بوش في بغداد.. صراع الرمز والصورة


undefined

بقلم/ محمد بن المختار الشنقيطي

-أهداف الزيارة ومراميها
– وللزيارة مدلولها الديني
– مرحبا بكم في العراق الحر
– المقاومة تنتزع البريق

من أصعب التحديات أمام المتحاربين في أي عصر صراع الشرعية والرمزية الذي عليهما أن يخوضاه لاكتساب المدد المادي والمعنوي، وترسيخ الثقة في الأهداف، وتحطيم نفسية الخصم. وإذا كانت الهزيمة هي تحطيم إرادة الخصم في القتال وليس بالضرورة تحطيمه ماديا، فإن حرب الشرعية والرمزية تتخذ أهمية كبرى في الصراع.

وليس الاحتلال الأميركي والمقاومة العراقية استثناء من هذه القاعدة، فهما يخوضان اليوم حربا على الرمز والصورة لا تقل ضراوة عن حرب الشوارع والأزقة في الفلوجة والرمادي.

ورغم أن المقاومة العراقية لا تزال تعاني من أزمة انعدام الرمز لأن قيادتها مجهولة ومقاصدها مبهمة -غير مقصد التحرير- فإنها استطاعت أن تجعل قصص موت الجنود الأميركيين مادة ثابتة في عناوين الأخبار، ليس في القنوات العربية فقط وإنما في القنوات الأميركية أيضا.

ومن جانبها تحاول الإدارة الأميركية انتزاع الشرعية من المقاومة، ومحاربتها بالصورة والرمز. وتأتي زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش الخاطفة لمطار بغداد في هذا السياق.


صورة الزيارة ومفاجأتها للرأي العام في عيد الشكر تمثل رسالة إعلامية قوية أراد بوش عبرها محو آثار الأنباء السيئة التي يشاهدها مواطنوه عن جنودهم في العراق يوميا وإحياء الأمل في نفوسهم

أهداف الزيارة ومراميها
يمكن إجمال أهداف الزيارة ومراميها من وجهة نظر الرئيس بوش في عدة أمور، منها:

أولا- البحث عن البطولة، فالرئيس بوش الحالي لا يمتلك سجلا عسكريا أو سياسيا مشرفا، كما هو حال أبيه الذي يعد بطلا من أبطال الحرب العالمية الثانية ومديرا سابقا لوكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إي)، بل هو متهم بالتهرب من الخدمة العسكرية أثناء حرب فيتنام وبانعدام الخبرة العسكرية والسياسية اللازمة لقيادة السفينة الأميركية المتأرجحة.

فهو بحاجة إلى "بطولات" من نوع ما تخفف عنه هذا الحرج، خصوصا أن من بين منافسيه على الرئاسة القادمة جنرالا ومحاربين سابقين. وقد أراد بوش أن تكون زيارته لبغداد معلما من معالم هذه البطولات، وجاء إخراج الزيارة في شكل مغامرة من مغامرات "جيمس بوند" لتخدم هذا الاتجاه.

ثانيا- رفع معنويات الجنود الأميركيين وحلفائهم بعد شهر دام عانوا فيه الأمرين على أيدي المقاومة العراقية. فقد قتل في العراق خلال الشهر المنصرم 101 من الأميركيين وحلفائهم، وتوزع الموت على الجميع دون استثناء، فكان من بين القتلى 68 أميركيا و19 إيطاليا و7 إسبان ويابانيان وكوريان وبريطاني وبولندي وكولومبي، حسب ما أوردته صحيفة لوموند الفرنسية يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

وكبرت التساؤلات وكثرت التعليقات على قصص الموت الواردة من بغداد ختام كل يوم. فكان لابد من محاولة فعل شيء يسترد به الجندي الأميركي ثقته بنفسه وقيادته، وتطمئن به الأسر الأميركية التي يقاتل أبناؤها في العراق.

ثالثا- منازعة المقاومة العراقية في حرب الصورة والرمز التي تشنها على واشنطن من خلال أخبار الجنود القتلى، والتي توشك أن تعكس المعادلة الداخلية ضد الرئيس بوش وفلاسفة الحرب المحيطين به، من المحافظين الجدد والقدامى، والأصوليين المسيحيين واليهود.

فصورة الزيارة ومفاجأتها للرأي العام في وقت تجتمع فيه العائلات الأميركية أمام الشاشة الصغيرة في عيد الشكر رسالة إعلامية قوية تم التخطيط لها بعناية ودقة، وأراد بوش عبرها محو آثار الأنباء السيئة التي يشاهدها مواطنوه عن جنودهم في العراق يوميا، وإحياء الأمل في نفوسهم بأن الأمور تسير على ما يرام.

رابعا- سحب البساط من تحت منافسيه على الرئاسة من مرشحي الحزب الديمقراطي الذين وجدوا في الأخبار السيئة الواردة من بغداد مادة دسمة وأداة فعالة للطعن في الرئيس بوش وسياساته، وتجريد فلسفته الإستراتيجية من أي شرعية أخلاقية أو حكمة سياسية. فالزيارة إلى مطار بغداد فاجأت منافسي بوش وأربكتهم، بل اضطرت بعضهم إلى الإشادة بها في اعتراف ضمني بأنها كانت مناورة سياسية ناجحة بالمعايير الانتخابية الداخلية على الأقل.


