"الفلوكة".. مساكن البؤس على صفحة النيل

الباشا الذي لم ينل من ترف الحياة سوى لقبه (الباشا لقب كان يناله الأعيان وكبار الدولة قبل قيام ثورة 1952 بمصر)، تزوج السيدة فوقية التي تزحف لإتمام عقدها السادس من العمر، لتشاركه سكن الماء طيلة أربعين عاما.

"أنا مع زوجي على الحلوة والمرة"، هكذا تلخص الزوجة رحلة زواجها، ويؤكد الباشا حديث زوجته قائلا "تحملت ظروفي ولم تشتك يوما".

وللرجل الستيني ثلاثة أولاد وبنت، لكنه يعيش في القارب حاليا مع زوجته وبنته فقط، فقد "هاجر" ولدان إلى اليابسة بعد زواجهما قبل خمسة أعوام، أما الابن الثالث فيعمل في ورشة للنجارة ويبيت فيها ليلا.

العيش في قارب يجبر أسرة الباشا على تبسيط احتياجاتهم الحياتية، فمطبخ السيدة فوقية عبارة عن موقد صغير وأربعة أكواب زجاجية وإناءين للطهي وبعض الصحون وملاعق صدئة الأطراف.

أما خزانة الملابس فتلخصها الأسرة في كيس بلاستيكي يحتوى على القليل من قطع الملابس، وأثناء النوم تُفرش بطانية أسفل النائمين ويكون عليهم غطاءان. 

أما الدخل اليومي لقارب الأسرة فيتراوح بين عشرين وثلاثين جنيها يوميا (بين ثلاثة وأربعة دولارات) تبعا لما يجود به النيل من أسماك، "وفي أيام كثيرة لا يجود بأي شيء"، وفق تأكيد الصياد المسنّ.

وبعدما يفرغ الباشا من صيده يتجه إلى مرسى أسفل "كوبري الجلاء" (وسط القاهرة)، ليمر عليه أحد المشترين ويشتري غلة النيل من الصيد، ثم يبيعها بدوره في سوق الجيزة.

والأسرة المائية ترى أن دخلها اليومي جيد مقارنة بأحوال أسر مصرية أخرى لا تجد قاربا تسكن فيه أو عشرين جنيها يوميا تكفيها سؤال الناس، وتقول الزوجة "لا نمد أيدينا لأحد وهذه نعمة".

ويمسك الزوج طرف الحديث من زوجته لافتا إلى أنه يدفع ألفي جنيه سنويا (حوالي 250 دولارا) إيجارا لمرسى المركب.

وفي محاولة لتحسين دخل الأسرة، صبغ الباشا مركبه قبل شهرين بألوان زاهية لجذب المتنزهين لقاربه للقيام برحلات نيلية، لكن المحاولة فشلت. ويفسر العجوز ذلك بأن "الأمر لم يكن بتلك السهولة، فأصحاب المراكب المتخصصة في الرحلات النيلية خيروه بين دفع إتاوة أو عدم السماح له بالإبحار".

وأوجاع السكن في الماء كثيرة، بدءا من الحياة المباحة لأعين المارة والنوم المهتز بسبب تقلبات مياه النيل، مرورا بالاغتسال والاستحمام بحمامات المساجد، وانتهاءً ببرد الشتاء فهو معاناة لا تبددها ثلاثة أغطية تمتلكها أسرة الباشا.

أما "الخوص" المنتصب على شاطئ مرسى المركب فيذكر الباشا بفاجعته من سكن النيل، وهو تلصص من وصفهم بالبلطجية على ابنته ذات الـ16 عاما عندما تغير ملابسها خلف خوص المرسى.

وعبّر عن مأساته بكلمات متلعثمة "الشيب أضعف صحتي ولا مقدرة لي على إبعاد هؤلاء البلطجية عن ابنتي".

ورغم كل ما بأسرة الباشا، فإنها دائمة الابتسام، عدا حفيديها محمد ويمنى اللذين لا يتجاوزان الرابعة من العمر، فهما صامتان حتى حينما يلعبان، كأنهما يدركان تفاصيل مآسي السكن في قارب ألواحه الخشبية على وشك التشقق.

ويبدو الباشا حياديا تجاه التقلبات السياسية الساخنة التي تشهدها مصر، فقد ترك اليابسة لأهلها ليعيش فوق ماء بارد، فيقول "لا أشغل بالي بالسياسة ما دامت لا تضرني ولا تنفعني".

والمرة الوحيدة التي أحس بخطر سياسة اليابسة على حياته كانت يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، حيث مرت مظاهرات حاشدة فوق "كوبري الجلاء" حيث كان يرسو مركبه، وأطلق رجال الشرطة الرصاص على المتظاهرين، ثم أشعل المحتجون النيران في سيارات الأمن المركزي.

ويكمل "شعرت بالخطر خاصة أن طلقات طائشة اقتربت من المركب فتركناه واحتمينا بخوص المرسى يوما كاملا".

ويبدو أنه لا يشغل باله حتى بالأمور التي تهدد حياته المائية، فلم يؤثر غرق خمسمئة طن فوسفات في مياه النيل في المسيرة المائية للأسرة، "طول عمر النيل متحمل بلاوي ترمى فيه مثل الصرف الصحي ومخلفات المصانع والقمامة"، هكذا يبسط الرجل الأمر.

وكل ما يتمناه الصياد المسن هو زيارة بيت الله الحرام مع زوجته، لكن "أمثالنا" (يقصد العامة) لا أحد يهتم بحياتهم أو أمنياتهم إلا لالتقاط صور مع أسرته المائية، أما بؤسه وحلمه فلا يظهران في إطار الصور، لذا لا ينشغل بهم أحد.