المقامات بفلسطين.. حقائق وطقوس وخرافات وعادات غريبة

عوض الرجوب-الخليل

سيدة رفيعة المكانة يعتقد أنها من الأسرة الحاكمة العثمانية يصاحبها فارس ذو بنية قوية، حضرا إلى أعلى نقطة ببلدة دورا (جنوب الضفة الغربية)، حيث ترتفع 850 مترا عن سطح البحر، هناك توقفت العثمانية عند كومة حجارة وأمرت بنبشها، فإذا بقبر أسفلها قالت إنه قبر النبي نوح عليه السلام، دون أن يناقشها أحد.

أمرت السيدة ببناء تابوت فوق القبر بطول 225 سنتيمترا وارتفاع 125 سنتيمترا، وفوق التابوت أمرت ببناء غرفة بها محراب باتجاه القبلة، وفي محيطه أوقفت قطعة أرض بمساحة نحو ثلاثة آلاف متر مربع، لا تزال إلى يومنا هذا، مع إضافات على البناء كان آخرها تكية لإطعام الفقراء قبل سنوات.

‪مقام النبي نوح ببلدة دورا جنوب الضفة الغربية‬ (الجزيرة)
‪مقام النبي نوح ببلدة دورا جنوب الضفة الغربية‬ (الجزيرة)

خصائص بناء المقام
وضع محراب المسجد في جهة القبلة معاكسا للباب، وأعلاه نافذة تدخل الضوء والشمس، وفي الجدران فتحات يعتقد أنها لأسرجة الإنارة، في حين يقام البناء على أربعة جدران ترتفع عند ملتقاها أذرع تلتقي في الوسط عند القبة، وهي خصائص تجمع أغلب المقامات بفلسطين، وتغيرت بعض الخصائص بتحويل المقامات إلى مساجد أو إقامة مساجد بمحاذاتها.

لم يعرف اسم السيدة ولا نسبها على وجه التحديد، ولا دليل على أن القبر يعود للنبي نوح عليه السلام، كما هو مكتوب بخط الثلث العربي على لوحة قديمة داخل المقام، بل هو واحد من عشرات المقامات التي أقيمت لأهداف مختلفة في العصر العثماني، وفق الباحث في تاريخ فلسطين محمد أبو صالح.

‪مقاما إٍسحق عليه السلام‬ (الجزيرة)
‪مقاما إٍسحق عليه السلام‬ (الجزيرة)

طقوس وعادات
لم يقتصر دور المقام على العبادة، بل مورست فيه -حتى عقود ماضية- طقوس وعادات غريبة، اعتبر بعضها شركا، وأسهم في اندثارها التعليم وزيادة الوعي.

ضيفنا شاهد على بعض عادات بلدته في "النبي نوح" (جنوب غرب الخليل) كما يطلق عليه محليا. فهو لم يكن تجاوز الرابعة من عمره عندما أقام له والده ما كان يعرف بحفل الختان.

ألبس أبو صالح برقعا ووضعت فوق رأسه ريشة نعامة ولبس قلادة من ليرات الفضة، وأركبه والده فوق الفرس، تتبعه نسوة تستظل كل خمس منهن بخيمة، يرددن الأهازيج الشعبية والمدائح الدينية حتى وصلوا المقام وأشعلوا الأسرجة ورددوا بعض الموروثات الدينية، ثم عادوا للمنزل واستمرت الاحتفالات وتناول الجميع طعام الغداء.

هذه الفعالية لم تكن سوى إنفاذا لنذر من والد ضيفنا في حال رزق بصبي طال انتظاره. هكذا كان يعمل أغلب السكان؛ يتجهون لتلك المقامات طلبا للبركة أو العون وغيرها من البدع.

قد يكون أبو صالح، وهو اليوم عضو في الهيئة الإسلامية العليا بالقدس، وحاصل على شهادة أفضل كاتب من ملك الأردن، من أواخر الذين تعاملوا مع المكان بنوعية من القدسية الخاصة، وربما كانت مدخلا له للغوص في عالم المقامات والكتابة عنها.

ويبين أن المقامات استخدمت للتبرك والدعاء والوفاء بالنذور وأداء قسم اليمين وحل الإشكالات بين المتخاصمين.

ووفق معطيات وزارة الآثار والسياحة الفلسطينية، فإن في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس 395 مقاما، سميت بأسماء أنبياء أو علماء أو صحابة أو صالحين، دون أن تتوافر معطيات عن باقي فلسطين.

‪محمد أبو صالح:‬ لم يقتصر دور المقام على العبادة، بل مورست فيه طقوس وعادات غريبة أسهم التعليم في اندثارها(الجزيرة)
‪محمد أبو صالح:‬ لم يقتصر دور المقام على العبادة، بل مورست فيه طقوس وعادات غريبة أسهم التعليم في اندثارها(الجزيرة)

توطين وتثبيت
ولا تكاد تخلو مدينة أو قرية أو خربة من مقام، يغلب الظن أنها كانت تستخدم لتثبيت وتوطين السكان، وشكلت لاحقا نويّات لإقامة تجمعات حضرية بفلسطين.

وخلافا لمئات المواقع الأخرى غير المعروف أصلها وصحة المتوارث حولها، يؤكد أبو صالح أن النبي إبراهيم الخليل عليه السلام وزوجته سارة مدفونان بالخليل فعلا قبل أربعة آلاف عام، ولهذا كانت تسمية المسجد الإبراهيمي.

وتوجد أيضا قبور إسحق ويعقوب ويوسف وزوجاتهم عليهم السلام، وفق تأكيد الباحث الفلسطيني، استنادا إلى مصادر تاريخية.

وأسوة بعشرات آلاف المعالم والمواقع الأثرية بفلسطين، تعاني المقامات من الإهمال وقليل منها يتم الاهتمام به من قبل بلديات أو مؤسسات محلية، لكنها لا تزال تسجل وقفا بالدوائر الرسمية، ومعها قطعة أرض محددة.

المصدر : الجزيرة