للتخفيف من آلامهم.. متبرعات يهدين ضفائر شعورهن لمرضى السرطان بتونس

بدر الدين الوهيبي-تونس

تسحب حنين طفلة التسع سنوات يد أمها لتسرع الخطى داخل أزقة حي الزهروني في العاصمة التونسية تونس، تستعجل موعدا انتظرته منذ سنة لتهب ضفيرة شعرها عن طيب خاطر لتُصنع منها "باروكة" (شعر اصطناعي) لطفل فقد شعره جراء العلاج الكيميائي للسرطان.
 
ويتوسّع مرض سرطان الأطفال في تونس بشكل ينذر بخطر كبير، إذ تعرف أروقة المستشفيات المختصّة في علاج الأورام السرطانية ما يعادل 400 حالة جديدة سنويا لأطفال تونسيين أصيبوا بهذا المرض الخطير، حسب آخر الإحصائيات التي نشرت في اليوم العالمي للسرطان في فبراير/شباط 2019.
 
ودفعت الأرقام المفزعة في السنوات الأخيرة المجتمع المدني في تونس إلى تأسيس قرابة 44 جمعية خيرية تعنى بمرضى السرطان، وتسعى للإحاطة بهم نفسيا واجتماعيا ومرافقتهم في رحلة المداواة والعلاج، حسب إحصائيات مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات بتونس.
حنين تمسك ضفيرتها بعد قصّها للتبرع بها لطفل مصاب بالسرطان (الجزيرة)
حنين تمسك ضفيرتها بعد قصّها للتبرع بها لطفل مصاب بالسرطان (الجزيرة)

جمعية سليمة
تقول هاجر والدة حنين للجزيرة نت إنها اكتشفت نشاط جمعية "سليمة" على مواقع التواصل الاجتماعي، ولفت انتباهها خصوصية التبرعات التي تجمعها والمتمثلة في ضفائر الشعر لتصنع منها "باروكات" للأطفال المصابين بالسرطان الذين فقدوا شعرهم جرّاء العلاج الكيميائي المرهق الذي لا مناص منه في حالاتهم.

وتأسست الجمعية سنة 2013 وتمكنت منذ انطلاق نشاطاتها من توفير ما يقارب 50 شعرا اصطناعيا لأطفال مصابين بالسرطان، وذلك من خلال جمع تبرعات تلقائية من شابات وفتيات تفاعلن بطريقة إنسانية لافتة للانتباه مع حملات التوعية التي تقوم بها الجمعية ميدانيا وعلى مواقع التواصل.

التكلفة الباهظة للشعر الاصطناعي التي تناهز 200 دولار، جعلت لجمعية "سليمة" دورا محوريا في تخفيف هذا العبء المادي الإضافي الذي تتكبّده عائلات الأطفال المرضى، لا سيما الحالات الاجتماعية منها التي تدفع أصحابها لعدم إيلاء أهمية للآثار النفسية السيئة التي يخلّفها فقدان الشعر عند الطفل.

فك العزلة
ببراءة الطفولة وثبات الكبار، تقول حنين إنها قررّت التبرع بضفيرة شعرها للأطفال المرضى بالسرطان كي لا يشعرون بأي نقص ولا يخجلون عند اللعب مع أترابهم.

اختزلت حنين الفكرة في ابتسامة بريئة بدت على وجهها، بل تجاوزت التنظير لتهب بكامل الرضا قطعة من كيانها كطفلة.

وتقول رئيسة جمعية "سليمة" فاطمة خذيرة للجزيرة نت إن لفقدان الشعر وقعا سلبيا مضاعفا على نفسية الطفل الذي يعجز في غالب الأحيان عن فهم الأسباب المباشرة لهذا التغيّر المفاجئ الذي يطرأ على ملامحه لتزداد الأمور تعقيدا عند مواجهة نظرات أو تهكّم الأقران الذين لا يفهمون بدورهم ما يحدث له.

