الجزيرة نت تحاور الشاعر والكاتب والمسرحي اللبناني عيسى مخلوف عن الشعر والكتابة والثورة والسياسة

يرى الكتابة محصلة تجربة داخلية والاغتيالات السياسية تجرد بيروت من دورها الريادي وتجعلها دولة استبدادية

الكاتب عيسى مخلوف يلقي محاضرة بمعهد العالم العربي بباريس (الجزيرة)

ما زال الكاتب اللبناني عيسى مخلوف منذ كتابه الأول "نجمة أمام الموت أبطأت" الصادر في بيروت سنة 1981، يجدف عكس التيار، ويغرد خارج السرب، وينفر من التصنيف، ويمتهن الحكمة والتأمل الفلسفي والصوفي، ويحترف الكتابة القائمة على المحو والنحت والرمزية والتكثيف.

بوصلته في كل ذلك إحساسه الشعري المرهف الشفاف، وحبه الحروف والكلمات، وتوحده مع لغة الزهور والعصافير والفراشات، وتصيده وقع خطوات الروي والقوافي والبحور مع نسمات الفجر الأولى وهطول الزخات وتفتح الصباحات.

لذلك كله أدمن هذا الطفل الحالم الشاعر والمتصوف الأخير هذا الهذيان اللغوي المكثف الجميل، أملا في بلوغ عالم الجوهر الصعاد، واستحضارا لنظرية المتصوفة وقول النفري "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وبحثا عن "أثر الفراشة الذي لا يرى ولا يزول.. في رحلة استدراج واستكشاف المعنى"، على حد تعبير محمود درويش.

ويحضر بقوة في كتابات عيسى مخلوف قاموس الغربة والفقد والسفر والترحال والهجرة والمنفى واللجوء والبحث عن الذات والهوية، ولا غرو في ذلك؛ فالشعر سفر دائم في الذات وفي الواقع، وتغريبة روحية أبدية نحو المجهول، ومخلوف نفسه حمل صرة أفكاره على ظهره وهاجر باكرا مضطرا نتيجة الحرب الأهلية اللبنانية إلى كاراكاس بفنزويلا، ليدمن بعدها الترحال في مشارق الأرض ومغاربها؛ من أميركا اللاتينية إلى أوروبا، إلى أميركا الشمالية، ويستقر به المقام أخيرا في باريس حيث يقيم الآن.

أصدر عيسى مخلوف الكثير من الآثار الإبداعية في شتى صنوف القول شعرا ونثرا ونقدا ومسرحا وترجمة وتأملا وفلسفة، نذكر منها "عزلة الذهب" بيروت 1992، و"هيامات" باريس 1993، و"عين السراب" بيروت 2000، و"رسالة إلى الأختين" بيروت 2004، و"مدينة في السماء" باريس 2014، و"نامت أحلامهم وتأرجحت على الموج" باريس 2016، و"أمواج" باريس 2018، و"أقنعة الغربة" طليطلة 2018.

وفي المسرح أصدر "قدام باب السفارة الليل كان طويل" بالاشتراك مع الفنانة نضال الأشقر، وأيضا مسرحية "شروق". وفي الدراسات النقدية نذكر "بيروت أو الافتتان بالموت" باريس 1988، وكتابه المرجع "الأحلام المشرقية.. بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة" بيروت 1996، الذي صدرت طبعته الثانية المنقحة سنة 2019 عن دار التنوير، و"تفاحة الفردوس.. تساؤلات حول الثقافة المعاصرة" بيروت 2006.

عيسى مخلوف مع الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس (الجزيرة)

أما في الترجمة فقد صدرت له "قصص من أمريكا اللاتينية" عن الإسبانية، و"البتراء.. كلام الحجر"، ومسرحية جورج شحادة عن الفرنسية "مهاجر بريسبان"، التي قدمها المخرج نبيل الأظن في "مهرجانات بعلبك الدولية صيف 2004. وترجم للفرنسية المجموعة الشعرية "غابة الحب فينا" لأدونيس، باريس 2009. وعن لغة موليار ترجم سنة 2014 "منطقة الاضطرابات" لعبد اللطيف اللعبي. وتُرجمت أغلب هذه الكتب إلى لغات عالمية كالإسبانية والإنجليزية والفرنسية، وصدرت في طبعات عديدة.

