"التفحيط" في السودان.. عالم من الرفاه وسط الفقر

التفحيط بالسودان
"التفحيط" ظاهرة مستحدثة في السودان تنامت في السنوات الخمس الأخيرة (مواقع التواصل)
مزدلفة محمد عثمان-الخرطوم
 
إذا قادتك قدماك إلى شارع "النيل" في العاصمة السودانية الخرطوم بعد منتصف الليل، فسترى بعينيك مشاهد حقيقية لما يعرف بـ "التفحيط" وبسيارات من أحدث الطرازات يقودها شباب يافعون تبدو على ملامحهم آثار الدعة وعلى سياراتهم علامات الثراء الباذخ، ولا يجب أن تأخذك الدهشة إذا أدركت أن من بين أولئك أبناء مسؤولين رفيعي المستوى.

وعلى الرغم من القانون السوداني الذي يفترض أن المسؤولين يعملون على تطبيقه وصيانته، فإن أبناء بعضهم باتوا شركاء أصيلين في خرقه.

فهذا القانون يصنف على نحو صريح ظاهرة التفحيط على أنها "قيادة بطيش" أو "قيادة بإهمال" يعاقب مرتكبها بالغرامة والسجن ولا يعتبرها كما دول أخرى نوعا من الرياضة تستحق الرعاية، تخصص لها ساحات عامة ولها مشاهدون وهواة.

تناقضات مدهشة
فالخرطوم العاصمة مثال حي للتناقضات المدهشة تتجاذب أطرافها مساكن الفقراء وشبه المعدمين، بينما يتميز وسطها القديم وبعض امتداداته الحديثة بالمباني  الفخمة، وفي شوارعها يمكنك أن ترى كذلك أحدث طرازات السيارات، بعضها عليه لوحات خليجية والآخر تسمرت في مؤخرته لوحة سودانية تحكي يُسر حال صاحبها.

وفي الأحياء الراقية يخرج شباب بعد منتصف الليل في تدبير مسبق وتنسيق راتب لممارسة هوايتهم الجديدة غير المألوفة.

فالعرض الخطير يعمد فيه صاحبه إلى "الانزلاق بالسيارة وهي في وضع يكون فيه اتجاه الإطار الأمامي مخالفا للاتجاه الفعلي الذي تسير فيه السيارة، وهي تحت سيطرة سائقها"، وسيكون هذا العرض لوقت قصير خشية حملة تنفذها شرطة المرور ضد هذا النوع من الاستعراض.

رواد جدد
ورغم التضييق الشديد الذي ظلت تمارسه السلطات في السودان على هواة هذا النوع من القيادة، فإنها تنامت في السنوات الخمس الأخيرة على نحو لافت خاصة مع عودة عدد كبير من الأسر السودانية من الخليج وبصفة خاصة من السعودية.

علاوة على ذلك أسهم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في استقطاب رواد جدد للظاهرة، وباتت مقاطع التفحيط تأخذ طريقها مباشرة إلى يوتيوب، ويتم تحميلها على صفحات الهواة في فيسبوك.

الشاب ميسر أنشأ صفحة على فيسبوك باسم "تفحيط سوداني" ورغم ملامحه الهادئة وبنيته النحيلة، فإنه يظهر شغفا بهذا النوع من الممارسة المحببة، وبمعية رفيقيه مصطفى وخلف وشابين آخرين اعتادوا على تبادل السيارة بعد استئجارها جماعيا ليشبعوا رغبتهم بالتفحيط.

ولأنهم يقومون بذلك في الخفاء ولتحاشي تعرضهم لأي مساءلات من السلطات، طلبوا منا عدم إظهار هوياتهم كاملة.

يقول خلف للجزيرة نت إنه منذ صغره بدأ بالدراجة الهوائية ومارس فيها كل الفنون التي تتيحها ابتداء من القيادة بيد واحدة نهاية باستخدام المكابح أثناء السرعة العالية، إلى أن تحوّل شغفه للتفحيط بالسيارات، رغم عدم امتلاكه سيارة خاصة.

ومثله رفيقه ميسر الذي كان يتحين عودة والده من العمل، فيخرج مستعرضا بالسيارة في الشارع القريب، وفي إحدى المرات أعطب الإطارات كليا ونال نصيبا وافرا من التوبيخ والتعنيف.

أما الصديق الثالث مصطفى فهو من هواة التفحيط في الصباح الباكر، حيث تخلو الطرق من المارة والسيارات، ورغم إصابته ذات يوم في حادث، فإنه عاد لممارسة هوايته.

