ماذا ينتظر فرنسا ماكرون بعد خفوت حراك السترات الصفراء؟

PARIS, FRANCE - DECEMBER 15: Protesters gather at Place de l’ Opera during the 'yellow vests' demonstration on December 15, 2018 in Paris, France. The protesters gathered in Paris for a 5th weekend despite President Emmanuel Macron's recent attempts at policy concessions, such as a rise in the minimum wage and cancellation of new fuel taxes. But the 'Yellow Vest' movement, which has attracted malcontents from across France's political spectrum, has shown little si
حراك السترات الصفراء انطلق يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي احتجاجا على سياسات ماكرون الاقتصادية (غيتي)

يبدو أن قرار الحكومة الفرنسية العدول عن رفع الضرائب على الوقود الذي كان السبب المباشر في اندلاع حراك السترات الصفراء، وما تعهد به الرئيس إيمانويل ماكرون من إجراءات في خطابه الأخير يوم 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري بهدف تعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين، لم تفلح في تهدئة الخواطر وتجاوز عاصفة الاحتجاجات.

ويرجح متابعون للشأن الفرنسي أن الأزمة الحالية التي أعادت إلى الأذهان مشاهد عنف لم تشهدها فرنسا منذ ستينيات القرن الماضي، وعززت الشكوك في نجاعة النموذج الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي، لن تنتهي تداعياتها اللاحقة حتى لو استطاع ماكرون وكتيبته الحكومية نزع فتيل الأزمة.

ولا يعتبر ظهور "السترات الصفراء" -وهي حركة لا تربطها علاقات مباشرة بأية أحزاب سياسية أو منظمات غير حكومية أو نقابات- ظاهرة جديدة في فرنسا، لكنه يؤشر على أن قنوات التمثيل التقليدية فشلت في احتواء مسببات السخط الاجتماعي.

فقد ظهرت في السنوات الأخيرة حركات شعبية مماثلة، مثل "القبعات الحمراء" التي احتجت على فرض ضريبة على الشاحنات عام 2013، وحركة "ليلة وقوف" التي تظاهرت عام 2016 ضد إصلاحات في قانون العمل.

وغالبا ما يشكل هذا النوع من الحركات "تحديا مؤقتا" للحكومة الفرنسية، بحكم عدم امتلاكها قيادة وتنظيما واضحين. لكنها في الوقت ذاته قد تتحول إلى مشكلة معقدة يصعب التعاطي معها بسبب عدم امتلاكها مرجعية واحدة يمكن للسلطات التفاوض معها. كما يمكنها أن تتصاعد بسرعة خاصة عبر تحريض مجموعات أخرى على الانضمام إلى الاحتجاجات، وهو ما حدث فعليا مع السترات الصفراء.

ماكرون خاطب الفرنسيين وتعهد بتنفيذ إجراءات عاجلة لتجاوز الأزمة (رويترز)
ماكرون خاطب الفرنسيين وتعهد بتنفيذ إجراءات عاجلة لتجاوز الأزمة (رويترز)

استغلال سياسي من المعارضين
سيحاول منافسو ماكرون -بما في ذلك الأحزاب اليمينية والحركات اليسارية والنقابات العمالية- استمالة السترات الصفراء واستخدام مطالبها لتحقيق مآربها السياسية. فقد أعلن مؤخرا الاتحاد العام للشغل انضمامه رسميا إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة. كما استغل التجمع الوطني اليميني –الجبهة الوطنية سابقا- وحزب "فرنسا الأبية" اليساري، مطالب السترات الصفراء للمطالبة باستقالة الحكومة.

وستشكل انتخابات العام القادم للبرلمان الأوروبي المقررة في مايو/أيار 2019، مؤشرا على مدى قدرة هذه الأحزاب على استغلال حالة السخط الاجتماعي المستمرة لصالحها.

تقويض إصلاحات ماكرون
كلما تراجعت شعبية ماكرون سيشعر خصومه بالثقة في إمكانية تقويض سياساته. ومع مرور الوقت، فإن تراجع شعبية الحكومة ومستويات النمو الاقتصادي المتواضعة، فضلا عن الاحتجاجات الاجتماعية واشتداد سطوة المعارضة، سيصعّب على الرئيس الفرنسي وحلفائه المضي قدمًا في برنامجهم الإصلاحي.

ورغم أن حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" يحظى بأغلبية مريحة في البرلمان تخوله أن يمرر إصلاحاته دون الحاجة إلى دعم الأحزاب الأخرى، فإن الاستياء الاجتماعي المستمر قد يجعل الحكومة أكثر حرصاً على تعزيز الإصلاحات الهيكلية، بينما سيكون المشرعون في الجمعية الوطنية (البرلمان) أكثر حذراً في دعمهم لماكرون. ونتيجة لذلك، قد يكون البرنامج الإصلاحي لماكرون معرضا للخطر.

سيكون التحدي الكبير المقبل للحكومة الفرنسية هو إصلاح معاشات الدولة، حيث تسعى إدارة ماكرون لاستبدال أنظمة التقاعد "المتعددة" بنظام واحد، وتغيير طريقة حساب مدفوعات المعاشات مما سيؤدي إلى تخفيضات في الدفع في بعض الحالات.

كما تريد الحكومة الفرنسية تقديم اقتراح رسمي لإصلاح نظام التقاعد منتصف العام القادم وإخضاعه للتصويت في البرلمان بحلول نهاية العام. وسيؤثر هذا الإصلاح على قطاعات عريضة من المجتمع الفرنسي، مما يعني أنه سيولد مقاومة قوية ويخلق ظروفا مواتية لمزيد من الاحتجاجات.

