مأساة جسر الأئمة والمشهد العراقي

مأساة جسر الأئمة والمشهد العراقي



ياسر الزعاترة

 

– الجسر المتداعي وشائعة الانتحاري

– توقيت الكارثة السيئ

– تداعيات المأساة وسبل تجاوزها

 

مأساة إنسانية بكل المقاييس تلك التي تعرض لها العراق يوم الأربعاء 31/8، فقد وصل عدد الضحايا إلى ما يزيد عن ألف، في حين جرح المئات في حادثة جسر الأئمة على نهر دجلة في بغداد.

 

جسر الأئمة يصل بين منطقة الأعظمية ذات الغالبية السنية وفيها ضريح الإمام أبي حنيفة النعمان الذي يلقب بالإمام الأعظم، وبين منطقة الكاظمية نسبة إلى الإمام موسى الكاظم وهو الإمام السابع من أئمة الشيعة الاثني عشرية، ونجل الإمام جعفر الصادق الذي يعتبر مؤسس المذهب الشيعي.

 

وقد قتل الكاظم مسموماً في السجن أثناء خلافة هارون الرشيد، مع أن السلطة قد أنكرت ذلك يومها، لكن سيرة خلفاء بني أمية وبني العباس مع رموز آل البيت قد تؤكد واقعة السم بصرف النظر عن اعتراف السلطة أو إنكارها.

 

المناسبة هي واحدة من المناسبات المهمة عند الشيعة عموماً، والعراقيين منهم على وجه الخصوص تبعاً لوجود ضريح الإمام موسى الكاظم في منطقة الكاظمية، مع العلم أن للشيعة احتفالاتهم بمولد وموت أو استشهاد كل إمام من الأئمة الاثني عشر.

 

لكن الأمر يختلف ها هنا بوجود المقام الذي إليه "يحج" مئات الآلاف في هذه المناسبة، كما يزوره الملايين سنوياً، ليس من العراق وحده وإنما من مختلف دول الجوار والدول البعيدة، وإن لم يكن ذلك متاحاً على نحو معقول أيام صدام حسين.

 

كارثة جسر الأئمة كانت مثيرة للمشاعر بالنسبة للعالم العربي والإسلامي من زاويتين، الأولى إنسانية بحتة، فقد كان مشهد الضحايا ومعظمهم من النساء والأطفال مثيراً للحزن ومستفزاً للدموع بالفعل.

 

أما الزاوية الثانية فهي أن الضحايا كانوا مسلمين يصلون صلاتهم ويستقبلون قبلتهم ويأكلون ذبيحتهم، كما هو مضمون حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، وذلك بصرف النظر عن الخلافات الفقهية والاعتقادية التي لا تغير من حقيقة أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً سول الله هي عنوان الدخول في دين الله عز وجل.

 

"
الأجواء المريضة السائدة هي التي دفعت البعض نحو تحميل مسؤولية ما جرى لشائعة وجود انتحاري بين الجموع أدت بدورها إلى التدافع
"

الجسر المتداعي وشائعة الانتحاري

في قراءة قضائية أو جنائية للحادثة يمكن القول إنه لولا الحشد الطائفي المتوفر على نحو استثنائي في العراق هذه الأيام لما كان بوسع أحد أن يخرج عن دائرة الأسباب الفنية التي أدت إلى الحادث وتتحمل مسؤوليتها وزارة الداخلية والجهات الحكومية الأخرى التي سمحت باستعمال جسر لا يصلح لسير هذه الأعداد الهائلة من البشر، وذلك وفق ما أكدت مصادر عديدة.

 

وقد ذكر مسؤولون عراقيون أن الجسر كان مغلقاً أمام المشاة، لكن بعض القوى السياسية أصرت على فتحه.

 

وفي العموم فإن الأجواء المريضة السائدة هي التي دفعت البعض نحو تحميل مسؤولية ما جرى لشائعة وجود انتحاري بين الجموع أدت بدورها إلى التدافع، وصولاً إلى القول إن من بث الشائعة هو من الجهات الحاقدة على شيعة آل البيت من التكفيريين والصداميين.

 

واللافت أن خبر الشائعة قد توفر في وسائل الإعلام قبل معرفة تفاصيل الحادثة أو عدد ضحاياها، وقبل توفر شهود عيان عليها، مما يشير إلى الاستعداد النفسي السائد لتحميل "التكفيريين والصداميين" مسؤولية ما جرى حسب المصطلح الذي يستخدمه الكثيرون.

 

ما من شك في أن حوادث استهداف الشيعة في بعض المناسبات الدينية كالتي وقعت سابقاً قد شكلت أرضية مفهومة لهذه التأويلات، لكن الثابت بالمقابل أن مسألة استهداف الشيعة بوصفهم شيعة وفي مناسبات أو أماكن دينية لم تتخذ ديدناً لدى المجموعات التي تتبنى مواقف متشددة حيال هذه الفئة، رغم سهولة ذلك من الناحية العملية.

