بعد 1000 يوم.. ماذا تحقق لقطر؟ وما الذي خسرته دول الحصار؟

خالد الخاطر الباحث المتخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي
الخاطر: فشلت دول الحصار وفشل الحصار نفسه وأدى إلى نتائج عكسية (الجزيرة)

الدكتور خالد الخاطر*

لقد فشلت دول الحصار وفشل الحصار وأدى إلى نتائج عكسية، فهدف دول الحصار كان هو كبح جماح صعود قطر والحد من استقلاليتها ووضعها تحت الوصاية السعودية ووصاية دول الحصار، وتأكدت هذه الرغبة الجامحة لدى دول الحصار بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وتباين مواقف دول الحصار منه مع موقف قطر.

ولتحقيق ذلك كان لا بد من كسر قوة قطر الاقتصادية، سواء كان ذلك:

– من خلال الحرب الاقتصادية على قطر ومحاولات ضرب العملة وزعزعة الاستقرار المالي والاقتصادي للبلاد، ثم زعزعة استقرار النظام وإسقاطه.

– أو من خلال الحصار بشكله الأوسع عن طريق تدمير كل ما يغذي صعود قطر من موارد ويرمز له من مظاهر قوة صلبة كانت أم ناعمة، اقتصادية كانت كثروات قطر الطبيعية، واستثماراتها الخارجية، والخطوط الجوية القطرية، أم إعلامية كقناة الجزيرة الفضائية، أرياضية أو رمزية كتنظيم قطر بطولة كأس العالم لكرة القدم، وهي الأهم على المستوى العالمي لأول مرة في الشرق الأوسط، بما لذلك من دلالات على قدرات قطر المالية والتنظيمية وتأثيرها العالمي ومستوى الثقة الذي نالته.

القوة الاقتصادية تعزز الاستقلالية السياسية
إن في القوة الاقتصادية قوة سياسية واستقلالية في القرار السيادي، والأمثلة على ذلك كثيرة، قارن مثلا بين قطر والبحرين، فالبحرين منزوعة السيادة ولا تخرج من العباءة السعودية وجزء كبير من ذلك بسبب الضعف الاقتصادي والحاجة.

لكن الذي حدث في حالة قطر كان هو العكس، فعوضا عن أن يضعف الحصار الاقتصاد القطري أدى إلى تقويته عبر اعتماده أكثر على الذات، والحد من الانكشاف على دول الحصار، وتنويع الإنتاج والشركاء الاقتصادين، وتقوية علاقات البلاد الجيواقتصادية، والمضي قدما في بناء اقتصاد قوي بمعزل عن جيران لا يمكن الوثوق بهم لتجنب التعرض للصدمات وزعزعة الاستقرار الاقتصادي مستقبلا.

السياسات المضادة للحصار
للمزيد من الإيضاح فقد تبنت قطر نوعين من السياسات المضادة للحصار.

أولا: سياسات في الأجل القصير لمواجهة أثر الصدمة وتعزيز استقرار قطاع الاستيراد والقطاع المالي من خلال الدعم والتدخل المباشر وتحويل خطوط ومصادر الإمداد إلى وجهات بديلة، وتوسعت الطاقات التخزينية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي لضمان تدفق السلع بالأسعار المناسبة، والتدخل بضخ سيولة في القطاع المالي للتعويض عن خروج رؤوس أموال وتعزيز استقرار العملة والاستقرار المالي.

 

ثانيا: سياسات على الأجلين المتوسط والطويل، وتركزت حول تنويع الاستيراد والإنتاج وتقوية علاقات قطر الاقتصادية والجيو اقتصادية، ففي القطاعين الحقيقي والخارجي على سبيل المثال تبنت قطر مجموعة من السياسات لدعم الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات الخفيفة وجذب السياحة والاستثمار، وتنويع الشركاء الاقتصاديين.

وهي مستمرة في برامج البنى التحتية وكأس العالم، وفي مراكمة وتنويع الاستثمارات الخارجية وزيادة إنتاج الغاز الطبيعي لدعم الاحتياطات والثقة والنمو، وربط صادرات قطر واستثماراتها بدول مؤثرة على الساحتين الاقتصادية والسياسية العالمية، لبناء علاقات على مصالح مشتركة مع هذه القوى.

ويبقى قطاعا النقل والسياحة الأكثر تضررا بالحصار نظرا لظروف الجغرافيا، وقد تبنت قطر في هذا الصدد سياسات لجذب السياحة ودخلت في شراكات مع بعض خطوط الطيران العالمية الأخرى.

هذه السياسات أدت إلى إحباط الحصار، ومرونة أكبر في الاستيراد، وتنوع أكثر في الإنتاج وانكشاف أكبر على العالم وأقل على دول الحصار، وبالتالي أدت إلى المزيد من القوة الاقتصادية، ثم المزيد من الاستقلالية السياسية.

هل كانت قطر مستعدة لهذا الحصار؟
نستطيع القول إن قطر كانت مستعدة تلقائيا إلى حد كبير، لعاملين هما: ضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول مجلس التعاون، وصلابة الاقتصاد القطري في مواجهة الحصار.

