"غربان السماء".. صداع الغزيين وشؤمهم

أيمن الجرجاوي-غزة

"تشرق الشمس وتغيب.. يظهر القمر ويختفي.. ينام الناس ويستيقظون.. لكنها لا تغيب.. صوتها مزعج، ورؤيتها تبعث على التشاؤم!".. قد تكون هذه أحجية غريبة، لكن الفلسطينيين في غزة يعرفونها عن ظهر قلب.

 
"الزنانة" أو "غراب السماء" كما يسميها الفلسطينيون في غزة، هي الطائرات الإسرائيلية المسيرة السيئة الصيت، وهي في نظرهم من أبشع استخدامات التقنية في العصر الحديث.

استخدمت إسرائيل هذه الطائرات أول مرة إبان غزوها جنوبي لبنان عام 1982 بهدف جمع المعلومات الاستخبارية، واستعملتها بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وأصحبت فيما بعد الذراع الطولى لتنفيذ عمليات الاغتيال.

هي "القاتل الصغير" كما يسميها العامل الفلسطيني وليد الريفي، فالطائرة لا تكاد تُرى بالعين المجردة وهي تحوم، لكن بفعل صواريخها تنتشر صور عشرات الشهداء على حيطان غزة.

‪وليد الريفي: صوت
‪وليد الريفي: صوت "الزنانة" المزعج أحد أساليب التعذيب مثل الأصوات المستفزة في السجون تماما‬ (الجزيرة)

الريفي (25 عاما) تحدث للجزيرة نت ليلا من أحد شوارع غزة والظلام يلف المكان جرّاء انقطاع الكهرباء.. كان صوت الطائرات مخيفا، حتى أن الشاب بات يعتقد أن هدف تحليقها -في هذه المرحلة- هو الإزعاج وبث الخوف ليس إلا.

يُشبّه الشاب قطاع غزة بالسجن الكبير وهو المحاصر برا وبحرا وجوا، معتبرا صوت "الزنانة"

 

المزعج أحد أساليب التعذيب مثل الأصوات المستفزة في السجون تماما.

حتى إذا ما أراد الريفي تناسي الواقع والهروب نحو التلفزيون تُلاحقه "لعنة" الطائرات فيتقطع البث، لكن روح الدعابة كانت حاضرة حينما قال إنه يتمنى أن يُغني الفنان الإماراتي حسين الجسمي لتلك الطائرات علّه يتخلص منها.

‪طائرة إسرائيلية مسيّرة تُحلق في سماء مدينة غزة‬  (الجزيرة)
‪طائرة إسرائيلية مسيّرة تُحلق في سماء مدينة غزة‬  (الجزيرة)

أنواع متعددة
ويمتلك الجيش الإسرائيلي منظومة من تلك الطائرات بأنواع متعددة، أبرزها "هيرون" و"سكاي رايدر" و"أيتان" و"هرمز". وعلى سبيل المثال تستطيع "أيتان" -التي يبلغ طولها 14م وعرضها 26م- التحليق المستمر 52 ساعة لمدى أربعة آلاف كيلومتر، وتحمل ألفي كيلوغرام من المتفجرات والمعدات.

وبالنسبة إلى المُسنّة تحفة أحمد (80 عاما) فإن تلك الطائرات مصدر قلق يومي، فهي لا تنام الليل من صوتها الذي شبّهته بصوت ""دبور" يحوم في غرفتها.

وببراءة تقول تحفة للجزيرة نت "أريد أن أطلق عليها صاروخا ليدمرها"، وأخذت تدعو الله أن يهزم إسرائيل ومن يدعمها.

تسترجع تحفة -التي نال الزمن من بصرها لكن ذاكرتها ما زالت حديدية- أيام ما قبل تهجيرها من مدينة بئر السبع عام 1948، لتقول "لقد كان اليهود يُخوّفون أبناءهم من الفدائيين لإسكاتهم، أما اليوم فهم يريدون إخافتنا بالطائرات.. نحن لن نخاف".

"شرود ذهني"
وإن كان تحليق الطائرات يؤثر على الكبار، فإن تأثيره أكبر على الصغار، فالشرود الذهني يلازم كثيرين منهم في المرحلة الابتدائية بفعل تخيلات مرعبة تنتابهم داخل الفصول الدراسية، وفق المُدرّس محمود أهل.

وتُصدر "الزنانات" -التي تعد إسرائيل أكبر مُصدّر لها في العالم- صوتا ينخفض تارة ويرتفع تارات أخرى، وحين يعلو يلاحظ المُدرّس أهل (36 عاما) أثناء شرح دروس التربية الإسلامية خوفا على وجوه طلابه مما قد تُحدثه الطائرات من تهديد لحياتهم.

وبعد يوم عمل شاق يخلد المدرس الحكومي إلى سريره محاولا أخذ قسط من الراحة، لكن صوت "الزنانة" المزعج يُشعره أنها تشاركه السرير، وهو "فيلم رعب" إجباري يعيشه أطفاله يوميا مع انقطاع الكهرباء.

وتحيط إسرائيل ملف تصنيع تلك الطائرات بسرية تامة، ويستحوذ هذا القطاع على 10% من الصادرات الأمنية الإسرائيلية، وفق بحث أجرته شركة الاستشارات "فروست أند سوليفان" عام 2013.

‪صوت
‪صوت "الزنانة" المزعج يُشعر الأستاذ محمود أهل أنها تشاركه سريره‬  (الجزيرة)

آثار نفسية
وينكأ تحليق "الزنانة" جراح الفلسطينيين ويُذكّرهم بتجارب مريرة عايشوها خلال الحروب، وهو ما يؤثر على استقرار حالتهم النفسية.

وإن كان الكبار يدركون عواقب تحليق الطائرات دون انقطاع منذ نحو أسبوعين، فإن الشعور بالخوف لدى الصغار يترتب عليه تأثيرات نفسية وسلوكية لا يستهان بها، كما يشير المختص النفسي علاء الربعي للجزيرة نت.

وقد يصل الحد إلى الاضطراب في النوم، والتبول اللاإرادي، والشرود الذهني، وتراجع التحصيل الدراسي، وقد يتحول إلى حالة مرضية نفسية أو عضوية للذين يعانون من اضطرابات أصلا.

ويزيد هذا الأمر من حالة القلق والاكتئاب التي تنتاب الغزيين بفعل الأوضاع المتردية، وهو ما يتطلب -كما يقول الربعي- علاجا معرفيا وسلوكيا لتعديل الأفكار السلبية واستبدالها، وإضفاء سلوكيات جديدة تعطي حالة من الإيجابية والسرور.

لكن أكثر ما يُبدد الشعور بالخوف لدى الأطفال احتضان والديهم لهم يوميا، فهذا كفيل بضمان صحة نفسية سليمة، وفق المختص النفسي.

ورغم حالة الخوف والقلق التي أوجدتها الطائرات في نفوس الغزيين، فإنها لم تُفلح في زعزعة ثقتهم بالمقاومة، ويعتقد من التقتهم الجزيرة نت أن المقاومين سيتمكنون من تحييد خطرها عاجلا أو آجلا.

المصدر : الجزيرة