منظمة التجارة ولقاء الفرصة الأخيرة بهونغ كونغ

منظمة التجارة العالمية لقاء هونغ كونغ


طارق الشيخ

وهم شعار تساوي الفرص
جولة الدوحة أنعشت الآمال
نكوص في كانكون
بين الدول الغنية والفقيرة
خلافات سبقت جولة هونغ كونغ

عندما تأسست منظمة التجارة العالمية عام 1994 في جولة أورغواي للجات كان أحد أهداف المنظمة الدولية الوليدة أن تسارع إلى ضم ودمج الدول ضعيفة النمو من الجنوب الفقير والتي تمثل ثلاثة أرباع الدول الأعضاء في اتفاق التجارة العالمي.

وكانت تلك الأهداف تتمثل وبشكل رئيسي في اتفاقيات ثلاث أساسية:
– إلغاء السياسات الحمائية
– التحرير الكامل للتجارة العالمية
– إعادة هيكلة وتنظيم الاقتصادات الوطنية

وحينما تم التوصل إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية أصبحت إلى جانب كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تشكل العتبة الثالثة من السلم الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي العالمي الجديد كما تريده دول العالم الغنية (نادي الـ24 الأغنياء). وهذا يفتح الباب أمام تلك الدول وطموحاتها ببلوغ مصادر المواد الخام والأسواق في العالم.

ولهذا بدا إنشاء منظمة التجارة العالمية خطوة تاريخية بالنسبة للدول الغنية كما بدا الاتفاق التجاري العالمي وبشكل عام خطوة هامة وحيوية للانتقال الحر والميسر للبضاعة ورأس المال بين دول العالم وعلى أساس من العدل والفرص المتساوية لكل المشاركين. وهذا يعني وبصورة جوهرية إلغاء الحماية والموانع الجمركية في الأسواق الوطنية وفتحها أمام كل الدول وسلعها ورأسمالها.

وقد تبع هذه الخطوة مظلة دعائية واسعة من مؤيدي السوق العالمية المفتوحة صورتها على أنها تمثل الفرصة الوحيدة بالنسبة للدول النامية والفقيرة للوصول إلى الأسواق الكبرى في أوروبا الغربية، حيث يمكنها هناك جني الأرباح الوفيرة عبر وصول صادراتها من منتجات زراعية ومواد خام لتلك الأسواق وحصولها لقاء ذلك على التقنيات وغيرها من الوسائل اللازمة التي تحتاجها تلك الدول حتى تدفع بنموها الاقتصادي وتحقيق التقدم المطلوب. ولذا بدت الصورة العامة لاتفاق تجاري عالمي بأنه عمل مطلوب وملح.

"
شعار تساوي الفرص إنما هو مجرد وهم يراد له التغطية على حقيقة الفارق الاقتصادي الكبير بين الفقراء والأغنياء ويكشف أن الفرص المتساوية تعني شيئا واحدا هو تكريس انتصار الأقوى وحتمية هزيمة الأضعف
"

وهم شعار تساوي الفرص
على الرغم من صحة هذه المقولة من الناحية النظرية لكنها من حيث الجوهر -وكما أحست بها الدول الأقل نموا في العالم- شعار كبير وفضفاض يخفي وراءه كثيرا من المبهمات وحقيقة أساسية بأن النظام التجاري العالمي المستهدف ماهو إلا طريق يمهد للدول الصناعية الوصول الحر والسهل إلى مكامن الخامات والموارد في الأسواق العالمية.

فنجد مثلا أن شعار تحرير التجارة العالمية جاء من حيث المظهر جميلا ومقبولا يبشر بضمان الفرص المتساوية أمام جميع المشاركين في الاتفاق. ولكن وفي نفس الوقت فهو يتغاضى عن حقيقة أن السوق العالمي يضم طرفين غير متساويين ويتنافسان بضراوة وتغدو هذه المنافسة مسألة مصيرية ومسألة حياة أو موت لكل طرف، فكلاهما على استعداد لفعل أي شيء في سبيل العيش ولكسب معركة السوق.

