محاكم التفتيش البوذية

تصميم حريات وحقوق: العنوان: محاكم التفتيش البوذية - الكاتب : صلاح عبدالشكور

صلاح عبد الشكور*

عرفت القرون الوسطى في أوروبا "محاكم التفتيش" التي صنعها أرباب الكنيسة النصرانية لمحاربة من اعتبروهم مرتدين أو مهرطقين، وراح ضحية هذه المحاكم عشرات الآلاف من المسيحين الذين خرجوا عن تعاليم الكنيسة أو حاولوا بشكل أو بآخر أن يتخذوا من العلم والمعرفة طريقاً للتنوير وتغيير الواقع.

ويكفي هنا أن ننقل ما سطره غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" عن محاكم التفتيش، حيث يعبر عن بشاعة هذه المحاكم حيث يقول: "يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع. واقترح القس بليدا قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي".

ثم انتقلت هذه المحاكم بكل فظاعاتها إلى الأندلس، ومورس بحق المسلمين أبشع ما عرفت البشرية من أساليب القمع والتعذيب والتنكيل بشكل همجي بربري منقطع النظير، فأزهقت أرواح مئات الآلاف من المسلمين تحت غطاء ديني مسيحي، وستظل هذه المحاكم عاراً يلاحق المسيحية إلى أبد الآباد.

إذا تتبعنا حالة محاكم التفتيش في تلك الحقبة، ورصدنا ما يجري على مسلمي الروهينغا بميانمار وخاصة في السنوات الأخيرة، نلاحظ أن ثمة أوجه شبه عديدة وبشكل متقارب جداً. فولاية أراكان التي كانت دولة مستقلة قبل الاحتلال البورمي لها، يعيش فيها نحو مليوني مسلم ينتمون إلى عرقية الروهينغا، إحدى الأقليات التي تعتبرها الأمم المتحدة من أشد الأقليات اضطهادا في العالم.

وهذا التصريح الأممي بحق شعب الروهينغا لا بد أن يعرف العالم زواياه وخفاياه وما معنى أن يصنف هذا الشعب من أشد شعوب العالم اضطهاداً في العالم، وبالتأكيد هنالك عدة جوانب مأساوية وخفية وراء هذا التصنيف الأممي لشعب الروهينغا، منها: تعرضهم إلى الجرائم الممنهجة التي يمارسها البوذيون من حرق للقرى وهدم للمنازل وقتل عشوائي وحظر مستمر للتجول ومنع التجمع ومصادرة الأراضي والمزارع والمنع من التكسب وعمليات الاغتصاب وأعمال النهب والسرقة وملاحقة العلماء وطلبة العلم وإغلاق المساجد والمدارس، وغير ذلك من أعمال العنف التي تمارس بشكل يومي على أفراد هذا الشعب.

وليس بخاف على أي مطلع أن حكومة ميانمار شريكة أساسية في كل ما يحدث، حسبما صرحت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير أصدرته جاء فيه أن قوات الأمن البورمية ارتكبت أعمال قتل واغتصاب واعتقالات جماعية في حق مسلمي الروهينغا بعد أن أخفقت في حمايتهم وحماية البوذيين الأراكان أثناء أحداث العنف الطائفي الدامية غربي بورما في يونيو/حزيران 2012.

حوّل الرهبان البوذيون ومليشيات الطوائف البوذية ولاية أراكان إلى سجن كبير للروهينغا، فوضعوا قيودا صارمة على تحركات المسلمين، وفرضوا قوانين تعسفية تمنع التنقل بين القرى والتجمع في المناسبات الدينية، ومنعوا المسلمين من ذبح الأضاحي

سجن كبير
حوّل الرهبان البوذيون ومليشيات الطوائف البوذية -وبدعم كامل من حكومة ميانمار- ولاية أراكان إلى سجن كبير للروهينغا، فوضعوا قيودا صارمة على تحركات المسلمين، وفرضوا قوانين تعسفية تمنع التنقل بين القرى والتجمع في المناسبات الدينية، ومنعوا المسلمين من ذبح الأضاحي وأحرقوا عددا كبيرا من المساجد الأثرية القديمة وما تبقى منها أغلق بأوامر بوذية، وبعد أحداث الإبادة الممنهجة التي وقعت عام 2012 صنع البوذيون والحكومة الميانمارية سجنا أضيق داخل ولاية أراكان وحشروا فيه الروهينغا حشرا بطريقة غير إنسانية.

