بخلاف الإعلام الفرنسي.. سياسة باريس تجاه الأزمة التونسية مرتبكة وحذرة ولا تتبنى أي موقف

حسابات كثيرة تضعها باريس في الحسبان عند اتخاذها موقفا من الأزمة السياسية في تونس (الفرنسية)

باريس – يرى مراقبون أن الموقف الفرنسي من الأزمة الدستورية التونسية ما زال يراوح مكانه، متسما بـ"الحذر" و"الارتباك" و"الغموض" و"النفاق" و"اللاموقف"، بخلاف ردود فعل الإعلام الفرنسي وموقفه من هذه الأزمة، الذي كان مباشرا وواضحا ومنحازا للديمقراطية.

فقد عنونت صحيفة "لوموند" (Le Monde) افتتاحيتها يوم السبت 25 سبتمبر/أيلول الماضي بـ"انجراف الرئيس التونسي الاستبدادي". وأما الموقع المستقل المتخصص في الصحافة الاستقصائية "ميديا بارت" (Mediapart) فقد نشر تحقيقا مطولا يوم السبت نفسه تحت عنوان "في تونس.. تركيز مقلق بشكل متزايد للسلطات من قبل الرئيس".

ومنذ إعلان الرئيس قيس سعيد حزمة الإجراءات الاستثنائية يوم 25 يوليو/تموز 2021، التي شملت إنهاء مهام رئيس الحكومة هشام المشيشي وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، أعربت باريس عن موقفها من خلال وزارة خارجيتها التي قالت "نتابع عن كثب وباهتمام شديد تطوّر الوضع السياسي في تونس".

وأضافت الخارجية الفرنسية "ترغب فرنسا في احترام سيادة القانون، والعودة إلى أداء المؤسسات عملها على نحو طبيعي في أقرب وقت ممكن".

وأما الرئيس إيمانويل ماكرون فقد أكد لنظيره التونسي قيس سعيد في مكالمة هاتفية بينهما في السابع من أغسطس/آب الماضي أن "فرنسا تقف إلى جانب تونس والشعب التونسي في هذه اللحظة الحاسمة من أجل سيادتها وحريتها". وأعرب ماكرون عن رغبته في أن تتمكن تونس بسرعة من الاستجابة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تواجهها، كما جاء في بيان الإليزيه.

موقف مرتبك وحذر

يرى رئيس معهد الاستشراف والأمن في أوروبا إيمانويل دوبوي أن فرنسا لم تنحز لأي طرف في الأزمة التونسية، ولم تظهر اختلافها مع هذا الطرف أو ذاك، لكنها محتاجة للتموقع إلى جانب التونسيين قبل كل شيء بعيدا عن كل الأطراف، خاصة مع الوضع الدقيق لتونس من الناحية الاقتصادية والصحية.

ويقول للجزيرة نت "فرنسا تراقب بانتباه كل خطوات وإجراءات الرئيس قيس سعيد بدءا بخطوته الأولى في الانقلاب بالقوة وتجميد البرلمان، ومرورا بقراءته الأحادية الخاصة للفصل 80 من الدستور، ووصولا إلى الإشارات الإيجابية التي يريد إرسالها للمجتمع الدولي من خلال تعيينه الأكاديمية نجلاء بودن رمضان كأول امرأة تونسية في منصب رئيس الحكومة".

الخوف من السيناريو اللبناني

وإجابة عن سؤال: هل المصالح الاقتصادية هي التي تحكم موقف الشريك الأول لتونس، وتجعله متأرجحا وبراغماتيا وحذرا؟ أشار دوبوي إلى أن "فرنسا تبقى الشريك الاقتصادي الأول لتونس بمعاملات وتبادلات تجارية بقيمة 8 مليارات يورو، ما يمثل 20% من التجارة الخارجية التونسية، لكن لا يجب أن ننسى المنافسة الشديدة التي تلقاها فرنسا من جيرانها الأوروبيين، وخاصة إيطاليا بتبادل تجاري يمثل 16% من رقم الصادرات التونسية".