أولا: إن ضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول الحصار لا يوفر لهذه الدول الأدوات المطلوبة لفرض حصار اقتصادي ناجح على قطر، فهذه الاقتصادات ضعيفة هيكليا، بمعنى أنها جميعها مختصة في استخراج مورد واحد وهو النفط، وتصديره للعالم الخارجي، وبالمقابل استيراد ما تحتاج إليه من سلع استهلاكية ورأسمالية وعمالة من الخارج عبر البحار والأجواء الدولية المفتوحة.

لذلك لا يوجد لديها الكثير مما يمكن أن تتبادله فيما بينها أو ما يمكن تضغط به على قطر من خلال الحصار التجاري، وقد ظلت التجارة البينية في دول المجلس تراوح مكانها عند 10% لعقود من الزمن، ففشل التكامل التجاري الخليجي، بل وفشل التكامل الاقتصادي الخليجي في معظم المجالات الأخرى-الطاقة، الصناعة، المواصلات، العملة وغيرها لم يتح لدول الحصار البيئة الاقتصادية المواتية لفرض حصار اقتصادي مجد على قطر، وخفض تكلفة الحصار على الطرفين.

فلا توجد منظومات وحدوية -كاتحاد نقدي أو اتحاد للطاقة مثلا- يخشى أن يؤدي انهيارها إلى فقدان بعض المكاسب أو خسائر أو زعزعة الاستقرار الاقتصادي الخليجي، بل لو كانت مثل هذه المنظومات الوحدوية قائمة قبل الحصار لربما شكلت موانع ضد فرضه من الأصل.

ورب ضارة نافعة لقطر، فعندما أفشلت المملكة العربية السعودية التكامل الاقتصادي الخليجي في عدة مجالات -منها مد جسر بين قطر والبحرين، وربط دول المنطقة بمحطة توليد عملاقة للطاقة الكهربائية وعرقلة تسويق الغاز القطري على المستوى الخليجي- فتح ذلك الأفق واسعا أمام تسويقه على المستوى العالمي، فأصبحت قطر عملاقا في الطاقة والمنتج والمصدر الأول للغاز الطبيعي المسال في العالم، حيث تمده بثلث احتياجاته منه، لذلك أصبح استقرارها مهما للإمدادات الطاقة واستقرار سوق الغاز العالمية، والنمو في العديد من الدول والقوى الاقتصادية عبر العالم.

ثانيا: صلابة الاقتصاد القطري نتيجة تبني سياسات سليمة أسست لبنى إنتاجية وتحتية واستثمارية شكلت أذرعا لكسر الحصار، فقطر تبنت مبكرا سياسات اقتصادية كلية سليمة لاستغلال الموارد الطبيعية الضخمة وبناء اقتصادي حقيقي قوي وقادر على امتصاص الصدمات خلال عقدين قبل فرض الحصار وذلك من خلال الاستثمار في:

– تشييد بنى إنتاجية من خلال تأسيس أكبر بنية تحتية لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال في العالم، وهذا شكل مصدر دخل مستقر لقطر إلى حد مقبول خلال الأزمات السابقة وخلال هذه الأزمة.

– بنى تحتية حديثة ومتطورة من شبكة اتصالات ومواصلات وموانئ ومطار تربط قطر بالعالم الخارجي وتساعدها على تجاوز الحصار والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية والبديلة.

– بنى استثمارية لمراكمة واستثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتوزيعها جغرافيا واقتصاديا (عبر الأصول المالية والحقيقية، كالنفط والصناعة وغيرها) لتستخدم لإدارة الدورة الاقتصادية وتعزيز الاستقرار الاقتصادي في أوقات الركود والأزمات، بالإضافة إلى تنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الأجيال، وتقوية علاقات قطر وربط صادراتها واستثماراتها بقوى مؤثرة عالميا.

– تبني سياسات احترازية كلية (متحفظة) معاكسة للدورة المالية لتحصين القطاع المالي مبكرا مع بداية ارتفاع أسعار النفط وبداية الدورة المالية، وذلك خلال عامي 2003 و2004، وهذه السياسات حصنت القطاع المالي ضد الصدمات والأزمات المالية السابقة والراهنة.

وإجمالا يمكن تصنيف السياسات الاقتصادية التي تبنتها قطر إلى نوعين:

– سياسات اقتصادية سليمة قبل فرض الحصار.

– سياسات اقتصادية سليمة مضادة للحصار بعد فرضه.

وهذه السياسات والبنى التحية تؤتي أكلها الآن، وتشكل روافد لدعم استقرار الاقتصاد القطري في وجه الحصار، كما أنها أدت إلى مزيد من القوة والاستقلالية الاقتصادية وبالتالي مزيد من الاستقلالية السياسية.

____________

* مختص في السياسة النقدية والاقتصاد السياسي بمركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي الجديد في جامعة كامبريدج البريطانية.

المصدر : الجزيرة + دويتشه فيله