وعند هذا الحاجز يتضح أن شعار تساوي الفرص بين الطرفين إنما هو مجرد وهم يراد له أن يمر في غفلة الساذجين… إنه وهم يراد له التغطية على حقيقة الفارق الاقتصادي الكبير الذي يفصل بين الفقراء والأغنياء. ويكشف كذلك عن حقيقة صارخة وهى أن الفرص المتساوية المعنية وعلى ضوء الفارق التقني والقدرة والاستعداد الحقيقي للمنافسة إنما تعني شيئا واحدا وهو تكريس انتصار الأقوى وحتمية هزيمة الأضعف.

وشيء آخر هو أن الصورة الوردية الجميلة التي شاءت الدول الغنية عبر إعلام نافذ رسمها ومررها تخفي من ورائها حقيقة الإجابة عن مسألة المستوى المعيشي المتطور والنمو المنشود بالنسبة للدول النامية، فمنتجاتها تواجه مصاعب حقيقية في دخول أسواق الدول الغنية الكبيرة. وخسارة معركة الدخول الحر إلى تلك الأسواق إنما تعني أن الدول الفقيرة قد تحتم عليها أن تبقى وإلى الأبد مصدرا لإمداد تلك الأسواق بالمواد الخام والسلع مقابل أرباح زهيدة.

وعلى الجانب الآخر يكمن سؤال لم يجد بعد الإجابة الشافية عليه ويتعلق بمدى مقدرة الاقتصاديات المنهكة للدول الفقيرة على تحمل الضربات القوية والقاتلة التي تنتظرها من منافس عملاق عند إزالة الحواجز الجمركية.

إن الإجابة على هذه المخاوف تقودنا إلى حقيقة مفاده أن النظام التجاري العالمي الجديد الذي تبذل جهود جبارة لإطلاقه لن يكون بوسعه فقط ضمان الوسائل التي تضمن النمو المستدام للدول النامية والفقيرة بل إنه كفيل بتدمير والقضاء على ما هو موجود وتتمتع به هذه الدول من إمكانيات وموارد وثروات.

جولة الدوحة أنعشت الآمال
وسط جو عالمي خيمت عليه حالة من الوجوم والتوجس بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول المروعة فى نيويورك وواشنطن كان على الدول أن تجتمع وفي هذه الظروف الاستثنائية في الدوحة لإنقاذ مفاوضات التجارة العالمية من الفشل الكبير الذي لحق بها في جولة سياتل وبات يهدد مجمل الاقتصاد العالمي بالانهيار.

ولهذا فقد كان النجاح الذي تحقق في جولة الدوحة إنجازا مذهلا حقته المنظمة، لأنه جاء مبشرا بأمل عظيم في إمكانية الدول وقدرتها على تجاوز المطامح الخاصة لتفسح المجال أمام اتفاق يسمح بتطبيق أجندة الدوحة التي تحمل البشرى للجميع.

لكن الدول الكبرى ومرة أخرى لم تف بتعهداتها حتى إن الأمر بدا وكأنما أريد لجولة الدوحة أن تكون مجرد معبر من خطر الفشل المحدق وانهيار النظام العالمي بمجمله في حالة إذا ما حملت نتائج الدوحة مؤشرات سلبية تضاف إلى الجو العام السلبي الذي أحاط بالحياة الدولية آنذاك.

"
في كانكون عادت الدول الغنية للتمسك بما كانت قد أوحت به في الدوحة بنيتها رفع الحماية والحواجز الجمركية، مما يعني انسياب السلع والخدمات بين الطرفين الدول الغنية والفقيرة على حد سواء
"

نكوص في كانكون
فبعد الدوحة عادت الدول الغنية للتمسك بما كانت قد أوحت به في الدوحة بنيتها رفع الحماية والحواجز الجمركية، مما يعني انسياب السلع والخدمات بين الطرفين الدول الغنية والفقيرة على حد سواء. فحملت الجولة التالية في كانكون بالمكسيك فشلا يضاف إلى فشل سياتل ولاح في الأفق تبدد الأمل الذي انبعث عقب جولة الدوحة التي سجلت نجاحا تاريخيا غير مسبوق وحملت أجندتها اتفاقا نادرا بين الدول الغنية والنامية.