 

وهذه مواقف لم تستند إلى مسألة الكفر كما أكد أبو مصعب الزرقاوي زعيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين في الرسالة التي رد فيها على حديث زميله أو شيخه بحسب البعض أبو محمد المقدسي لفضائية الجزيرة، وإنما تستند إلى تعاونهم مع الاحتلال، بدليل تأكيد الزرقاوي على عدم استهدافه أيا من الكفار الآخرين مثل الصابئة والمسيحيين واليزيديين.

 

يشار هنا إلى الموقف الواضح من مثل هذه الممارسات التي تنفذ من طرف مجموعات المقاومة الأساسية مثل المقاومة الإسلامية الوطنية (كتائب ثورة العشرين) والجيش الإسلامي وجيش المجاهدين، فضلاً عن المواقف الحاسمة بشأنها من طرف القوى الدينية والسياسية التي تؤيد المقاومة مثل هيئة علماء المسلمين.

 

يلفت الانتباه أن تنظيم قاعدة الجهاد لم ينفذ في الآونة الأخيرة عمليات معروفة تستهدف مواقع مدنية شيعية على التعيين، وإن سقط مدنيون من مختلف الطوائف في عمليات استهداف للقوات الأميركية وقوات الأمن العراقية كنتاج لعدم التحوط في اختيار الأهداف، مما يعني أنه من الصعب القول إن استهدافاً من طرف هذا التنظيم قد وقع للحشود في منطقة الكاظمية، لا على الجسر ولا في سياق ما تردد من إشاعات حول تسميم المياه أو الأطعمة.

 

أما البيان الذي قيل إنه صدر عن مجموعة تسمي نفسها الطائفة المنصورة فلا يعتد به، لا من الناحية السياسية ولا الأمنية.

 

تبقى مسألة الصواريخ التي أطلقت قبل كارثة الجسر بحوالي ساعتين، والتي ذهب ضحيتها حسب بعض المصادر سبعة من القتلى وحوالي أربعين جريحاً، فهذه أيضاً تثير الشكوك، ذلك أن إطلاق قذائف الهاون والكاتيوشا لم يعد سهلاً في الآونة الأخيرة.

 

ولو توفرت الفرصة لذلك لخصت بها المنطقة الخضراء التي تؤوي قيادات الأميركان ومن يتبعونهم من أركان الحكومة، والسبب هو كثافة الانتشار الأمني التي لم تعد تسمح بإطلاق الصواريخ حتى في الليل فضلاً عن النهار كما وقع يوم المأساة، مما يشير إلى إمكانية أن يكون من أطلق الصواريخ قد قصد ذلك من أجل المزيد من التصعيد الطائفي بين السنة والشيعة.

 

وفي العموم فإن العمليات التي لا يكون فيها منفذ واضح مثل السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة تبقى موضع شك في ساحة مفتوحة مثل الساحة العراقية، وها هو الزرقاوي نفسه ينفي بصراحة قيام مجموعته باستهداف الكنائس التي استهدفت بسيارات مفخخة لا يقودها أحد، وإنما كانت متوقفة قرب أهدافها.

 

"
ما يثير الشكوك أكثر فأكثر حيال ما جرى في الكاظمية هو توقيته الذي جاء بعد تقارب واضح بين العرب الشيعة والعرب السنة حيال الموقف من الدستور، وتحديداً ما يتعلق بوحدة العراق التي غدت مهددة
"

توقيت الكارثة السيئ

من الجدير بالذكر أن كارثة جسر الأئمة قد جاءت بعد أيام من كشف جريمة بشعة في حق حوالي أربعين رجلاً من العرب السنة جرى اعتقالهم من بيوتهم في مدينة الحرية ببغداد على أيدي مجموعة ترتدي زي أجهزة الأمن العراقية، ثم وجدوا بعد ثلاثة أيام مقتولين وعيونهم معصوبة وأيديهم مكبلة في محافظة واسط.

 

وهذه الجريمة صعدت من الانتقادات للأجهزة الأمنية الحكومية، وبخاصة من طرف الهيئات والتجمعات العربية السنية مثل هيئة علماء المسلمين والحزب الإسلامي ومجلس الحوار الوطني.

 

وما يثير الشكوك أكثر فأكثر حيال ما جرى في الكاظمية هو توقيته الذي جاء بعد تقارب واضح بين العرب الشيعة والعرب السنة حيال الموقف من الدستور، وتحديداً ما يتعلق بوحدة العراق التي غدت مهددة بالنص على الفدرالية في كل المناطق.