حقق بوش مكسبا مؤكدا من هذه الزيارة وهو ترسيخ قيادته في أذهان الأوساط الأصولية المسيحية التي تشكل النواة الصلبة لقاعدته الانتخابية

وللزيارة مدلولها الديني
لكن ما سيخدم بوش في أعين الأميركيين ليس صورة البطولة والمغامرة التي أرادها، فهم مطلعون على بواطن الأمور في هذا الشأن، بل صورة القائد المتدين المتواضع الذي يقوم بدور النادل فيقدم الطعام إلى جنده، ويحيي عيد الشكر معهم، ويعبر عن عطفه عليهم وعيناه مغرورقتان بالدموع.

فتلك الصورة ستكون دفعة قوية لبوش في حملته الانتخابية الحالية، وهي صورة لابد وأنها تثير حسد المواطن العربي الذي يعاني من الوثنية السياسية وعبادة الزعماء ممن لا يرف لهم جفن.

والمدلول الديني للزيارة لا يقل أهمية -في عرف الرئيس بوش على الأقل– عن مدلولها السياسي، بل هذا من ذاك. وقد اختار بوش عيدا دينيا –لا عيدا علمانيا– لتوقيت زيارته إلى مطار بغداد وهو عيد الشكر. وهذا اختيار ذكي من رئيس يدرك صعود موجة الأصولية المسيحية في المعادلة السياسية الأميركية.

كما تضمن خطاب بوش تلميحا إلى المدلول الديني لهذا العيد وللزيارة كليهما، فكان مما قال لجنده في مطار بغداد "أنا مغتبط لتمكنكم من الانضمام إلينا في الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة لبلدنا، وهي فرصة لكي نتوجه بالشكر للرب على نعمائه التي أسبغها علينا.. ونصلي من أجل سلامتكم وعزيمتكم وأنتم تواصلون مهمة الدفاع عن أميركا ونشر الحرية.. فليبارككم الرب جميعا".

قد يقدر عامة الشعب الأميركي زيارة بوش ويحسبونها له لفتة مطلوبة نحو جنوده في العراق، وقد يعتبرونها مجرد حملة دعاية عامة لا تقدم ولا تؤخر من أمر الحرب شيئا، لكن مكسبا مؤكدا من هذه الزيارة حصل عليه الرئيس بوش من دون ريب، وهو ترسيخ قيادته في أذهان الأوساط الأصولية المسيحية التي تشكل النواة الصلبة لقاعدته الانتخابية.

فلن ينسى الأصوليون المسيحيون في أميركا للرئيس بوش أنه خاطر بحياته في رحلة استمرت أكثر من 27 ساعة من الطيران إلى منطقة حرب، ليخلد عيد الشكر بطريقة خاصة جدا. ولعل ذلك سيكون أهم مكسب سياسي لبوش من هذه الزيارة.

وعيد الشكر –لغير الملمين بالثقافة الأميركية– هو عيد سنه المهاجرون الأوروبيون إلى القارة الأميركية عام 1621، يشكرون فيه الرب على الحصاد ويقيمون فيه الصلوات ويعدون ألوان الطعام، وهو من خصائص المسيحية الأميركية والكندية.


صدق الجنرال ويسلي كلارك حين قال إن مجرد زيارة لالتقاط الصور لن تصلح من شأن إستراتيجية فاشلة، فما يحتاجه جنودنا ليس زيارة ساعة أو ساعتين لرفع المعنويات وإنما إستراتيجية ناجحة

مرحبا بكم في العراق الحر
لكن مهما يكن للزيارة من أثر إيجابي على مسيرة بوش السياسية ومكاسبه الانتخابية، فإن أثرها على واقع الاحتلال في العراق لن يكون بتلك القيمة التي يطمح إليها الرئيس الأميركي.

ومن الواضح أن بول بريمر حينما رحب بالرئيس بوش قائلا "مرحبا بكم في العراق الحر سيدي الرئيس"، كان حديثه أقرب إلى أحاديث النفس منه إلى الحوار ومخاطبة العالم الخارجي.. كان مجازا لا حقيقة في أحسن الأحوال. فما كان بوش ليزور العراق بهذا الشكل لو كان العراق حرا حقا، ولا كان ليدخل إلى مطار بغداد لساعتين فقط ثم يكر منه راجعا لبلده لو كان للدولة العراقية وجود معنوي أو قانوني اليوم.

فالرئيس بوش لم يقدم إلى العراق في وضح النهار قدوم المنتصر كما هو المفترض، بل جاء متخفيا تحت جنح الظلام، وقد أطفئت أنوار طائرته وأغلقت نوافذها خشية استهدافها من طرف المقاومة.

كما أنه لم يستطع الخروج من المطار إلى عاصمة الدولة التي تحكمها قواته، ولا استطاع اللقاء بجميع أعضاء "مجلس الحكم" العراقي الذي عينه. ولكل ذلك مدلوله الخاص الذي يشوش على صورة الفاتح المنتصر التي أرادها بوش، وعلى صورة "العراق الحر" التي تحدث عنها بريمر.