وفى الواقع حققت جولة الدوحة تقدما حاسما يمهد الطريق لإطلاق التجارة العالمية لكن هذا التقدم اصطدم بنكوص مجدد من جانب الدول الغنية في عدة نقاط ظلت تمثل سلبية أساسية تعوق التوصل لاتفاق نهائي وحاسم حول المبادئ التي تقوم عليها التجارة العالمية.

وبصورة عامة فإن الوعود المطلوب تنفيذها من جانب الدول الغنية يمكن حصرها في التالي:

– خفض معدل الضرائب وبخاصة في المجال الزراعي والسلع التي تعتمد على كثافة الأيدي العاملة المنتجة وذات الأهمية الخاصة بالنسبة للدول النامية.

– الإعلان عن تجميد الضرائب ومكافحة الإغراق المفروضة على الدول النامية.

– خفض الحماية المفروضة على المنتجات الزراعية.

– إقرار إمكانية دخول المنسوجات والملابس للأسواق الكبرى في الدول الغنية.

– شروط اتفاق تفضيلية بالنسبة للدول الأقل نموا.

– اتخاذ خطوات عملية تجاه القارة الأفريقية ومساعدتها للخروج من دائرة التخلف التي تقبع فيها.

– المضي في تنفيذ الوعود الخاصة بتقديم الدعم الفني ونقل التكنولوجيا للدول النامية.

– وأخيرا دعم منظمة التجارة العالمية للجهود المبذولة من أجل خلق الظروف الملائمة لتحقيق تنمية مستدامة والقضاء على الفقر في الدول النامية.

"
نصف سكان العالم يعيشون على أقل من دولار في اليوم، والناتج المحلي لربع بلدان العالم يقل عن ثروات أغنى ثلاثة أشخاص، و20% من سكان الدول الغنية يستهلكون ما نسبته 86% من السلع والحاجيات في العالم
"

بين الدول الغنية والفقيرة
ولتقريب الصورة أكثر هنا تجدر الإشارة إلى أن التجارة العالمية التي يجري بحثها تتم وسط بحر من المتناقضات التي لابد وأن توضع في الاعتبار. لذا أورد هنا بعض الحقائق الهامة عن معاناة الدول الفقيرة التي يصعب معها الحديث عن مساواة في الفرص التجارية.

-نصف سكان العالم (أي ما يقرب من ثلاثة مليارات شخص) يعيشون على أقل من دولار في اليوم.

-الناتج المحلى الإجمالي لحوالي 48 دولة هي الأفقر (أي ما يعادل ربع بلدان العالم تقريبا) يقل عن ثروات أغنى ثلاثة أشخاص في عالمنا.

-هناك ما يقرب من مليار شخص يدخلون القرن الـ21 جهلاء لا يعرفون القراءة والكتابة ويجهلون كيفية التوقيع بأسمائهم.

-إن نسبة تقل عن 1% من المال الذي ينفق على صناعة السلاح في العالم مطلوبة لتوفير مقعد دراسي لطالب في المدرسة، ومنذ عام 2000 وحتى الآن لم يتم توفيرها بعد.

-20% من سكان الدول الغنية يستهلكون ما نسبته 86% من السلع والحاجيات في العالم.

-سكان الدول الخمس الأغنى يتمتعون بثمار التوسع في تجارة الصادرات البالغة 82% والحصول على حصة قدرها 68% من جملة الاستثمار المباشر في العالم، بينما لا تحصل الدول الخمس الأقل نموا إلا على نسبة 1% فقط.

-نصيب 48 دولة فقيرة يقل عن 0.4% من جملة الصادرات في العالم.

-الثروة المجمعة لأغنى 200 شخص في العالم بلغت تريليون دولار في عام 1999، بينما بلغت الثروة المجمعة لحوالي 582 شخصا من 43 دولة بين الأقل نموا حوالي 146 مليار دولار.

