مرضى عقليون على خط النار بحلب

مدخل مستشفى ابن خلدون للأمراض العقلية والنفسية في حلب
undefined

عقبة الأحمد-حلب

يروي مستشفى ابن خلدون للأمراض العقلية والنفسية في حلب فصول مأساة جديدة تعرضت لها شريحة من المجتمع لا ذنب لها سوى أنها وجدت نفسها على خط إطلاق النار بين مقاتلي الجيش الحر وقوات النظام، فقتل وجرح بعضهم وهام آخرون في الشوارع لأيام قبل أن تنتشلهم أياد أمينة لتعتني بهم من جديد بعد أن تخلى عنهم القريب ومعظم الكادر المسؤول عن رعايتهم.

يقع المستشفى في منطقة دويرينة بالضاحية الشرقية لمدينة حلب وعلى بعد خمسة كيلومترات من مطار حلب الدولي ومطار النيرب العسكري المحاذي له، واللذين باتت تخومهما جبهة قتال مشتعلة بين الجيشين الحر والنظامي.

وقد بدأت محنة هؤلاء المرضى -وعددهم 300 رجل و50 امرأة وتتراوح أعمارهم بين العشرين والسبعين عاما- قبل نحو أسبوعين، أي يوم الخميس 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي عندما قصفت طائرات حربية للنظام مباني المستشفى على مدى أربعة أيام متتالية إثر معركة على أطرافه ضد ثوار تصدوا لمحاولة جيش النظام التقدم للتمركز فيه لتأمين المطار من هجمات الجيش الحر، وفق ما أفاد للجزيرة نت موظف في المستشفى يدعى أبو البراء.

وعلى أثر ذلك هرب معظم كادر المستشفى المكون من 300 موظف ولم يتبق إلا ثمانية موظفين، بينهم  طبيبان، آثروا البقاء لخدمة المرضى والعناية بهم، خاصة وأنهم يتناولون أدوية ضرورية جدا لتحسين حالتهم الصحية.

وواجه من تبقى من كادر المستشفى صعوبات كبيرة في العناية بعدد المرضى الكبير في ظل دمار واسع بالمباني وانقطاع الكهرباء والماء وتناقص المؤن الغذائية وبرودة الجو الشديدة.

وفي هذا السياق أوضح أبو البراء أن هم الكادر البسيط الذي بقي مع المرضى كان منصبا على جهود إبقائهم على قيد الحياة، خاصة وأن الكثير من المرضى بسبب عدم التناول المنتظم للأدوية والجو الأمني المحيط بالمكان عادت لهم حالات التهيج والصرع والهستيريا، ومن ثم صعبت السيطرة عليهم.

وأشار أبو البراء إلى أن القصف أوقع قتيلين بين المرضى وأدى إلى إصابة اثنين آخرين، في حين توفيت امرأتان جراء البرد الشديد ولعدم وجود كادر عناية نسائي بعد فراره من المستشفى.

مباني مستشفى ابن خلدون في حلب تعرضت لدمار كبير جراء قصف قوات النظام (الجزيرة نت)
مباني مستشفى ابن خلدون في حلب تعرضت لدمار كبير جراء قصف قوات النظام (الجزيرة نت)

الخوف والتشرد
وبسبب القصف الشديد أصيب معظم المرضى بالهلع والخوف الشديدين، فلجأ البعض منهم إلى الزوايا وتحت الأسرة والطاولات لحماية نفسه، في حين قام آخرون بالضرب على الأبواب مطالبين بالخروج من المكان حتى لا يموتوا داخل غرفهم.

وتمكن نحو أربعين نزيلا من الفرار من المستشفى وأصبحوا هائمين على وجوههم في شوارع حلب ومناطق ريفها بعد تدمير مباني المستشفى، ليعثر على عدد كبير منهم الجيش الحر ويسلمهم لهيئة الأمر بالمعروف ونصرة المظلوم، التي قال رئيسها الحاج يوسف أبو سليمان، القيادي بلواء التوحيد، للجزيرة نت إن هيئته سارعت لاتخاذ قرار بنقل من تبقى من المرضى والبحث عن الفارين إلى مكان آمن.

وأوضح أن الهيئة تعاملت بسرعة مع الموضوع وأن المرضى نقلوا مع أمتعتهم وأسرتهم في يوم واحد.

من جانبه ناشد المشرف على وضع المرضى من هيئة الأمر بالمعروف أبو أحمد العزيزي هيئات الإغاثة الإنسانية والهلال الأحمر التعاون من أجل إعادة المرضى لذويهم.

مشاعر المرضى
ورغم كل ما قدم للعناية بهؤلاء فإن الجهود تحتاج للمزيد خاصة وأن المستشفى كان أحد مستشفيين فقط في سوريا، وقال الطبيب المشرف للجزيرة نت إن عشرين من الكادر التحقوا من جديد للعناية بالمرضى، متوقعا التحاق المزيد بالمكان الجديد، مشيرا إلى أنه آثر البقاء حتى النهاية وتعهد بعدم خذلان المرضى في الأوقات الصعبة.

لكنه أعرب عن أسفه الشديد لعدم تعاون أهالي المرضى مع المستشفى عندما وجه نداء لاستلام ذويهم، خاصة وأن المرضى من محافظات عدة.

أبو البراء موظف بقي في مستشفى ابن خلدون لآخر لحظة (الجزيرة نت)
أبو البراء موظف بقي في مستشفى ابن خلدون لآخر لحظة (الجزيرة نت)

وبعد أن كان المستشفى مأوى لمئات المرضى وفيه حدائق غناء للترفيه وصالة رياضية وبلياردو أصبحت مبانيه خرابا بسبب القصف وتشرد نزلائه.

وبعد الانتقال إلى المكان الجديد عبر العديد من المرضى عن سعادتهم وضحكوا وصفقوا ورقصوا أمام الكاميرا، وشوهد أحدهم وهو يغني "حالي حالي حال، مالي مالي مال" ويردد المرضى وراءه، بينما رفع آخر كفيه بالدعاء ليردد أيضا وراءه المرضى.

وعن شعورهم أثناء القصف يروي "خ. م" كيف أنه فر مع نزيلين آخرين بسبب الخوف من الموت بالقصف حتى عثر عليهم الجيش الحر وسلمهم لمكان آمن.

وفي جناح النزيلات تعالت الأصوات بالشكوى من البرد، والضحك أحيانا، وتقدمت مريضة أربعينية تدعى "ف. ش" لتحكي روايتها عن القصف فقالت إنها لا تذكر سوى أنها نطقت بالشهادتين وتذكرت سورة الفاتحة وآية الكرسي قبل أن تفتح لهن الأبواب.

وتغنت "ف. ش" -التي فقدت زوجها ووالديها وقالت إنها مصابة بحالة من الهيجان العصبي- بأبيات من الشعر تقول "طرقت باب الرجاء والناس قد رقدوا … وبت أشكو إلى مولاي ما أجد…. وقلت يا أملي في كل نائبة….. يا من عليه لكشف الضر أعتمد".

ولدى الدخول للمستشفى المدمر يلفت نظرك في الصيدلية عبارة للفيلسوف الفرنسي باسكال تقول "صنفان من الناس فقط يجوز أن نسميهم عقلاء وهم الذين يخدمون الله لأنهم يعرفونه، والذين يجدون في البحث عنه لأنهم لا يعرفونه"، ويطرح بعض العاملين هنا تساؤلا مفاده هل من العقل قصف مكان لهؤلاء المرضى؟

المصدر : الجزيرة