، فصنعت العهود الوثنية الإغريقية والرومانية قيمها الطبقية القهرية، وصنعت الكنيسة قيمها الإملائية القهرية، وصنعت الرأسمالية قيمها المادية القهرية، وما زالت مصانع القيم تشتغل، تحركها حديثا وقود قوة المال القهرية.

من هنا لا يوجد عند الغربيين على وجه التعميم مقدسٌ ديني أو معتقدي ثابت يعلو على "قدسية" عدم تثبيت المقدس أصلا، وبالمقابل لا يوجد مقدس يمكن أن "يتغير ويتطور أو يُلغى" في الدائرة الحضارية الإسلامية وفق مفهوم الدين فيها.

"
ليس المطلوب حلولا وسطية ما بين مرجعيتين, بل المطلوب حلول متوازنة مدروسة لإعادة الاستقرار إلى العلاقات البشرية، وهذا ما يمثل التحدي الأكبر في العصر الحاضر لأصحاب الفكر والقلم وصانعي القرار
"

ومن منطلق هذين المنظورين المتقابلين إلى درجة استحالة الالتقاء يبلغ الغضب في الساحة الحضارية الإسلامية مبلغه من أن الغربيين رفعوا بعض ما جعلوه هم في منزلة الثوابت والقيم، كعداء السامية -بمفهوم الكلمة الغربي- إلى مستوى "المقدس" فوضعوا ما وضعوا من تشريعات تقنينية متتالية لحظر المساس به، على حساب "قدسية" حرية الكلمة (وحرية البحث العلمي أيضا) ثم هم لا يستوعبون -في إطار حدث الإساءة- ذلك الرفضَ الجماهيري المشترك في المنطقة الحضارية الإسلامية على اختلاف المستويات والانتماءات، وجوهره رفض ذريعة غياب وجود تشريعات تقنينية تحظر المساس بمقدسات الآخر الدينية، والزعم أن المانع من وجودها هو "قدسية" حرية الكلمة.

من هنا أيضا يطرح السؤال نفسه عن جدوى استخراج صيغة ما من الأمم المتحدة، قد يتم الاتفاق على كلماتها، ولكن هل يمكن أن يتم الاتفاق بعد ذلك على مدلول الكلمات؟

بهذه المعطيات لا يتجاوز ما يدور من حوار حدودَ محاولة التهدئة على مضض، و"الكلام" عن خصوصية يجب احترامها، ولكن دوامة المصطلحات تجعل هذه الكلمة أيضا دون مفعول بين خصوصية غربية مقيدة بمرجعيته وخصوصية تعني في الدائرة الحضارية الإسلامية مواصفات حضارية جماعية، بما يشمل العلاقات بالآخر تعارفا لا إساءة.

ولو أمكن جدلا أن يبقى كل فريق وراء حدود دائرته الحضارية فلربما غابت المشكلة، إنما كان هذا مستحيلا في الماضي، وهو أشد استحالة في عصر ما بات يوصف بالقرية الصغيرة، ولهذا لا تفيد حلول وسطية، فالحلول الوسطية تتطلب "توازنا" بين طرفين، ولا تكون إلا مجحفة مصطنعة في ظل خلل تصنعه سياسات الهيمنة وقهر الآخر، بدءا بقوة "القانون" في مثل تشريعات حظر الحجاب، مرورا بانتهاك "القانون" الدولي في مثل قضايا الاحتلال والتحرير، انتهاء بإرهاب الآخر عبر ما يُنشر بأسلوب شبه استعراضي عن التعذيب وهدر الكرامة الإنسانية في مثل أبو غريب وغوانتانامو. دون محاسبة ولا عقاب.

ليس المطلوب حلولا وسطية ما بين مرجعيتين -وهي شبه مستحيلة- بل المطلوب حلول متوازنة مدروسة لإعادة الاستقرار إلى العلاقات البشرية، وهذا ما يمثل التحدي الأكبر في العصر الحاضر لأصحاب الفكر والقلم وصانعي القرار، وهي حلول تتطلب -قبل الحوار بحثا عنها- حوارا مبدئيا حول صياغة قواعد مشتركة ملزمة وإدراكا متبادلا لحقيقة وجود الاختلاف مرجعيةً وتصورا. هذا بين من تصدق نواياهم في طلب التعايش الحضاري بدلا من الصدام، والاحترام المتبادل بدلا من معادلة القوة والخضوع، فكل ما يُفرض فرضا وما ينبني عليه من آثار لا يبقى إلا ردحا من الزمن من عمر التاريخ البشري، ثم تنقلب الموازين آجلا أو عاجلا، فتنقلب الصورة أيضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.