ويتابع قائلا للجزيرة نت "من هنا نفهم أهمية المعطى الاقتصادي في بلورة الموقف السياسي الفرنسي تجاه الأزمة التونسية. وهنا وجب التأكيد على أن فرنسا تنظر بكثير من الانتباه والخوف للأزمة الدستورية الديمقراطية والاقتصادية في تونس، وهي تخشى إن تواصلت هذه الأزمة لفترة طويلة أن تسقط تونس في السيناريو اللبناني، وما يتبع ذلك من تهديد مباشر للمصالح الفرنسية والأوروبية".

اللاموقف والخشية من الديمقراطية

وأما أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في باريس الدكتور فرج معتوق فيعتقد أن "فرنسا اتخذت موقفا فيه الكثير من الحذر وكأنها تتبنى اللاموقف"، حيث وصفت الإجراءات الاستثنائية، التي يرى فيها شق كبير من التونسيين انقلابا على الشرعية، بأنها "مجرد عملية استقواء على الدستور".

ويتابع حديثه للجزيرة نت "هذا الموقف يتسم بالمجاراة والنفاق والتحفظ والحذر، فإذا تمت العودة إلى المسار الديمقراطي القديم، فحينها ستقول فرنسا إنها كانت مع الديمقراطية، وإذا انتصر قيس سعيد ومضى في إجراءاته ومرر فكرة النظام الرئاسي، فقد كانت فرنسا إلى جانب الرئيس سعيد. إذن هو في اعتقادي موقف النفاق والمجاراة واللاموقف".

وبخصوص لعبة المصالح الاقتصادية وتداخلها مع المواقف السياسية، يؤكد أستاذ تاريخ العلاقات الدولية أن فرنسا نزعت إلى البراغماتية "لأن لديها الكثير من الخطط والإستراتيجيات في هذا الجانب، وتريد أن تكون حاضرة في كل السيناريوهات التي قد تطرأ في تونس وفي المنطقة، خاصة مع اشتداد الصراع على أفريقيا من قبل القوى العالمية الكبرى".

وعن تشابه موقف فرنسا الحالي مع موقفها ابان الثورة التونسية، يقول معتوق "صحيح هذا الموقف يذكرنا بذلك الموقف المخزي الذي يخجل منه الفرنسيون حينما اقترحت وزيرة الدفاع ميشال أليو ماري التبرع لنظام بن علي بدعم لوجستي تقني لمواجهه الحراك الثوري التونسي. وبالتالي مسألة حقوق الإنسان والدفاع عن القيم النبيلة هي آخر اهتمامات ليس فرنسا فقط، وإنما كل الغرب".

مغازلة ذكية للغرب

وعن قراءته لتعيين امرأة في منصب رئيس الحكومة، يؤكد معتوق أن تعيين الأكاديمية نجلاء بودن رمضان هو محاولة ذكية من قيس سعيد لامتصاص غضب جزء كبير من الشارع التونسي الرافض للإجراءات الاستثنائية، وكذلك للقوى اليسارية الحداثية وخاصة للجمعيات والمنظمات النسوية.

ويتابع "أبعاد هذا التعيين برأيي تذهب بعيدا في نوع من المغازلة المباشرة المفضوحة للغرب، المناصر لحقوق المرأة، وخاصة لفرنسا".

ويعتقد أن "هذا التعيين أظهر بما لا يدع مجالا للشك أن قيس سعيد لا يقبل الرأي الآخر، ولا يريد من ينازعه السلطة، ولذلك عيّن هذه المرأة الأكاديمية التي ليس لها أي خبرة سياسية سابقة. والرئيس بهذا التعيين كأنه عيّن نفسه في المنصب، لأنه سوف يملي عليها شروطه ويتحكم فيها ويسيرها مثلما يريد".

المصدر : الجزيرة