وسيصدر له الشهر المقبل عن دار الرافدين كتابان؛ هما "ضفاف أخرى"، وهو عبارة عن حوار طويل أجراه معه الشاعر العراقي علي محمود خضير، والكتاب الثاني هو "فان غوغ منتحر المجتمع"، في ترجمة عن الفرنسية للكاتب أنطونان أرتو.

حول ديوانه الشعري "ما سوف يبقى "الصادر أخيرا عن دار التنوير في بيروت، والخصائص المميزة لمتنه الإبداعي ورؤيته لبعض القضايا الأدبية والمعرفية الآنية الحارقة؛ كان هذا اللقاء الخاص بالجزيرة نت مع الكاتب اللبناني، بالإضافة إلى عدة قضايا أخرى عربية وإنسانية مهمة، فإلى الحوار:

  • هل تستطيع تميمة القصيدة والأدب والقيم الروحية مواجهة التيار القوي للعولمة ولرأس المال المتوحش؟

لا تدعي الآداب والفنون القدرة على خوض الحروب، وعلى مواجهة التيار السائد والنسق الاقتصادي الراهن، وردها لا يكون في الأغلب ردا آنيا. إنها عملية حفر في الأعماق، تنطلق من الواقع لتذهب أبعد منه، بل إنها تساعد أحيانا على تحمل شروطه وويلاته. وهي -أصلا- كينونة من طبيعة إنسانية وجمالية تنطوي على رؤى وتنطلق من تساؤلات. وثمة أسئلة دقيقة ومركزة تساعد على تقدم المجتمعات الإنسانية أكثر من الإجابات الجاهزة كلها.

  • يتميز شعرك وتقوم قصائدك على فنية ورمزية التكثيف والمحو والحكمة والتأمل الفلسفي والصوفي، لماذا؟

الفن -بشكل عام- ومن ضمنه الفن الشعري والأدبي على العموم، هو رحلة في المجهول، ولا يتوقف عند الظاهر الملموس فحسب، بل يحاول أيضا أن يذهب في اتجاه اللامرئي من الكائنات والأشياء. قد يتقاطع ذلك مع رؤية النفري لكن من دون أن يصبح النص الأدبي صوفيا بالضرورة، مهما تكثف وغاص في التأمل، وإلا لأصبحت كتابات كثيرة يحضر فيها الماوراء والبعد التأملي الفلسفي كتابات صوفية وهي ليست كذلك، ومن هذه التجارب -على سبيل المثال- كتابات هولدرلين وراينر ماريا ريلكه.

عيسى مخلوف مع الفنان التشكيلي الفرنسي العالمي أسادور (الجزيرة)
  • تأثرك بالفنون البصرية والمشهدية والسينما والفن التشكيلي وحركات الطبيعة ولغتها واضح في كل مسارك، خاصة في ديوان "ما سوف يبقى"، فما رمزية هذا الاختيار والتوظيف؟

الفنون عامة، بما فيها الفنون التشكيلية والمشهدية، وكذلك الموسيقى والهندسة، جزء من تكويني الثقافي ومن كتاباتي، وهي ليست تزيينية على الإطلاق لأنها أيضا جزء من بنية النص الداخلية، ولا يمكن فصلها عنه. كتاب "رسالة إلى الأختين" يبدأ بمعزوفة لباخ لتصبح الموسيقى والحديث عنها جزءا من الكتلة الأدبية نفسها. الكتابة -مثل كل عمل إبداعي- محصلة تجربة داخلية لا تنفصل عما نقرأ ونسمع ونشاهد، وعن لقاءاتنا مع البشر والطبيعة وأحوال العالم وما تتركها من أثر فينا.

