صناعة الخوص في العراق تقاوم الزمن

علاء كولي-ذي قار

رغم اندثار صناعة الخوص ( سعف النخيل) في محافظة ذي قار جنوب العراق، لا يزال فيصل دخل (73 عاما) يحتفظ ببعض من إرثها في بستان عائلته المتوارث من أكثر من مئة عام، حينما كانوا يعملون بشكل يومي في هذه المهنة.

ويحتفظ دخل ببعض الأعمال اليدوية التي لا يزال يصنعها أحفاده للاستخدامات المنزلية، كالمكنسة والطبك (الطبق) الذي يوضع عليه الخبز.

‪(الجزيرة)‬ البدء بقطع السعف لعمل الخوص
‪(الجزيرة)‬ البدء بقطع السعف لعمل الخوص

أقدم المهن
وصناعة الخوص من أقدم المهن التي عرفها السكان في جنوب العراق، ومنها كان الناس قد عرفوا كيف يستثمرون النخيل في حياتهم اليومية، بصناعة الكثير من المنتجات التي صارت لاحقا إرثا تاريخيا وحضاريا يوثق مرحلة انتعاش الحياة وازدهارها لدى العراقيين.

ولم تخلُ البيوت القديمة التي بنُيت في كنف بساتين النخيل من امتهان هذه الحرفة، فكان الرجال والنساء يتشاركون في الكثير من الأعمال لصناعة الأسرّة والكراسي والأقفاص والقدور وحافظات التمر والخبز وغيرها من المواد.

ويعتبر فيصل دخل وإخوته من القلة الذين لا يزالون يعملون بشكل بسيط في صناعة بعض الأعمال الحرفية المتعلقة بالخوص، وذلك بعد بحث استمر أياما لاقتفاء آثار من يعمل بهذه الحرفة في محافظة ذي قار، ولعله الوحيد الذي لا يزال يعتز بهذه الحرفة رغم المنافسة القوية التي يواجهها من المواد المستوردة من الخارج.

يقول دخل إنه تعلم حرفة خواصة السعف عن طريق والده الذي تعلمها هو الآخر من أجداده، بعد أن كانوا يقضون ساعات طويلة في صناعة الكثير من المواد، ولا سيما تلك التي تتطلب جهدا ووقتا طويلا لإكمالها، مثل الكراسي والحصيرة والطبك وبعض المنتجات الأخرى.

وعلى الرغم من أن صناعة خوص السعف في محافظة ذي قار كانت تنتشر في مناطق عدة من مدنها خلال سنوات طويلة، فإنها تلاشت خلال السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وهجر الناس هذه المهنة التي لطالما كانت سندا لهم أيام الحصار وسنوات القحط والجوع التي مرت على العراقيين.

لكل سعفة منتج معين (الجزيرة)
لكل سعفة منتج معين (الجزيرة)

طريقة عمل الخوص
وتمرّ عملية صنع الخوص واختيار السعف المناسب بعدة مراحل، كما يقول للجزيرة نت أبو عباس الذي يسكن جنوب الناصرية، بعد أن كان يجمع سعف النخل لجدته التي كانت تصنع الخوص قبل أكثر من عشرين سنة.

وجمع السعف -كما يروي أبو عباس- هو الخطوة الأولى، ثم يتم فرزه وتصنيفه لعمل كل منتج، فليس كل سعفة يمكن أن تدخل في الخواصة، فسعفة "القلبة" تكون "للمهفة" (المروحة اليدوية)، أما السعف الباقي فيكون من أجل "البل" (نوع من الحصير يفرش على الأرض)، والطبك الذي يوضع عليه الخبز (نوع من الصواني).

ولا يمكن لكل سعفة أن تكون مناسبة لصناعة حصيرة أو طبك أو سفرة الطعام، إذ لكل سعفة شروطها، فصناعة الحصيرة تكون أولا بخرط السعف، ثم يتم وضعه تحت أشعة الشمس يومين أو ثلاثة، ثم يوضع في الماء، ومن ثم يتم صفه وترتيبه بحسب الحجم، وعادة ما تجلس النساء لذلك بشكل متعاقب.

عبد الرزاق قال إن المنقبين عثروا على أدوات كان يستخدمها العراقيون القدماء في صناعة الخوص (الجزيرة)
عبد الرزاق قال إن المنقبين عثروا على أدوات كان يستخدمها العراقيون القدماء في صناعة الخوص (الجزيرة)

حرفة سومرية
ورغم عدم وجود أية وثائق أو أدلة عن تاريخ ظهور مهنة خوص السعف، فإن الباحثين يرجحون أنها تعود إلى عصر السومريين، أي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.

وتعتبر النخلة من الأشجار المقدسة في تاريخ العراق القديم، وهناك رسوم لها في الألواح المسمارية القديمة وفي الأختام، وتحديدا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وكانت تسمى في السومرية والبابلية بـ"دشماروا"، كما يقول الباحث والمنقب الآثاري عامر عبد الرزاق للجزيرة نت.

ويؤكد الآثاري عبد الرزاق أن العراقيين القدماء استخدموا خوص السعف منذ وقت مبكر من نشوء الحضارة في وادي الرافدين لحفظ التمور وفي صناعة الفرش، وعثر المنقبون العراقيون والأجانب على عدد كبير من الأدوات التي كان تستخدم لصناعة سعف النخيل.

وتختلف المصنوعات التي ينتجها سكان جنوب العراق العاملين في صناعة خوص السعف، عن السكان والعاملين فيها في مناطق الفرات الأوسط وبغداد، ففي مناطق الفرات الأوسط ينتجون أقفاص الطيور والأسرّة والكراسي، وغالبا ما يصنعها الرجال في ورشات خاصة، إلا أنها أصبحت شبه معدومة.

ويقول الباحث في التراث ماجد السفاح للجزيرة نت إن أهم المواد التي ينتجها من يمتهن حرفة الخواصة، هي الحصائر والمهفات (المراوح اليدوية) والمكانس والأطباق والحلان (أوعية) لكبس التمور والسلال والحبال، وكذلك "القفة" الكبيرة التي يتم طلاؤها بالقير وتستخدم لعبور نهري دجلة والفرات.

زراعة النخيل تزدهر في محافظة ذي قار (الجزيرة)
زراعة النخيل تزدهر في محافظة ذي قار (الجزيرة)

أسباب الانحسار
وشكلت الحروب التي خاضها العراق منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي وحتى عام 2003 نقاط تحول في مهنة خواصة السعف، فالحرب قد اقتلعت آلاف النخيل الذي كان الناس يعتمدون عليه، فضلا عن الإهمال المتلاحق للزراعة، وهو ما دفع الناس إلى اختيار وسائل أخرى في حياتهم.

ويذكر رئيس الجمعيات الفلاحية في ذي قار مقداد الياسري -في حديث للجزيرة نت- أن هذه المهنة قد تراجعت منذ سنوات عديدة في أغلب مدن المحافظة لتضمحل أخيرا وتتحول إلى مجرد ذكرى، وفي بعض الأحيان يتم عمل أشياء بسيطة تستخدم لمحبي التراث، مثل الأطباق وسفرة الطعام، كما يقول .

وليست مهنة خوص السعف هي الوحيدة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، فهناك الكثير من المهن والحرف التي جرفها المد الهادر للمواد المستوردة.

المصدر : الجزيرة