"بيرقدار" التركية تغضب روسيا.. هل تسعى أوكرانيا إلى تغيير معادلة أزمتها؟

في ظل التوتر المتصاعد، تبرز فرضيتان لاستشراف المستقبل، أولها تقول إن التصعيد الراهن ما هو إلا زوبعة جديدة في فنجان -إن صح التعبير- هدفه الوصول إلى حلول لقضايا إقليمية وعالمية أخرى؛ وثانيها تعتبر أن التوتر يتجه -عاجلا أو آجلا- نحو إعلان الحرب

ميدان - الدرونز التركية "بيرقدار تي بي 2"
المسيرة التركية "بيرقدار تي بي 2" تثير تساؤلات عن مدى قدرتها على تغير معادلة الصراع في أوكرانيا (الأناضول)

كييف – ما إن أعلنت أوكرانيا استخدام طائرة "بيرقدار" المسيرة التركية أول مرة في الميدان، لضرب أهداف في إقليم دونباس الانفصالي شرقي البلاد، حتى ضجت وسائل الإعلام وأروقة السياسة الروسية والعالمية بالحديث عن هذا المنعطف في أزمة مستمرة منذ عام 2014.

فالرئاسة الروسية، التي دعت تركيا سابقا إلى عدم تصدير طائرات مسيرة إلى أوكرانيا، رأت أن "المخاوف تحققت"، وأن استخدام الطائرة المسيرة بيرقدار سيؤثر سلبا على الوضع في الإقليم، الذي يسيطر عليه الموالون لها.

حتى أن قادة الانفصاليين في "جمهورية دونيتسك الشعبية" -المعلنة من جانب واحد- تحدثوا مباشرة عن محاولة الجيش الأوكراني التقدم و"احتلال" قريتين.

كييف تهدد

لكن الأمر لا يتوقف على استخدام هذه الطائرة المسيّرة فقط، فقد شهدت الأيام الماضية سلسلة تصريحات أوكرانية، حملت عبارات تهديد غير معهودة في قاموس تعامل أوكرانيا مع روسيا "المعتدية".

فقبل أيام، قال أوليكسي أريستوفيتش -وهو مستشار رئيس مكتب الرئيس الأوكراني، والمتحدث باسم وفد كييف إلى مجموعة الاتصال الثلاثية حول التسوية في دونباس- إن أوكرانيا تعمل على برنامج صاروخي، ويمكن أن تستخدمه للضغط على الكرملين في إطار "الرد المتكافئ" على روسيا. وأكد أن "الصواريخ الأوكرانية قد تحدد روسيا وجهة لها، وهي قادرة على الوصول، حتى إلى موسكو".

ومن جهته، هدد وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا باتخاذ "إجراءات"، إذا أوقفت روسيا اعتمادها على أراضي أوكرانيا لنقل الغاز، من دون مزيد من التفاصيل.

ويتزامن كل هذا مع توتر العلاقات بشكل غير مسبوق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) الداعم لأوكرانيا، خاصة في منطقة البحر الأسود.

موسكو قلقة

وعلى غير المعتاد أيضا، عبرت موسكو عن قلقها من "تهديدات كييف"، وانتقدت "صمت برلين وباريس" عنها؛ معتبرة أن هذه التهديدات ستؤثر على عملية التفاوض للتسوية في إطار "رباعية نورماندي"، التي تضم ألمانيا وفرنسا إلى جانب روسيا وأوكرانيا.

وسارعت فرنسا للتعبير عن قلقها، واعتبرت أن استخدام بيرقدار يهدد "إجراءات تعزيز وقف إطلاق النار في المنطقة". وبدورها، انتقدت برلين أيضا استخدام بيرقدار، مما أدى إلى توترات دبلوماسية مع كييف، التي أكدت حقها في "الدفاع عن النفس".

صرخات أوجاع

وتبرز هنا آراء تحليلية ترى أن تهديدات كييف ما هي إلا "صرخات ألم، ناجمة عن أوجاع ومشاكل كثيرة تعيشها البلاد"، إن صح التعبير.

من أبرز هذه "الأوجاع" وأكثرها سخونة، بحسب مراقبين:

  • اقتراب موعد انطلاق خط "نورد ستريم 2" (Nord Stream 2) لنقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، مما يهدد كييف بخسارة نحو 2 مليار دولار سنويا، رسوم عبور الغاز التي كانت تحصلها شبكات النقل الأوكرانية، وتحويل هذه الشبكات إلى "خردة".
  • تجاهل روسيا دعوات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، المتكررة لعقد لقاء مباشر مع الرئيس فلاديمير بوتين، وجها لوجه. ويضع هذا التجاهل زيلينسكي في حرج داخلي، لا سيما مع تراجع شعبيته بشكل حاد. وفي زاوية الشروط التي تضعها موسكو، يأتي على رأسها عدم الخوض في قضايا أزمة شرق أوكرانيا واحتلال القرم، مما يعني -عمليا- أن لقاء القمة غير مهم، ولن يصل إلى نتيجة، بحسب مراقبين.

كما تتهم موسكو كييف بتعمد التصعيد، لصرف الانتباه عن الأزمات السياسية والاقتصادية الداخلية، خاصة تلك المتعلقة بالانتشار الواسع لفيروس كورونا.

