ميدان التحرير.. طمس الهوية الثورية في مصر تحت راية التجديد

الحكومة المصرية تتعاقد مع شركة أمن لحماية ميدان التحرير
الحكومة المصرية تعاقدت مع شركة أمن بدعوى حماية ميدان التحرير (الصحافة المصرية)

دعاء عبد اللطيف-القاهرة

"دقت الساعة القاسية
وقفوا في ميادينها الجهمة الخاوية
واستداروا على درجات النصب
شجراً من لهب
تعصف الريح بين وريقاته الغضة الدانية
فيئنّ: بلادي.. بلادي.. بلادي البعيدة"..

هكذا قدم الشاعر المصري أمل دنقل في قصيدته الشهيرة "الكعكة الحجرية" وصفا لمشاعره تجاه المظاهرات الطلابية التي اندلعت عام 1972 للمطالبة بمحاربة إسرائيل، والتي تمركزت حول النصب التذكاري في ميدان التحرير وسط القاهرة، باعتباره قبلة الثائرين.

وعلى مدار نحو قرن من الزمان، كان ميدان التحرير وتحديدا النصب التذكاري -المصنوع من الغرانيت ويأخذ شكل الاستدارة كالكعكة- هدف المصريين للتمركز أثناء احتجاجاتهم بدءا من ثورة 1919 حتى ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، لذا يبدو مفهوما أن تستهدف السلطة الحالية طمس ثورية الميدان.

وعلى ذلك باتت أخبار بدء الحكومة في أعمال "تطوير" الميدان -على حد تعبير المسؤولين الرسميين- تمر بشكل اعتيادي على أسماع المصريين على مدار السنوات الأخيرة بعدما أصبحت مكررة، وفهم الناس أن الهدف منها غلق الميدان أمام أي فرص للتظاهر أو حتى التجمع.

وقبل أيام طالعتنا وسائل الإعلام المصرية بخبر تعاقد الحكومة مع شركة أمن تتسلم أعمال تطوير وحراسة ميدان التحرير، ونقلت تصريحات لوزير التنمية المحلية اللواء محمود شعراوي شدد خلالها على التعامل بحسم مع أي مخالفة من جانب المواطنين.

وتحدث الوزير بلهجة فضفاضة المعنى، إذ أكد تثبيت كاميرات مراقبة في أرجاء الميدان، وسيتم تفريغها في حالة وجود أي عمل يضر بأعمال التطوير التي تتم في منطقة التحرير.

يأتي ذلك بعد الانتهاء من تثبيت مسلة فرعونية للملك رمسيس الثاني مكان النصب التذكاري بطول 17 مترا، وإنشاء أربع قواعد يفترض أن تحمل أربعة كباش ستنقل من معبد الكرنك في الأقصر لتستقر حول المسلة في قلب التحرير.

والمسلة الفرعونية تخص الملك رمسيس الثاني، وهو أكثر الفراعنة حكما للبلاد، إذ ظل متوجا على عرشه لنحو 67 عاما.

تاريخ ممتد
يرجع تاريخ ميدان التحرير إلى فترة حكم الخديوي إسماعيل (1863-1879) الذي أنشأ القاهرة الخديوية على غرار العاصمة الفرنسية باريس، فأسس الميدان ليكون رابطا بين ثكنات وجسر قصر النيل وبين قصر الحكم في عابدين.

وسرعان ما دخل الميدان الجديد -الذي سُمي "ميدان الإسماعيلية" نسبة إلى مؤسسه- في دائرة موازين القوى والسيطرة، فبعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 اتخذ الجيش البريطاني ميدان التحرير مقرا لثكناته العسكرية، في رمزية للسيطرة على القصر والبرلمان.

وعُدّ الميدان قبلة للمتظاهرين في أحداث هامة في التاريخ الحديث، فشهد مواجهات بين الثوار وقوات الاحتلال خلال ثورة 1919، وكذلك خلال مظاهرات عام 1935، ثم احتجاجات عام 1946 ضد الاحتلال الإنجليزي.

وعقب توقيع اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا عام 1954، تم تغيير اسم الميدان من الإسماعيلية إلى التحرير.

وخلال العقد الثامن من القرن الماضي، عاد المصريون إلى الميدان الشهير للتظاهر ضد حالة اللاسلم واللاحرب قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ثم خلال انتفاضة الخبز التي اندلعت يومي 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977.

وفي العام 1982 ومع بدء أعمال الحفر في مشروع مترو الأنفاق، أزيل النصب التذكاري وزرعت مكانه الأشجار.

واعتمادا على تاريخه وموقعه في قلب القاهرة، كان منطقيا أن تتجمع المظاهرات التي انطلقت من شوارع وميدان العاصمة في الميدان صاحب التاريخ الطويل، ليعلن الثائرون عن الاعتصام فيه 18 يوما خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

ويتصل الميدان التاريخي بعدد من الشوارع الرئيسية في العاصمة منها: طلعت حرب، وقصر العيني، والجلاء، ورمسيس، والتحرير، والفلكي. كما يؤدي إلى 18 وزارة حكومية ومبنى البرلمان المصري، ويحتضن أكبر مبنى يضم عددا من المصالح الحكومية، وهو مجمع التحرير.