 شعر اصطناعي مكتمل التصنيع بورشة
 شعر اصطناعي مكتمل التصنيع بورشة "الباروكة" في تونس(الجزيرة)

وتؤكد العديد من المواقع العلمية التي نشرت دراسات عن الآثار النفسية لمرض السرطان عند الأطفال هذا الطرح، وتشدد على حاجتهم الماسّة إلى برامج تعليمية متخصصة للتعامل مع ارتفاع معدّلات إصابتهم بالقلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية والتي تدفعهم أحيانا إلى انتهاج سلوكيات عنيفة ضد الأقران.

وتضيف فاطمة خذيرة أنها، ومن خلال متابعتها لبعض الحالات، سمعت أصداء إيجابية من بعض الأولياء الذين لاحظوا تحسّنا ملحوظا في سلوكيات أطفالهم المرضى بالسرطان تتمثّل في تلهّفهم للخروج واللعب مع أترابهم، إضافة إلى تطوّر ملموس في نشاطهم الجسماني، مما يتيح فرصا أكبر لنجاح حصص العلاج.

تواصل وتنسيق
رحلة الضفيرة من المتبرّعة إلى الطفل المريض تبدأ بإشعار تتلقّاه الجمعية من أطباء مختصين أو نفسيين بوجود حاجة طفل لشعر اصطناعي.

نداء لا تتردّد فاطمة وأعضاء الجمعية في صياغته وبثّه على جميع الوسائل الاتصالية المتاحة لها لإيجاد ضفيرة بمواصفات محدّدة ومن ذلك نوعية الشعر.

ويقوم الأولياء في بعض الأحيان بالاتصال بها، خاصة الأكثر اطّلاعا ووعيا بأهمية العامل النفسي في الشفاء من هذا المرض الخبيث والمطّلعين على نشاطات جمعيات مكافحة مرض السرطان، وهؤلاء في الغالب فئة تتمتع عامّة بمستوى ثقافي وعلمي محترم لا ينسحب للأسف الشديد على أغلبية الحالات.

ويقول صلاح عليّة صاحب ورشة "الباروكة" لصنع الشعر الاصطناعي بتونس المتعاقدة مع جمعية "سليمة"، إنّه بمجرّد وصول الضفائر من الجمعية مرفقة باسم الطفل المتبرّع فإنّه يتم الاتصال بعائلته للحضور وأخذ قياسات الرأس ثم تحديد موعد لوضع اللمسات الأخيرة ثم الاستلام.

ويوفر التبرّع بضفيرة لصنع شعر اصطناعي لطفل مريض بالسرطان لعائلته ما يقارب 100 دولار، في حين تتمتّع الجمعية بأسعار تفضيلية حصرية في التكلفة الإجمالية، مما يساعد العائلات على مجابهة نفقات التنقّل والعلاج ولو بصفة رمزية، فضلا عما يوفّره الشعر الاصطناعي من محفّز نفسي مهم للطفل.

 ضفائر شعر في انتظار استكمال تصنيعها بورشة
 ضفائر شعر في انتظار استكمال تصنيعها بورشة "الباروكة" في تونس(الجزيرة)

ألم وأمل
الأعضاء المؤسسون لجمعية "سليمة"، وعلى رأسهم فاطمة خذيرة، هم مجموعة من الشباب الذين عايشوا تجربة إصابة أحد أفراد عائلاتهم بالسرطان، وانطلقت مبادرتهم بالقيام ببعض الأنشطة الترفيهية في المستشفيات التي تعالج هذا المرض الخبيث ومنها مستشفى صالح عزيّز في العاصمة.

وهذه التجربة منحتهم رغبة ملحّة في تكوين جمعية تحمل اسم "سليمة" تقدم خدمة للأطفال المرضى بالسرطان لدعمهم وعائلاتهم معنويا عن طريق فك العزلة النفسية التي يفرضها عليهم مرض أبنائهم، إضافة إلى إعانتهم ماديا عبر توفير الشعر الاصطناعي بتكلفة منخفضة جدّا وأحيانا مجانا للتخفيف عنهم قدر المستطاع.

وتمثل ضفائر شعر فتيات تونس حبل أمل يتدلّى من قلوب رحيمة لينتشل أجسادا غضّة أرهقتها عتمة مرض السرطان، فتجعلهم يفتحون الأبواب التي غلّقوها على أنفسهم ويخطون إلى النور بثبات وربما يخطون نحو أمل في الشفاء. 

المصدر : الجزيرة