 

ومعلوم أن شيعة بغداد لهم علاقات طيبة مع إخوانهم السنة، فهم يعملون معا ويتصاهرون من دون عقد. وقد قاد التيار الصدري والخالصي جملة احتجاجات على الدستور شارك فيها العرب السنة وأثارت حفيظة الكثيرين، بخاصة في ضوء ما كشفته من حقيقة أن مقتدى الصدر ما زال لاعباً فاعلاً في الساحة العراقية.

 

في قراءة المواقف التي تلت الكارثة يمكن القول إن كثيراً من خطباء القوى الشيعية قد مال إلى تحميل التكفيريين والإرهابيين والصداميين مسؤولية ما جرى، ربما طمعاً في استقطاب مشاعر الشارع الملتهبة تبعاً لهول الكارثة، لكن الجمهور العربي السني وقواه السياسية لم يألوان جهداً في إظهار التعاطف الحقيقي مع مأساة إخوانهم.

 

وهذا الأمر انسحب على كثير من القوى السياسية في العالم العربي والإسلامي، لاسيما ذات المصداقية في أوساط الجماهير مثل حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين.

 

ربما مال البعض إلى الهمس ببعض الانتقادات للطريقة التي يحتفل بها المسلمون الشيعة بمناسباتهم الدينية، وهو انتقاد وإن بدا في غير مكانه أو أوانه، فإن له إيجابية يمكن أن تمثل في لفت انتباه بعض علماء المذهب وعقلائه، بل وقواه السياسية كي تعمل على ترشيد ما يجري، وهو ترشيد كان له نموذجه الإيجابي في لبنان.

 

ويبقى أن مناسبات الأئمة على أهميتها ليست من أركان الإسلام لكي يشبهها البعض بركن الحج، مع أن وقوع ضحايا هاهنا ليس هامشياً بل واجه انتقادات من قبل علماء الأمة وهيئاتها السياسية وغير السياسية.

 

كما أن تلك الاحتفالات ليست من أساسيات الدين الذي اكتمل قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام ونشوء الخلافات السياسية بين الصحابة تبعاً لمسائل الخلافة وما بعد ذلك من تفرق بين المسلمين، من دون أن يقلل ذلك من قيمة أي من الكبار في التاريخ ورمزيتهم في حياة الأمة، وعلى رأسهم أئمة آل البيت، وبخاصة الحسين الشهيد سيد شباب أهل الجنة.

 

"
تجاوز حالة التنابذ الطائفي يظل في حاجة إلى جهود العقلاء والمخلصين في الداخل والخارج، لأننا إزاء قضية أمة بكاملها يريدها العدو ذليلة مهانة بصرف النظر عن تفاصيل مذاهبها أو معتقداتها
"

تداعيات المأساة وسبل تجاوزها

ربما قيل إن ما جرى قد يعزز حالة التنافر بين الوسطين السني والشيعي، وهو محذور ينبغي التنبه إليه والعمل على تجاوزه، وقد أشرنا سابقاً إلى سوء الطالع وبالمقابل حسن التوقيت بالنسبة لأعداء العراق ممثلاً في مجيء الكارثة بعد أيام من مواقف مشتركة مهمة بين الشيعة والسنة على صعيد رفض الدستور بسبب فيروسات التفتيت التي تنتشر بين بنوده.

 

ما من شك في أن تدخلات من عقلاء الطرفين في الداخل والخارج لا بد أن تساهم في تنفيس الاحتقان، لكن صدور بيان من طرف المجموعات التي عادة ما تلقى عليها اللائمة في حوادث كهذه سيكون له وقعه الإيجابي، وبخاصة إذا تضمن تأكيداً واضحاً على أن الاستهداف لا يشمل غير المحاربين بصرف النظر عن مذاهبهم أو معتقداتهم.

 

يبقى أن حالة التعاطف مع الضحايا التي سادت العراق، والتي شملت العالم العربي والإسلامي قد تفسد مخططات الذين يريدون تكريس القطيعة، وربما نشر الحرب الطائفية في كل المنطقة وليس في العراق وحده، مدركين واقع التعددية المذهبية والعرقية في المنطقة برمته.

 

لكن تجاوز هذا الموقف وعموم حالة التنابذ الطائفي يظل في حاجة إلى جهود العقلاء والمخلصين في الداخل والخارج، لأننا إزاء قضية أمة بكاملها يريدها العدو ذليلة مهانة بصرف النظر عن تفاصيل مذاهبها أو معتقداتها.

 

هل يدرك جورج بوش الفارق بين الإمام موسى الكاظم الذي تنسب إليه الكاظمية والإمام أبو حنيفة الذي تنسب إليه الأعظمية، وهل فرّق الصهاينة بين عباس الموسوي قائد حزب الله الذي اغتالوه في لبنان وبين الشيخ أحمد ياسين الذي مزقوا جسده ذات فجر في قطاع غزة؟

__________________

كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.