ولكن هذه المرة بحجة أنهم دخلاء بنغاليون بعد أن نزعوا منهم المواطنة ليصبحوا بعد ذلك هدفا سهلا لهجمات المتطرفين البوذيين، ويتنصلوا من أي محاسبة قانونية أو دولية. هذا السجن الجديد هو ما يعرف بمخيمات النازحين في منطقة أكياب (سيتوي) الساحلية، حيث طوّق النظام الميانماري أكثر من 150 ألف روهينغي في منطقة ساحلية خالية تفتقد لأدنى مقومات الحياة، وفرض عليهم العيش في تلك المنطقة النائية دون أن يقدم لها أي معونات أو مساعدات إنسانية، وشكّل حولهم طوقاً أمنياً من الجيش وقوات حرس الحدود، وأصبح هؤلاء داخل هذا السجن المغلق في وضع مزرٍ للغاية وخاصة بعد منع الحكومة الميانمارية السماح للقوافل والمنظمات الإغاثية ووسائل الإعلام الدخولَ إليهم.

ولقد حدثني بعض من كانوا في هذا السجن وتمكنوا من اللجوء إلى بعض دول آسيا أن هذه المخيمات مصنوعة من القش والبلاستيك الذي لا يقيهم من الحر والقر، والحكومة الميانمارية لا تقدم لهم أية مساعدات سوى بضعة أكواب من الرز يومياً، ولا يستطيع أحد الخروج من هذه المخيمات، ومن يمرض فإما أن يموت وإما أن يدفع رشى طائلة لقوات حرس الحدود ليسمحوا له بالخروج.

وهنالك داخل هذا المخيم (السجن) تنتشر الأوبئة وتستغل القوات الحكومية حاجة أهالي المخيمات ليقوموا بعمليات ابتزاز واغتصاب مستمرة.

اعتقالات تعسفية
خلال السنوات الأخيرة، اتسعت دائرة اعتقالات مسلمي الروهينغا بشكل ملفت وخطير للغاية، وتكمن خطورة هذه الاعتقالات في كونها تتم بطريقة سرية ومنظمة ودون توجيه أي اتهام واضح، ولا يستطيع أحد من ذوي المعتقل أن يستفسر أو يسأل عن حال وسبب الاعتقال، فضلاً عن مصيره.

وقد رصدت تقارير حقوقية أن حالات كثيرة جدا من حالات الاعتقال في صفوف الروهينغا تنتهي إلى المجهول واختفاء الأثر نهائيا دون أن يستطيع أحد السؤال عن المفقود، وتفيد مصادر صحفية أن السلطات الأمنية بميانمار بدأت بملاحقة علماء الدين وطلاب الشريعة في مقاطعة أراكان وزجت بعشرات منهم في السجون.

وأفاد مراسل وكالة أنباء أراكان أن القوات البورمية صعّدت مؤخرا من وتيرة اعتداءاتها على الروهينغيين جنوب مدينة منغدو وإهانتهم بالضرب والاعتقال العشوائي والابتزاز المالي في أي مكان تصادفهم فيه. وأضاف المراسل أن العشرات من قوات الأمن البورمية تشكل مجموعات لتنفيذ مداهمات ليلية ضد الروهينغا في منازلهم وتقوم خلالها باعتقالات عشوائية، وتحتجز المعتقلين في السجون الحكومية لمدد تتراوح لأيام وربما لأسابيع قبل أن يتم افتداؤهم من قبل ذويهم بمبالغ مالية باهظة في ظل الفقر المدقع الذي يعانون منه، إضافة إلى الحصار الاقتصادي والتضييق المفروض عليهم من قبل السلطات منذ 2012.