‪سيارة تعرضت لحادث أثناء عملية تفحيط نفذها الشاب خلف‬ (الجزيرة نت)
‪سيارة تعرضت لحادث أثناء عملية تفحيط نفذها الشاب خلف‬ (الجزيرة نت)

عرض أسبوعي
على شارع النيل وخلف جامعة الرباط بضاحية بري شرق العاصمة الخرطوم، تشتهر منطقة المثلث بتنظيم عرض أسبوعي يومي الأحد والخميس، كان يتزعمه شاب معروف حتى لدى سلطات المرور، غادر هذا الشاب مؤخرا السودان، لكنه حسب ميسر كان كثيرا ما يتم اقتياده إلى التحقيق عند وقوع أي حادث تفحيط حتى لو لم يكن منظمه أو ذا صلة به.

ويوضح الشباب أنهم يفضلون سيارات منخفضة ليسهل التحكم فيها، كما أنهم لا يميلون إلى الطرازات الحديثة لأن غالبها "أوتوماتيك" بعكس العادي (المانيوال) الذي يتيح قدرة أوسع على السيطرة.

رفض اجتماعي
يتفق الرفاق الثلاثة على أن التفحيط منبوذ اجتماعيا قبل أن يكون ممنوعا بالقانون، وأن الأسرة هي أكبر عائق أمام أن يكون مقبولا.

فالعامة من الناس بالسودان يرون في الأمر "سوء أدب" ولا يقدرون أنه "مزاج وهواية ورياضة كغيرها من الرياضات"، ويتمنى الثلاثة أن تعترف بها الدولة وتخصص لها ميادين ومضمارا حتى لا يضطر الشباب إلى استخدام الشارع العام.

ولا يبدي ميسر ورفاقه قلقا إزاء المخاطر المترتبة على الممارسة خاصة وأن أي رياضة محفوفة بالمخاطر، قائلين "الفورميلا وان مثلا أخطر من التفحيط لكن ممارسيها يحاطون بدرجة عالية من التأمين ولديهم أماكن ومواسم يشبعون فيها هوايتهم وتلقى رواجا عالميا".

تراجع إجباري
يقول الأصدقاء الثلاثة إن الظاهرة تراجعت في الأشهر الأخيرة بعد فرض محلات إيجار السيارات مبالغ كبيرة على الهواة، مع وضع اشتراطات صعبة بينها ضرورة إيداع شيك على بياض لضمان إعادة السيارة سالمة.

ويقول مسؤول في وزارة الداخلية السودانية للجزيرة نت إن القانون الصارم الذي فرض عقوبات على "المفحطين" تحت عنوان "القيادة بإهمال" أسهم في تراجع الظاهرة خلال الفترة الأخيرة.

‪الطاهر ساتي: هناك نافذون نجحوا سابقا في تنظيم تفحيط تحت سمع وبصر السلطات‬ (الجزيرة نت)
‪الطاهر ساتي: هناك نافذون نجحوا سابقا في تنظيم تفحيط تحت سمع وبصر السلطات‬ (الجزيرة نت)

رعاية نافذين
يقول الكاتب الصحفي الطاهر ساتي للجزيرة نت إنه تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن هناك بعض النافذين في بعض الأندية والاتحادات يقفون وراء ظاهرة التفحيط التي قال إنها تهدد سلامة البعض وتستفز مشاعر آخرين.

ويشير إلى أن هؤلاء النافذين نجحوا سابقا في إعداد وتنظيم عرض تفحيط في شارع النيل تحت سمع وبصر وإشراف شرطة المرور، في محاولة منهم لإقناع إدارة المرور بأن القيادة بطيش في شوارع المدينة أصبحت رياضة ويجب الاعتراف بها، وهو ما قوبل بالرفض من الشرطة.

ويرى ساتي أن القضاء على الظاهرة يقع على عاتق أسر هؤلاء الشباب، لأن الشرطة -كما يقول- لا تملك من العدة والعتاد ما تغطي به كل شوارع ولاية الخرطوم.

حوادث مروعة
ويشير الكاتب إلى حوادث مروعة أودت بشباب مسجلة بمحاضر الشرطة، وفي ثناياها تختبئ ظاهرة التفحيط بأعداد مخيفة.

وينقل ساتي عن مدير سابق لإدارة المرور بالخرطوم أن التفحيط تجاوز مرحلة الظاهرة ويكاد أن يصبح حدثا رياضيا مألوفا وجماهيريا، وأن خسائر وبلاغات الظاهرة قادت الشرطة لتأسيس إدارة مختصة للمكافحة، رغم كل ذلك فالظاهرة لم تنحسر.

المصدر : الجزيرة