هذه الصورة المبسطة تعكس حجم التناقضات على صعيد الدول والأفراد في عالمنا مما يجعل من الصعوبة بمكان إيجاد لغة مشتركة بينهم على صعيد التجارة العالمية ما لم تتنازل الدول الغنية عن أسلوبها في القفز فوق الواقع جريا وراء مصالحها.

"
بينما تسعى الدول الغنية لقيادة التفاوض إلى النقطة التي تضمن لها تحقيق أرباح كبيرة لمؤسساتها العملاقة تبدو المفاوضات للدول الفقيرة مسألة حياة أو موت بالنسبة لها كدول ونجاة لمواطنيها من كارثة تحيط بهم
"

خلافات سبقت جولة هونغ كونغ 
مهما يكن فإن جولة هونغ كونغ الحالية تأتي على خلفية خلاف متجذر بين الدول الغنية والنامية على مسودة الإعلان الوزاري. فقد عبرت الدول النامية عن قلقها ومخاوفها من محتوى المسودة ومن الصيغة التي سيمثل بها الوزراء في هونغ كونغ.

ومن ذلك مخاوف أفريقية من محتوى الإعلان الوزاري وما تضمنه من قفز على الفقرات التي لم يتم الاتفاق عليها وفى بعض الأحيان -كما جاء في بيان للمجموعة الأفريقية عشية عقد الاجتماع في هونغ كونغ- "لم تخضع حتى للمناقشة".

وتشعر البرازيل بخيبة أمل من المسودة وتعتقد أنه لم يتم إحراز تقدم يمكن من إنهاء الجولة التفاوضية العام المقبل. واعتبرت أن ذلك يعود لعوامل لا تخضع فقط للعملية التفاوضية وإنما لغياب الإرادة السياسية. وأكثر من ذلك توجه البرازيل انتقادا صريحا لمواقف بعض الدول الغنية وتعتبر هذه المواقف تجاوزا للمنطق وقلبا لطاولة المفاوضات "رأسا على عقب".

وبصورة عامة فإن الدول النامية وتشاركها بعض الدول الصناعية تشعر بقلق ومخاوف حقيقية من عجز اجتماع هونغ كونغ عن تجاوز نقطة الخلاف ما يعني الفشل في بلوغ الاتفاق النهائي العام المقبل 2006. ومثل هذه المخاوف في الواقع انبعثت في وقت مبكر وتحديدا عند الخروج بأجندة الدوحة عندما حذر الوزير الهندي آنذاك موراسولي ماران بقوله "نحن لا نقبل بالخلاصات التي ترضي البعض وتتجاهل الآخرين، إنها عملية شكلية صيغت ضد إرادتنا". وأضاف "أن النجاح المتحقق في الدوحة لن يكون ضروريا أو مطلوبا إذا ما تم القفز فوق أهدافنا من أجل إطلاق جولة جديدة".

إن النظرة المتفحصة لمسار الأحداث في مجرى التفاوض توضح مدى عمق التناقضات بين الشمال الغني والجنوب الفقير. فبينما تسعى الدول الغنية لقيادة التفاوض إلى النقطة التي تضمن لها تحقيق أرباح كبيرة لمؤسساتها العملاقة فإن المفاوضات تبدو للدول الفقيرة مسألة حياة أو موت بالنسبة لها كدول ونجاة لمواطنيها من كارثة تحيط بهم.

وأعتقد أن البروفيسور جوزيف شتيغليز قد عبر عن مشاعر الدول الفقيرة حينما كتب في مقال له بعنوان "تجارة عادلة أو لا تجارة" قال فيه إن الدول النامية تحتاج اليوم للتأمل وبشكل جيد في العروض المقدمة إليها وما إذا كان ذلك يعود عليها بمنافع من دخول الأسواق العالمية للدول الغنية بكل متطلباتها؟ مشيرا إلى أن العديد من الدول النامية أقرب ما تكون عند قناعة مفادها "أن عدم الاتفاق أفضل من اتفاق سيء".
ـــــــــــــــــ
كاتب سوداني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.