وتشير بعض التقارير الحقوقية إلى وجود أكثر من سبعة آلاف سجين روهينغي حاليا في سجون أراكان، تدور معظم التهم الموجهة إليهم حول عدم اعترافهم بالعرقية البنغالية، وبعضهم بتهمة المطالبة بحقوقهم المسلوبة كحق المواطنة والتعليم وغيرها.

تدخل أسياخ الحديد إلى الأعضاء الحساسة للرجال والنساء، ما يؤدي في كثير من الحالات إلى اضطرابات حادة في أداء وظائفها الطبيعية، وهو ما ينتهي غالبا بالوفاة بعد سلسلة من المعاناة الطويلة.

تعذيب وحشي
ومن أسوأ الجرائم المرتكبة داخل أماكن الاحتجاز والسجون الميانمارية: التعذيب الوحشي المتواصل بحق السجناء، حيث أفاد شهود عيان في خبر نشرته وكالة أنباء أراكان أن السلطات البورمية تمارس أبشع أنواع التعذيب ضد الروهينغا في السجون الحكومية بما في ذلك إدخال أسياخ الحديد في الأعضاء الحساسة للرجال والنساء، مما يؤدي في كثير من الحالات إلى اضطرابات حادة في أداء وظائفها الطبيعية، وهو ما ينتهي غالبا بالوفاة بعد سلسلة من المعاناة الطويلة.

وأشار الخبر إلى أن حكومة ميانمار تتشدد في منع الوفود السياسية والمنظمات الحقوقية من زيارة السجناء الروهينغيين وتفقد أحوالهم داخل السجون الحكومية إلا في حالات نادرة ووفق ظروف خاصة. ونقلت الوكالة في خبر آخر حالة معتقل روهنغي يدعى محمد شفيع عالم (34 عاما) قضى في سجن مدينة بوسيدنغ في أراكان جراء التعذيب الجسدي مع الأعمال الشاقة لساعات طويلة بعد أربعة أشهر قضاها داخل السجن منذ اعتقاله من قبل الشرطة البورمية من داخل مسجد في مدينة راسيدونغ بتهمة مخالفة أوامر الحكومة بعدم فتح المساجد وأداء الصلاة فيها، وفقا لمصدر مطلع من داخل السجن، موضحا أن السلطات البورمية حاولت تمويه السبب الحقيقي لوفاته وزعمت أنه توفي بسبب أمراض مزمنة كان يعاني منها.

وبحسب مصادر صحفية يوجد الكثير من الحالات المشابهة داخل سجن بوسيدونغ، الذي يقبع فيه مئات المعتقلين الروهينغيين ويعيشون في ظل ظروف وحشية وأوضاع إنسانية كارثية، ويتعرضون للضغط النفسي والتعذيب الجسدي وفرض الأعمال الشاقة عليهم لساعات طويلة متواصلة تتجاوز 12 ساعة في بعض الأحيان.

المنظمات الحقوقية.. الحاضرة الغائبة
وبعد هذه التجاوزات والاختراقات لحقوق الإنسان الروهينغي، ومع تفاقم الأزمة داخل أراكان وسلب الحقوق؛ يتبادر إلى السطح سؤالان: أين غابت المنظمات الدولية لحقوق الإنسان عما يحدث لشعب الروهينغا؟ ومتى سيتم إطلاق سراح هذا الشعب من سجنه الكبير لينعم بالعيش والاستقرار والحياة مثل باقي البشر؟

——–
* مدير المركز الإعلامي الروهينغي

المصدر : الجزيرة