أوراق قديمة ومقتنيات معطلة.. قصة "متحف بابا" الذي خلد ذكرى الراحلين

متحف بابا
أغراض بسيطة تحولت إلى مقتنيات قيمة في "متحف بابا" (مواقع التواصل)

آيات جودت

وجد نفسه فجأة أمام كنز تركه له والده الراحل، لم يعلم ماذا يفعل به، حتى قرر في النهاية أن يشارك هذه المقتنيات على فيسبوك لكي يستمتع بها من يحب، ليجد مفاجأة مدهشة أمامه لم يكن يتوقعها أبدا.

بدأ الفنان التشكيلي المصري هاني راشد عرض مقتنيات والده الراحل على الصفحة التي أنشأها عبر فيسبوك منذ عام 2013، ولاقت الصفحة استحسانا لم يدم وقتا طويلا، لانشغال المجتمع المصري بما يحدث على الساحة السياسية، فاضطر إلى إيقاف مشروع الصفحة مؤقتا، حتى مطلع العام الجاري، حين أعاد إحياء الصفحة مجددا ليفاجأ بإقبال الجماهير عليها بشكل لافت، بعد أن أثارت فيهم الحنين إلى الماضي.

زجاج وأوراق وأقمشة
بعد وفاة "صلاح راشد" والد "هاني" عام 2002، وجد الابن نفسه أمام تركة كبيرة تركها له والده، هذه التركة لم تكن نقودا أو أغراضا غالية الثمن، ولكنها أفضل من كل ما سبق.

فقد كان الأب يجمع الأغراض المفقودة في الشارع، أو يبحث عنها في الأسواق الشعبية، أو حتى تلك التي يهديها أحدهم له، وفي نهاية كل شهر كان يفرغ ما جمعه ويفرزه ويصنفه، ثم يضعه في علب مقسمة حسب الخامة المستخدمة أو الغرض الذي تؤديه، وكان يصنّف المقتنيات ويضعها في علب منفردة، وتتراوح بين الحديد والزجاج والجلد والأوراق والأقمشة وحتى الحجر.

كانت هذه المقتنيات نفيسة للغاية عند الوالد رغم كونها غير ذات قيمة مادية تذكر، ولم يجعل أطفاله وقتها يقتربون منها، وإنما يكتفون فقط بمشاهدتها، وكان يعتز بمقتنياته، فكان يريها لزواره ويتباهى بها. ترك صلاح بعد وفاته هذا الإرث لابنه، لتتحول هذه الأغراض بمرور الوقت إلى قيمة عاطفية كبيرة.

ظل هاني خمس سنوات لا يعلم ما الخطوة الصائبة لإنشاء المتحف الذي يضم مقتنيات والده الراحل، حتى استقر أخيرا على عرض المقتنيات على صفحة بفيسبوك تحت اسم "متحف بابا"، الذي حاول من خلاله إيجاد علاقة جديدة للأمور البسيطة التي تركها الراحلون.

اكتشاف طريقة لإعادة التواصل
هذه الأغراض كانت تبدو كأنها بلا قيمة على الإطلاق، فكلها مكسورة أو معطّلة ولا يمكن الاستفادة منها بأي شكل، ولكنها كانت الرابط الوحيد المتبقي، ليكتشف مع متابعيه أن الأشياء التي ترمى بشكل يومي دون انتباه منا قد تصبح بعد سنوات كثيرة هي الرابط بين من رحلوا عن الحياة وأحبائهم الذين يشتاقون إليهم.

كان الوالد صلاح راشد موظفا بماسبيرو (مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي المصري)، وعندما عرض ابنه هاني بعض رسومه في الصفحة أشاد الجميع بها، وأشاروا إلى أنه بالتأكيد حصل على موهبته الفنية من والده، الذي لم يعاصر زمن انتشار الإنترنت وذيوع استخدام منصات التواصل الاجتماعي، فلم يستطع عرض أعماله بشكل ملائم، ولهذا وجد هاني في هذا المتحف الإلكتروني فرصة ذهبية لإعادة إحياء رسوم والده، ووجد في هذا الأمر طريقة فريدة ليتواصل مع والده الراحل.

متحف مواز لمشاركات الأعضاء
حين بدأ هاني صفحته لم يتوقع لها كل هذا النجاح، فشهد تفاعلا من الأعضاء منذ بدايتها، حتى وجد نفسه يفتتح معرضا موازيا على الصفحة، وتضم مشاركات الأعضاء وصور مقتنيات أحبائهم الراحلين عن الحياة، ووجد "راشد" في هذا المتحف الموازي طريقة لاستمرارية فكرة المتحف، لأنه مهما كثرت مقتنيات والده فهي ستنتهي يوما ما، وبهذا يستطيع أن يستمر هذا المشروع فترة طويلة بمشاركات الأعضاء، رغم أن هاني لم يعرض كل مقتنيات والده بعد. 

رحب أعضاء الصفحة بألبوم المتحف الموازي، وتأثروا برؤية هذه المقتنيات لأنها كلها أغراض كانت موجودة بشكل أو بآخر في المنازل المصرية، وحتى إن اختلف المعروض عن الأغراض المملوكة للمتصفحين، فإن المشترك دائما في كل الصور هو الطاقة النابعة من الأغراض التي تركها المتوفون، والتي يستشعرها من فقدوا أحبتهم. وعلى جانب آخر، فإن تلك المقتنيات ترسم تاريخا حيا للأغراض التي اعتاد المصريون استخدامها أو وضعها في منازلهم في عصور معينة.

أخيرا انتقل "متحف بابا" من فضاء الإنترنت إلى أرض الواقع، ونال "هاني" فرصته في عرض مقتنيات والده في معرض "سرديات يعاد تخيلها" التابع لمؤسسة "آرت دي إيجيبت"، المقام ببيت السحيمي في شارع المعز، وهي مصادفة تلائم فكرة المتحف، حيث إن كلا من مكان المعرض وجوهر المتحف يدوران حول فكرة التاريخ والحنين إلى الماضي.

يفتح المعرض يوميا من الساعة التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء، ويستمر حتى التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

المصدر : الجزيرة