  • من واقع مفهومك عن الغربة والتهجير، وعن تغريبات العالم العربي المعاصر وعذاباته، هل كتب على الإنسان العربي واقع التهجير والاستبداد والظلم والحروب؟

– في كتاب غبريال غارثيا ماركيز المخصص لسيمون بوليفر، وردت عبارة بالنسبة إلي هي روح الكتاب. قالت إحدى شخصيات الرواية "إني أعيش قدرا ليس قدري". هكذا شعرت عندما خرجت من لبنان وأنا في 19 من عمري بسبب الحرب الأهلية. وهذا ما عاشه مئات الألوف أمثالي حين توزعوا في جميع أنحاء الأرض بحثا عن واحة أمان.

الدول العربية لم تتحول في معظمها -بعد مرور أكثر من نصف قرن على استقلالها- إلى دول فعلية، وهي في معظمها أيضا دول تابعة، لا تمتلك سياسة تعليمية عصرية، ولم تؤسس مدارس بالمعنى الحديث للكلمة، بل تنتفي فيها حرية البحث والتفكير ليصبح معها المجتمع أحادي النظر والفكر، بعيدا عن إعمال العقل والحس النقدي.

كتاب عيسى مخلوف “ما سوف يبقى” صدر عن دار التنوير للنشر
كتاب عيسى مخلوف "ما سوف يبقى" صدر عن دار التنوير للنشر (الجزيرة)

والسؤال: أي تقدم يمكن أن يكون وسط هذه التوجهات كلها؟ بل أي تقدم يمكن أن يحصل داخل مجتمعات تلاحق مفكريها وكتابها ومثقفيها الفعليين أصحاب الرأي الموضوعي الحر؛ تعتقلهم أو تقتلهم أو تدفعهم إلى الهرب؟ زوال التعددية وحرية التعبير في أي مجتمع من المجتمعات هو تحويل هذا المجتمع إلى سجن كبير ومقبرة مفتوحة يموت فيها البشر حتى قبل أن يولدوا.

  • يقول الكاتب المصري يوسف إدريس "كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا"، فهل تعتقد أن الإبداع والفكر والثقافة العربية تحلق بجناح واحد من جناحي الحرية في سماء الآداب والثقافات العالمية؟

يتعذر الإبداع داخل مناخ يعادي الحرية، حرية التعبير والنقد والجهر بها من دون أن يخاف المرء على حياته. يتعذر أيضا في غياب الفكر المتعدد. أعطي مثلا على ذلك؛ الدور الذي مثلته بيروت في العالم العربي حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، وبداية الحرب الأهلية، كانت العاصمة اللبنانية مختبرا للفكر والعلم والثقافة بمدارسها وجامعاتها ومكتباتها وإعلامها ودور نشرها ومنتدياتها الثقافية ومعارضها ومهرجاناتها. كانت "عيدا" كما قال إرنست همنغواي عن باريس، و"باريس عيد" تحول عنوانا لأحد كتبه.

وإذا كانت بيروت توصلت إلى هذا الدور، فلأنها تمتعت بهامش من الحرية والتعددية سمح للكاتب بأن يكتب، وللمفكر أن يفكر، وللراقص أن يرقص، وأصبحت المدينة موئلا للمبدعين العرب الهاربين من الأنظمة الاستبدادية البائسة.

كتاب "الأحلام المشرقية: بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة" يعد من أدق التراجم العربية للأديب الأرجنتيني العالمي (الجزيرة)

غير أن الاستبداد الذي أحكم قبضته على لبنان منذ الحرب الأهلية، مضافا إليه النظام الطائفي المتخلف، انقضا ويستمران في الانقضاض بصورة منظمة على هامش الحرية الذي ميز لبنان يوما ضمن محيطه وفي العالم. في هذا السياق، قتل عدد كبير من المفكرين والكتاب والإعلاميين اللبنانيين، وآخرهم الكاتب والباحث والناشر لقمان سليم. هذه الاغتيالات السياسية من العوامل التي تجرد بيروت من دورها ومن حضورها الحي الذي عرفت به، وتجعلها تلتحق بركب الدول الاستبدادية التي تخون أي حر مختلف، وتتهمه بالعمالة للخارج تمهيدا لتصفيته.