ويدعم هذه الآراء إيهور هوجفا، رئيس تحرير موقع "سترانا" (البلد) الأوكراني، الذي أغلقته السلطات قبل أسابيع بتهمة "موالاة روسيا"، فيقول: "الهدف المحتمل من الإجراءات الأوكرانية هو استفزاز العدو (روسيا)، وإثارة ضجة كبيرة حول هذا الأمر، ومحاولة تعطيل إطلاق خط نورد ستريم 2 لنقل الغاز".

ويضيف: "ومع ذلك، أنا على يقين من أن فكرة سلطات كييف لن تتوج بالنجاح، لأن روسيا لن ترد بالمثل".

استعراض قوة

ويرى آخرون أن في استخدام بيرقدار استعراض قوة تمارسه أوكرانيا، ورسالة مفادها أنها قادرة على الضغط، أو حتى تكرار سيناريو تحرير إقليم قره باغ الأذربيجاني في إقليم دونباس الأوكراني.

يقول الخبير في المعهد الأوكراني للمستقبل، إيليا كوسا، "وصلت الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية الروسية حدا كبيرا وخطيرا بالنسبة لأوكرانيا، ولهذا طبقت كييف ما لمحت إليه سابقا بعد تحرير قره باغ، لتجبر الروس على إعادة حساباتهم، والتفكير بطريقة جديدة للتعامل معها".

ويوضح كوسا -للجزيرة نت- أن "روسيا تتعامل مع أوكرانيا بمنطق القوة والفوقية، مدركة فارق الإمكانيات. واليوم، تسعى كييف -على ما يبدو- إلى تغيير قواعد اللعبة، وترجيح كفة ميزان القوة لصالحها نوعا ما، اعتمادا على واقع إقليمي وعالمي جديد".

واقع جديد

وفي سياق متصل، يرى كل من كينيث يالويتز -السفير الأمريكي السابق لدى جورجيا وبيلاروسيا- ووليام كورتني -السفير الأميركي السابق لدى جورجيا وكازاخستان- أن لدى موسكو اليوم مساحة أقل للمناورة مع أوكرانيا وجورجيا المجاورة، على عكس ما قد توحي به قوتها.

وأوضحا -في مقال مشترك بمجلة "ناشونال إنترست" الأميركية- أن "روسيا قلقة من التطورات في آسيا الوسطى بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتنامي النفوذ الصيني هناك وفي جنوب القوقاز، حيث لدى بكين قاعدة عسكرية في طاجيكستان، وكذلك الحال في القطب الشمالي، التي تشكل مناطق النفوذ الروسي التقليدية".

كما دللا على هذا الرأي بالقول إن "استمرار دعم الغرب لسيادة واستقلال وسلامة أراضي جميع الدول السوفياتية السابقة، أدى إلى بناء خزان من حسن النية بين كثيرين في المنطقة، إن لم يكن جميعهم".

ضوء أخضر

ويذهب البعض إلى ربط هذا "التصعيد الأوكراني" بضوء أخضر حصلت عليه كييف من حلفائها في دول الغرب، لا سيما في ظل توتر العلاقات بين هذه الدول وروسيا.

ويذهب آخرون حتى إلى القول إن تركيا -ببيع بيرقدار لأوكرانيا ومن ثم استخدامها هناك- تدفع كييف نحو التصعيد، بهدف مساومة بوتين على سوريا.

يقول رئيس معهد الإستراتيجيات العالمية، فاديم كاراسيف، "ليس سرا أن أوكرانيا تنسق مع شركائها في حلف الناتو، وربما تحصل منهم على دعم ومباركة ما تقوم به على الأرض".

لكنه اعتبر -في حديث للجزيرة نت- أنه "خطأ جسيم القول إنها تنطلق بإذن منهم، وتنفذ توجيهاتهم. جيش أوكرانيا ليس مليشيا تدار من جهة داخلية أو خارجية لتحقيق أجنداتها؛ ولأوكرانيا -ككل- حسابات قد لا تعجب بعض الشركاء، كألمانيا وفرنسا، كما رأينا".

حقيقة التصعيد

وفي ظل هذا التوتر المتصاعد، تبرز فرضيتان لاستشراف المستقبل: أولها تقول إن التصعيد الراهن ما هو إلا زوبعة جديدة في فنجان -إن صح التعبير- هدفه الوصول إلى حلول لقضايا إقليمية وعالمية أخرى، وثانيها تعتبر أن التوتر يتجه -عاجلا أو آجلا- نحو إعلان الحرب.

وعن ذلك، يقول الكاتب والمحلل السياسي أوليكساندر بالي "إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن استخدام بيرقدار والتهديدات الأوكرانية الأخيرة جاءت بدون مقدمات تذكر، نستطيع استنتاج أن الهدف الأوكراني منها (أو حتى الغربي) إجبار موسكو على تقديم تنازلات سياسية واقتصادية، وهذا واضح من بعض التصريحات".

لكنه يضيف -في حديثه للجزيرة نت- "ومع ذلك، دعونا لا ننس أن المنطق الروسي يفضل أن يحل أي تهديد بالقوة. وإذا كان الغرب جادا في دعم أوكرانيا وصادقا في نيته ضمها إلى عضوية الناتو، فأعتقد أن الوصول إلى الحرب سيكون مسألة وقت فقط".

المصدر : الجزيرة