وتخطط الحكومة الفرنسية أيضًا العام المقبل لجعل الزيادات في التعويضات العائلية دون مستوى التضخم، وتشديد معايير الاستفادة من التأمين على البطالة، والحد من عدد الموظفين في القطاع العام. وهذا يعني أن المناخ سيظل مهيّأ للاضطرابات الاجتماعية العام المقبل أيضا بغض النظر عن مصير حراك السترات الصفراء.

‪حكومة ماكرون ستكون معرضة لمزيد من السخط الشعبي خاصة بسبب مقترحها لإصلاح نظام التقاعد‬ (رويترز)
‪حكومة ماكرون ستكون معرضة لمزيد من السخط الشعبي خاصة بسبب مقترحها لإصلاح نظام التقاعد‬ (رويترز)

تعديلات دستورية في خطر
كما تخطط الحكومة الفرنسية لإصلاح الدستور الفرنسي بهدف تقليص عدد البرلمانيين بمقدار الثلث، وإقرار إجراءات تشريعية أسرع، ومنع الموظفين العموميين من شغل مناصب متعددة. وعلى عكس إصلاح نظام المعاشات، يُحتمل ألا يؤدي هذ الإصلاح الدستوري إلى احتجاجات كبيرة، لكن ماكرون سيحتاج إلى دعم من المعارضة في الغرفة الثانية للبرلمان، بينما خصومه قد يعرقلون مقترحاته بهدف إضعافه أكثر.

في الماضي، هدد ماكرون بإخضاع الإصلاحات الدستورية إلى استفتاء إذا ما رفضت من الغرفة الثانية للبرلمان. لكن في ظل المناخ السياسي الحالي، ستفكر الحكومة أكثر من مرة قبل أن تدعو إلى استفتاء قد تخسره، والأسوأ أنه قد يتحول إلى تصويت غير رسمي على شرعية ماكرون.

فرنسا مكبلة خارجيا
ستحدّ الاضطرابات الاجتماعية داخل فرنسا من قدرتها على التأثير على المستوى الأوروبي، فباريس تريد إصلاحات عميقة في منطقة اليورو، بما في ذلك تخصيص ميزانية منفصلة لمنطقة اليورو، ودعم صندوق الإنقاذ المالي الأوروبي، واستكمال الوحدة المصرفية. لكن هذه الإصلاحات تتطلب إجماعا واسعا على مستوى الاتحاد الأوروبي، وهو ما ستسعى فرنسا جاهدة للحصول عليه.

ألمانيا -الشريك الرئيسي لفرنسا في الاتحاد- تتعامل مع المشاكل السياسية الخاصة بها، مما سيقلل من قدرة برلين على تقديم تنازلات لباريس. في الوقت ذاته، أصبحت بعض دول شمال أوروبا ممن تعارض المقترحات الفرنسية أكثر حزماً. وتريد هذه الدول -المعروفة باسم دول "الرابطة الهانزية الجديدة" أو دول "الفايكينغ"- أن تحدّ -وإذا أمكن أن تجهض- خطط فرنسا لإصلاح منطقة اليورو.

كما تمنح حقيقة أن لدى إيطاليا حكومة مشككة في جدوى منطقة اليورو وتتحدى الإصلاحات المالية للاتحاد الأوروبي، شحنة دعم رمزية لهذه الدول الشمالية التي تعارض زيادة تقاسم المخاطر المالية داخل الاتحاد.

سيحاول خصوم فرنسا الاستفادة من ضعف ماكرون الداخلي لاحتواء تأثير "أوروبا المتوسطية" على مستقبل الاتحاد الأوروبي. وحتى إذا تمكنت حكومات الاتحاد من إبقاء هذا الخلاف ضمن هوامش يمكن تحمّلها، فإن هذه التحديات السياسية ستبطئ وتيرة الإصلاحات المالية على المستوى القاري وتضع حداً لطموحات فرنسا.

بسبب الضغط الداخلي سيجد ماكرون نفسه أمام مسؤولية مضاعفة لإقناع شركائه الأوروبيين بإصلاح منطقة اليورو (الفرنسية)
بسبب الضغط الداخلي سيجد ماكرون نفسه أمام مسؤولية مضاعفة لإقناع شركائه الأوروبيين بإصلاح منطقة اليورو (الفرنسية)

حكومة مقيدة
ستنظم الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة عام 2022، ويرجح مراقبون أن يبقى الرئيس ماكرون في السلطة رغم محاولات زعزعة الاستقرار المحتملة من قبل خصومه. فلدى الرئيس عدة آليات تحت تصرفه للتعامل مع الأزمات السياسية التي تعصف بالبلاد، إذ يمكنه مثلا تعيين رئيس وزراء جديد يكون مسؤولا عن تشكيلة حكومية جديدة لاستعادة الدعم الشعبي. كما يستطيع الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة للسماح للناخبين بالتعبير عن مواقفهم من سياساته، لكن ذلك سيكون خيار اللحظة الأخيرة، خاصة أن حزبه يسيطر على أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية، وسيكون من الخطر تهديد هذه الأغلبية عبر تصويت جديد.

من المحتمل إذن -كما يرى متابعون للشأن الفرنسي- ألا تهدد الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة والمعارضة النشطة رئاسة ماكرون. لكن من المرجح أن تضيق هذه الاعتبارات نطاق عمل الحكومة عندما يتعلق الأمر بإدخال إصلاحات جوهرية. كما يمكن لرئاسة مخيبة للآمال أن تهدد فرص ماكرون في إعادة انتخابه، وتفتح الباب أمام الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية لتحسين أدائها في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية