مفقودون بالآلاف تحت أنقاض غزة وأدوات بدائية لانتشالهم

عمر زاسامة تحت الانقاض
تنبيه كتبه أحد أقرباء المفقودين تحت أنقاض منزل في خان يونس (الجزيرة)
تنبيه كتبه أحد أقرباء المفقودين تحت أنقاض منزل في خان يونس (الجزيرة)

بفضل خبر منشور على الصفحة الأولى لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ، انتشرت بسرعة في ألمانيا قصة المصير المأساوي ليوسف أبو جاد الله؛ الطبيب فلسطيني الأصل وأسرته، الذين سافروا من مدينة دورتموند إلى غزة لزيارة أقاربهم، قبل أيام من بدء الحرب، ليلقوا مصرعهم خلالها. فقد نقلت الصحيفة عن لسان أحمد أبو جاد الله  شقيق يوسف -الذي كان يعمل في المدينة الواقعة بولاية شمال الراين وستفاليا- أنه تمكن في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وبعد أسبوعين من البحث، من انتشال جثته وجثة زوجته آية، وأطفالهما صلاح الدين (10 أعوام)، ومحمد (9 أعوام)، وعبد الرحمن (3 أعوام)، وعمر (رضيع)، من تحت أنقاض غرفة المعيشة في منزل العائلة، الذي دمرته غارة جوية إسرائيلية.

الاهتمام والمتابعة اللذان أبدتهما الصحيفة الألمانية المعروفة، وقبلها وزارة الخارجية في برلين، بمصير جثامين عائلة الطبيب أبو جاد الله كونهم يحملون جنسية هذا البلد، لم تحظى بمثله جثامين عائلة أبو شمالة الفلسطينية، التي قضت بدورها في مربع العائلة بخان يونس في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في ظروف مشابهة، وما زالت تقبع تحت الأنقاض.

ففي كل صباح ينتقل ياسر أبو شمالة (51 عاما) من حي الأمل في شمال مدينة خان يونس إلى مخيم خان يونس غربي المدينة، حيث مربع عائلته الذي استهدفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي في 26 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، وأحالته إلى ركام. وبيديه العاريتين يبدأ ياسر بالنبش ورفع الأنقاض، في محاولة جديدة، للوصول إلى ابن عمه أسعد (57 عاما)، الذي اختفى تحت الركام بعد قصف المنطقة.

يرفض الاستسلام

ويرفض ياسر أبو شمالة -الذي استشهد والده ووالدته وأشقائه و22 من أقاربه بالقصف الإسرائيلي على الحي العائلة– الاستسلام. ويريد مواصلة البحث عن أسعد وإخراجه من تحت الركام. وهو رغم مرور الأيام واستمرار الحرب بوتيرة أعلى، لا يزال يعمل بهمة، على أمل العثور على ابن عمه، وتكريمه بدفنه في قبر وفقا لتعاليم الشريعة الإسلامية.

ويعدّ أسعد أبو شمالة واحدا من (7,760) فلسطينيا في قطاع غزة (بينهم 4900 طفل وامرأة) لا يزال مصيرهم مجهولا، وفقا لآخر إحصائية رسمية صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، يوم الأحد 10 ديسمبر/كانون الأول 2023.

وإلى جانب الإحصاءات الرسمية المحلية حول المفقودين، أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن نحو 20 ألف فلسطيني في قطاع غزة بين قتيل ومفقود مع تواصل الحرب الإسرائيلية على غزة.

ووثق المرصد وفقا لبيان له استشهاد ما لا يقل عن 15 ألفا و271 فلسطينيا، من بينهم 6 آلاف و403 أطفال، و3561 امرأة، فضلا عن أكثر من 32 ألفا و310 مصابين منهم، والعشرات بحالة حرجة ولا يتلقون الحد الأدنى من الرعاية الطبية اللازمة بفعل انهيار المنظومة الصحية.

مناطق التوغل

وبيّن  المرصد أن البلاغات عن المفقودين تجاوز عددها 4150 تحت أنقاض المباني المدمرة جراء الهجمات الجوية والمدفعية الإسرائيلية وسط تضاؤل فرص العثور على أحياء، في وقت يعتقد بوجود المئات من المفقودين والجثث في الطرقات يتعذر انتشالهم، لا سيما في مناطق عمليات التوغل البري للجيش الإسرائيلي.

وعن هذه الفئة من المفقودين وجثث الشهداء الملقاة على طرفي شارع صلاح الدين، وثّق الكاتب عاطف أبو سيف مشاهداته لها عند خروجه القسري في 21 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، من مخيم جباليا باتجاه خان يونس في جنوب القطاع على مرأى من الجنود الإسرائيليين. فكتب قائلا " قطعنا 200 متر من الطابور القاهر، ثم وصلنا إلى نهايته، حيث بدأ الطريق مسفلتا، ما أتاح لنا أن نضع العربة على الطريق ودفعها. على جانبي الطريق، كانت السيارات المقصوفة والمحروقة منتشرة، وكانت الجثث المتعفّنة في داخلها تفوح منها روائح الحرب القاتلة. ذراع ممدّدة من نافذة سيارة. ما زال الخاتم في بنصر اليد، وجسد بلا رأس بدأ يتحلل. و3 شبان تتكوّم أجسادهم في مقعد خلفي لسيارة. وجثّة امرأة قرب جذع شجرة الكينيا، ورأس ربما لطفل ليس بعيدا عن يدها الممدودة نحو لحظة عناق مفقودة".

أما أولئك الشهداء الذين لا يزالون تحت ركام المنازل المدمرة، فدون الوصول إليهم من طرف جهاز الدفاع المدني عقبات تجعل العثور على ناجين أحياء من الوقائع النادرة. فالوسائل المتوفرة لجهاز الدفاع المدني الفلسطيني في قطاع غزة بدائية وقديمة جدا، مما يضعف إمكانية العثور على أحياء تحت ركام طبقات الإسمنت المتعددة. وكاستثناء أشبه بالمعجزة، سجلت فعلا واقعة انتشال الطفلة تالا القريناوي حية في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد 4 أيام ظلت خلالها تحت أنقاض منزل العائلة في مخيم النصيرات وسط القطاع، إثر تعرضه لقصف الاحتلال، واستشهاد 23 شخصا من عائلتها.

ويربط رئيس قسم الإطفاء والإنقاذ بجهاز الدفاع المدني في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، النقيب أنيس وافي، بين الإنجازات المتواضعة للجهاز على هذا الصعيد باعتماد عناصره على الجهد البدني في إخراج المفقودين من تحت الأنقاض، مع عدم توفر المعدات المتطورة. وحول وجود فرق متخصصة في الدفاع المدني، يقول، إن "كل شخص في الدفاع المدني مؤهل للتعامل مع المفقودين، ويوجد 120 شخصا في خان يونس مؤهلين (...) وعلى مستوى قطاع غزة من 850 إلى 900 شخص، وغالبيتهم متخصص في البحث عن الجثث والمفقودين". ويرجع عجز الدفاع المدني عن الوصول إلى المفقودين تحت الأنقاض إلى استهداف طواقهم من الجيش الإسرائيلي، وعدم توفر المعدات المتطورة لانتشالهم.

أما أبرز الأدوات المتوفرة حاليا؛ فهي -حسب المتحدث-، "كسارة الباطون، والمولدات الكهربائية".. لكن المعدات المذكورة خرجت عن الخدمة؛ بسبب عدم توفر الوقود. ويضيف أن أي مساعدات (...) لم تدخل" عبر معبر رفح رغم حاجة الجهاز لإمكانات ورافعات ثقيلة من أجل تكسير المباني، والتعامل مع الإبادة في قطاع غزة".

ومع تواضع عدد شاحنات الوقود التي تتيح إسرائيل إدخالها إلى غزة، وتوجيه ما يصل منها لخدمات المستشفيات كأولوية ، طالب الناطق باسم الجهاز في غزة محمود بصل، طواقم الدفاع المدني العربية بالتدخل. ودعاها للمساعدة في حل هذه المعضلة، مشيرا إلى أن الدفاع المدني في القطاع لم يتلق حتى الآن أي مساعدة، كما لم تصله أي كميات من الوقود. وقال: "نحتاج إلى طواقم دفاع مدني عربية تأتي بمعداتها لمساعدتنا"، مضيفا أن أحد عناصر الدفاع المدني قتل جراء قصف إسرائيلي، استهدفه صحبة 4 آخرين يعانون من إصابات مختلفة، أثناء قيامهم بواجبهم شرق رفح جنوب قطاع غزة.

وتوضح كل الصور الحية لقطاع غزة كيف سوّت الغارات الإسرائيلية أحياء بكاملها في الأرض، من أقصى شمال القطاع إلى جنوبه. وعدّ مسؤولون دوليون أن الدمار الذي لحق بغزة كان أكثر "كارثية" مما شهدته مدن ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، بينما أشار آخرون إلى أن غزة لم تعُد "صالحة للعيش".

وتفيد إحصاءات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية ( OCHA) ومنظمة الصحة العالمية ( WHO)  والحكومة الفلسطينية إلى أن الهجمات الإسرائيلية أدت إلى التالي:

  • أكثر من نصف وحدات غزة السكنية (313000) إما دمرت أو أصيبت بأضرار.
  • 352 من المؤسسات التعليمية أصيبت بأضرار.
  • 26 من أصل 35 مستشفى خرجت من الخدمة .
  • 102 سيارة إسعاف أصيبت بأضرار .
  • 203 من أماكن العبادة تعرضت للتدمير أو التلف

ورغم نزوح نحو مليونين من سكان القطاع (85% من إجمالي سكانه) من محافظة أخرى داخل القطاع المحاصر، إلا أن بعض الفلسطينيين فضل العيش بين أنقاض منازلهم على النزوح.

ومع استمرار الحرب واستحالة توفر ظروف مثالية للمنقذين إلى جانب أدواتهم، رأى مدير دائرة الإمداد بالدفاع المدني محمد المغير في تصريحات لمواقع إلكترونية، أن الجهاز يحتاج إلى 4 أو 5 شهور لاستخراج المفقودين من تحت ركام المنازل والعمارات. وشكا المغير من عدم الحصول على أي عون أو معدات لجهاز الدفاع المدني الفلسطيني من الدول الصديقة والمحيطة، أو الولايات المتحدة، أو المؤسسات الإنسانية " بالرغم من الاستمرار برفع المناشدات".

فئة جديدة

ثمة فئة مختلفة من المفقودين الفلسطينيين أفرزتها الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، هم أولئك الذين اختفوا قسريا خلال مرورهم بالنقاط العسكرية الإسرائيلية أثناء تحركهم جنوبا، ولم يظهر لهم أثر منذ ذلك الحين، ولم تحدد الهيئات الدولية مصائرهم، وإن كانوا أحياء أو شهداء. فالحاجز الذي وضعه الجيش الإسرائيلي على مدخل مدينة غزة اعتقل الآلاف من الفلسطينيين، وأخفاهم بشكل قسري، ومنع عائلاتهم من التواصل معهم ومعرفة مصيرهم.

أحمد عليان هو أحد سكان أبراج الندى شمال قطاع غزة الذي اضطر هو ووالدته ووالده مع شقيقاته للنزوح إلى جنوب قطاع غزة، طلبا للأمن وهربا من الموت، لكن آثاره فُقدت بعد اعتقاله على حاجز وضعته قوات الجيش الإسرائيلي على أطرف مدينة غزة الجنوبية. تقول أم أحمد، "أذهب كل يوم للمستشفيات والمدارس ومنطقة الحاجز على أمل إطلاق سراح ابني أو العثور عليه حيا، ولكن لم أجده حتى الآن". وتؤكد أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تخبرهم بمصير ابنها أحمد ولم تساعدهم بأي شيء. وتقول"أدعو الله في كل وقت أني يريحني وأعرف مصير ابني".

يُقدّر رامي عبدو رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، عدد المعتقلين عبر حاجز النزوح من 400 إلى 500 شخص، حتى الآن. ويقول للجزيرة نت، "هذا الحاجز تحوّل إلى مصيدة للاعتقال والتنكيل، وعمليات القتل خارج نطاق القانون".

فريق العمل:

إعداد وتحرير: محمد العلي، محمد أبو شحمة

تصاميم وإنفوغراف: محمد الحداد

المصدر : الجزيرة