وقد صدق أحد السياسيين العراقيين في وصف الزيارة حين قال "إن بوش زار قاعدة عسكرية أميركية ولم يزر العراق". كما صدق الجنرال ويسلي كلارك حين قال "إن مجرد زيارة لالتقاط الصور لن تصلح من شأن إستراتيجية فاشلة، فما يحتاجه جنودنا ليس زيارة ساعة أو ساعتين لرفع المعنويات وإنما إستراتيجية ناجحة، وذلك ما لم تمنحهم إياه الإدارة الحالية".

والأهم من كل ذلك: هل سيصدق الرأي العام الأميركي –على سذاجته– أن الأمن في العراق يتحسن في الوقت الذي يدخل فيه الرئيس الأميركي إلى العراق متسللا كما يفعل من نعتهم الرئيس بوش نفسه بالأشرار والقتلة؟ وهل الوضع على ما يرام والقوات الأميركية عاجزة عن تأمين الرئيس بوش في رحلة بضعة أميال من المطار إلى مدينة بغداد ليتحدث إلى الشعب العراقي عبر وسائل الإعلام العراقية ويلتقي رجاله العراقيين الذين يريدهم حكام عراق الغد؟


قد يحصل الرئيس بوش بزيارته لمطار بغداد على نصر مؤقت في معركة الصورة والرمز على خصومه السياسيين داخل أميركا، لكن حصوله على هذا النصر على المقاومة العراقية أمر لا يزال محل ريب

المقاومة تنتزع البريق
لقد كان من الواضح للمدركين أبعاد صراع الصورة والرمز في العراق أن أي عملية ناجحة للمقاومة العراقية كافية لمحو آثار زيارة بوش وانتزاع البريق الإعلامي منه.

ولم تبطئ المقاومة في ذلك، فقتلت سبعة ضباط استخبارات إسبان ودبلوماسيين يابانيين وجنديين أميركيين في يوم واحد، فانتزعت عناوين الأخبار وجعلت زيارة بوش في خبر كان.

يقولون في قناة سي إن إن الأميركية "إن الخبر يصبح تاريخا بعد ساعة من نشره". فكيف بالخبر بعد ثلاثة أيام وقد جاءت أخبار أخرى دموية مدوية من نفس المكان. ولم تكن ردود الفعل الأميركية الدموية على عمليات المقاومة -بقتل زهاء 50 عراقيا في يوم واحد- بالتي تعين في رسم الصورة الزاهية التي أرادها بوش من وراء زيارته، بل هي ستعمق في النفس العراقية صورة المستعمر الذي لا يتردد في ارتكاب المذابح توطيدا لسلطانه.

لقد تم إزهاق أرواح 11 ألف عراقي على يد القوات الأميركية حتى الآن طبقا لتقديرات صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، فلم يثن ذلك المقاومة ولا أوهن من عزمها، وليس من المحتمل أن تنجح المداهمات والمذابح الأخيرة في ذلك.

وهنا يظهر المأزق الذي تعيشه الإدارة الأميركية في حرب الرمز والصورة التي تخوضها ضد المقاومة العراقية، فإذا كانت المقاومة قادرة على انتزاع البريق الإعلامي لحدث على قدر كبير من الأهمية -مثل زيارة الرئيس بوش لمطار بغداد– بمجرد عملية عسكرية واحدة، فإن ذلك يوحي بأن النصر في صراع الرمز والصورة لن يكون سهلا، كما لم يكن الإخضاع بكثافة النيران سهلا.

لقد زار الرئيس بوش مطار بغداد بأمان وعاد منه بسلام، لكن ذلك لم يزد الجنود الأميركيين وحلفاءهم أمنا وسلاما في أرض العراق. وهنا يكمن الإشكال: فقد يحصل الرئيس بوش بزيارته لمطار بغداد على نصر مؤقت في معركة الصورة والرمز على خصومه السياسيين داخل أميركا، لكن حصوله على هذا النصر على المقاومة العراقية أمر لا يزال محل ريب.

والسبب هو أن الأمر أكبر من الرمز والصورة بكثير، فقد جاء الجندي الأميركي إلى العراق ليقتل لا ليقاتل، فالتكنولوجيا العسكرية التي تزود بها والصورة السهلة التي قدمت بها قيادته السياسية الحرب إليه، جعلتاه واثقا من أنه خارج في نزهة صيد يرجع منها إلى قومه بطلا، بعد أن يقضي على مجموعة "أشرار وقتلة" في الشرق البعيد.

فلما تكشف الأمر عن قتال حقيقي يضع الجندي الأميركي فيه حياته على المحك، ويسقط فيه زهاء السبعين جنديا أميركيا في شهر واحد، ظهر تضعضع في المعنويات. وسيظل من المشكوك فيه أن تعين زيارة بوش الجندي الأميركي في العراق على قهر مصاعبه النفسية بعدما أدرك ذلك الجندي الفرق بين القتل والقتال.
__________________________
* كاتب موريتاني مقيم بالولايات المتحدة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.