  •  كيف تقيم ثورة الشعب اللبناني على الظلم الذي خلع أثواب الطائفية والعشائرية والتحزب ونزل للميادين ثائرا؟ وهل تعتقد أن هذه الثورة فشلت في اجتياز حقول الألغام التي زرعتها الحركات والطبقات المناوئة للثورة؟ وما مستقبل الثورة اللبنانية إن كان جمرها ما زال يشتعل تحت الرماد؟

شكّل نزول مئات آلاف الشابات والشباب اللبنانيين إلى الشوارع والساحات لحظة تاريخية مهمة في تاريخ لبنان الحديث، وطالب هؤلاء بتغيير النظام الطائفي القائم على الفساد والزبائنية والمحسوبيات والمولد لحروب أهلية، وبناء دولة علمانية ديمقراطية تستوعب تكوين لبنان المتعدد وتصونه وتفجر طاقاته الإيجابية.

منذ اللحظة الأولى لهذا التحرك العظيم الذي حمّل الطبقة السياسية في لبنان مسؤولية خراب البلد، اتهمت هذه الطبقة الشباب الذين يمثلون المستقبل ووجه لبنان الحقيقي بأنهم عملاء للخارج، وسعت بكل الوسائل إلى تقويض ثورتهم. وإضافة إلى عنف النظام القائم واستغلاله التكوين الطائفي، جاء وباء كورونا ليعاكس حركتهم على امتداد الأراضي اللبنانية. وإذا كانت الثورة لم تتمكن حتى الآن من تكوين نواتها الصلبة، فإنها زرعت بذرة التغيير الأولى التي لا يمكن اقتلاعها بعد اليوم، والتي لا محالة ستثمر.

الشاعر عيسى مخلوف مع الفنانة التشكيلية العالمية إيتل عدنان (الجزيرة)
  • صدرت من فترة قريبة الطبعة الثانية المنقحة من كتابك "الأحلام المشرقية: بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة"، فلماذا استطاع الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس تطوير تجربته الإبداعية بالاعتماد على التراث العربي الإسلامي، وخاصة "كتاب ألف ليلة وليلة" على خلاف أغلب دعاة الحداثة من الكتاب العرب الذين يرون في هذا التراث عقبة أمام تطور الثقافة والمجتمعات العربية؟

الجواب عن هذا السؤال يكمن في الوعي الثقافي؛ التراجع الثقافي والمعرفي في العالم العربي لا يساعد على تبيان وجوه الإبداع في كتب مثل "ألف ليلة وليلة" وغيره من الموروث الثقافي العربي، أو من نتاجات العالم الحديث، إلا عند فئة قليلة من المبدعين والمثقفين. وكذلك الدور السلبي للرقابة والكتب الأساسية التي صادرتها، سواء أكانت عربية أو باللغات الأخرى. بعض هذه الكتب لا يستقيم فهم الحداثة الغربية من دون قراءتها والتمعن في أطروحاتها. ما حدث مع الأدب يطالعنا في حقول أخرى، منها الفنون التشكيلية. قراءة التراث بعين حديثة تحتاج هي الأخرى إلى الحرية والعقل.

أختم بالقول إن الغرب الأوروبي بدأ زمنه الجديد منذ القرن 16 عندما حدثت "فتوحات" فكرية وفلسفية وحتى لاهوتية غيرت المنحى العام للثقافة، ودحضت النظرة السائدة للأرض وموقعها الحقيقي في الكون، بصيغة تختلف عن التصورات القائمة على الخرافة، كما حددت موقع الإنسان الفعلي بين جميع الكائنات الحية الأخرى. ومثلما أكدت بطريقة علمية أن الأرض ليست مركز الكون وليست جامدة، بل هي التي تدور حول الشمس لا العكس، أكدت أيضا أن الإنسان جزء من الكائنات الحية، وإذا أساء التعامل مع هذه الكائنات ومع البيئة فإنه يضع حياته في خطر، كما الحال الآن.

المصدر : الجزيرة