وتحيطه بنايات لها ثقل تاريخي وسياسي واجتماعي، أبرزها المتحف المصري، وجامعة الدول العربية، والجامعة الأميركية، ومسجد عمر مكرم، إلى جانب قربه من مقر البرلمان المصري وكنيسة قصر الدوبارة ومقرات عشرات السفارات الأجنبية.

‪السلطة اعتادت غلق ميدان التحرير مع حلول ذكرى ثورة يناير‬ (الجزيرة)
‪السلطة اعتادت غلق ميدان التحرير مع حلول ذكرى ثورة يناير‬ (الجزيرة)

تقييد الميدان
وبعد استخدام ميدان التحرير في مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 التي أعقبها الانقلاب العسكري يوم 3 يوليو/تموز الذي قاده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرا للدفاع على الرئيس المنتخب محمد مرسي، بات الميدان الأشهر يمثل بؤرة قلق لدى النظام الحاكم.

لذلك اعتادت السلطة غلق مداخل الميدان بالأسلاك الشائكة وإحاطته بمدرعات ومركبات الجيش وسيارات الشرطة في ذكرى ثورة يناير، وقبل مناسبات يُتوقع معها ثوران غضب شعبي، إلى جانب غلق محطة مترو أنور السادات التي تفتح بواباتها على ميدان التحرير.

كما ظلت لسنوات المتاريس الإسمنتية تغلق الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية ومبنى البرلمان، وباتت مداهمة المقاهي الشعبية القريبة للميدان أمرا دوريا.

وإلى جانب الإغلاق الأمني للتحرير، كان هناك تحرك من نوع آخر لطمس معالم الميدان من الوجدان الثوري.

فعلى مدار سنوات أجرت السلطة تغييرات في شكل الميدان، فمسحت رسوم الغرافيتي المعبرة عن الفعل الثوري، التي كانت تزين جدران بنايات شارع محمد محمود المؤدي إلى التحرير.

وغيرت الحديقة التي تتوسط قلب الميدان أكثر من مرة، ثم وضعت حجر الأساس لبناء نصب تذكاري بميدان التحرير نهاية العام 2013 "تخليدا لذكرى ثورتي 25 يناير و30 يونيو"، بحسب تصريحات مسؤولين حكوميين حينها.

وبلا سبب واضح للرأي العام لم يكتمل بناء النصب التذكاري للشهداء، وبدلا منه أقيمت في يناير/كانون الثاني 2015 سارية علم بطول 45 مترا، لتتم إزالتها لاحقا وتبدأ أعمال تطوير جديدة.

وفي الشهر ذاته، افتتح كراج التحرير بحضور رئيس الوزراء آنذاك إبراهيم محلب، بتكلفة تخطت 675 مليون جنيه (نحو 43.5 مليون دولار) وعلى مساحة 20 ألف متر مربع، بواقع 4 طوابق تحت أرض الميدان.

وفي أغسطس/آب 2015، هدمت محافظة القاهرة مبنى الحزب الوطني المنحل المطل على ميدان التحرير، والذي تعرض للاحتراق خلال ثورة يناير، حيث كان الحزب بمثابة الذراع السياسية لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك.

التغيير الأخير
وبعد نحو شهر من مظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الماضي التي اندلعت استجابة لدعوة المقاول والفنان محمد علي، خرجت تصريحات لمسؤولين حكوميين تتحدث عن "تطوير" جديد لميدان التحرير بدعوة ورعاية من الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وربطت تقارير صحفية بين أعمال التغيير في الميدان التي طالب بها السيسي وتشرف عليه عدة وزارات، وبين مبادرة تطوير القاهرة الخديوية التي بدأت منذ العام 2014.

وشملت التغييرات على الميدان طلاء واجهات البنايات المطلة على التحرير وإضاءتها بلون موحد، إلى جانب أعمال الرصف للحارات المرورية والتشجير للحدائق بأشجار النخيل والزيتون، مع إزالة كافة اللوحات الإعلانية، ونشر مقاعد للجلوس بطول الحدائق الموجودة في الميدان.

وتبلغ تكلفة إضاءة المتحف المصري والواجهات والسور الخارجي والحديقة المتحفية نحو 16 مليون جنيه، بينما تبلغ تكلفة وحدات الإضاءة لميدان التحرير في حدود 3.5 ملايين.

إلى ذلك، يجري العمل لإنشاء نافورة دائرية في محيط المسلة الفرعونية والكباش الأربعة في قلب ميدان التحرير.

وقوبل الإعلان عن نقل كباش فرعونية إلى الميدان بالرفض من جانب عدة جهات، فقدم نواب برلمانيون بيانا عاجلا إلى رئيس الوزراء يعترضون فيه على نقل التماثيل الأربعة من معبد الكرنك إلى التحرير.

كما اعترضت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو)، وبعثت رئيسة المركز العربي للتراث العالمي التابع للمنظمة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رسالة رسمية إلى وزارة الآثار المصرية تقول فيها إن نقل التماثيل الفرعونية بتلك الطريقة يتعارض مع المبادئ التوجيهية التشغيلية لاتفاقية التراث العالمي.

المصدر : الجزيرة