العمران في عصر الجائحة وجريمة التصميم.. الحق في المدينة موضوع نقاش المخططين الحضريين

myeongdong_seoul_korea_south_korean_city_tower_urban-
الأزمة الصحية العالمية بسبب كورونا أجبرت المخططين الحضريين على إعادة التفكير في أولوياتهم وتصميم المدن (بكس هير)

أطلقت جائحة كورونا والأزمة الصحية المرتبطة بها موجة هائلة من المراجعات وإعادة التفكير في أسلوب حياة الإنسان الحديث ورفاهيته، إلى جانب آثارها الاقتصادية والاجتماعية.

وكان إغلاق المدن والمراكز الحضرية عالميًّا بمثابة تجربة جديدة ومزعجة لسكان المدن الذين رأوا مدنهم للمرة الأولى بشكل مختلف وغير مسبوق.

وأجبرت الأزمة الصحية العالمية المخططين الحضريين على إعادة التفكير في معتقداتهم الراسخة حول شكل المدينة الجيد، والغرض من التخطيط، وكيف تكون المدن أكثر مقاومة أو احتواءً للأوبئة، بما في ذلك بدائل الابتكار الحضري للتعامل مع قضايا البيئة والكثافة والجمال. 

ومن المتوقع أن يوفر المؤتمر العالمي الـ56 للجمعية الدولية لمخططي المدن والأقاليم (ISOCARP) المقرر عقده في الدوحة في الفترة من 8 إلى 12 نوفمبر/تشرين الثاني القادم، منصة لمناقشة هذه الأسئلة الناشئة عن الأزمة الصحية الوبائية، بما فيها قضية المؤتمر المحددة مسبقًا "مدينة ما بعد النفط".

الحق في المدينة
وفي كتابه "الحق في المدينة" المنشور عام 1968، قدم الفيلسوف الفرنسي والمخطط الحضري هنري لوفيفر نقدًا مبكرًا للتخطيط الحضري السائد والحياة اليومية من زاوية فلسفية، وابتكر المفهوم الذي عنى به حق الوصول إلى المدينة والاستفادة من خدماتها، وكيفية إنتاج الفضاء الاجتماعي الذي يعيش فيه السكان. 

وانتقد لوفيفر (توفي عام 1991) التخطيط الحضري المؤدلج مثل نموذج الاتحاد السوفياتي الذي اعتبر أنه فشل في إنتاج فضاء مناسب ذي معنى اشتراكي، معتبرا أن "العلاقات الاجتماعية الجديدة تتطلب فضاءً جديدا، والعكس صحيح".

كما اعتبر أن الحياة اليومية للسكان ظلت متخلفة ومتراجعة مقارنة بالتطور التكنولوجي والصناعي، مشيرا إلى أن الرأسمالية الحديثة قللت من جودة الحياة وأخضعت الحياة اليومية لاستعمارها، وحولت المدن إلى مساحة من الاستهلاك المطلق يحكمها روتين ممل يتشاركه كل فرد في المجتمع بغض النظر عن طبقته الاجتماعية أو مهنته، وشدد على أولوية تطوير ظروف الحياة البشرية بدلا من التحكم في قوى الإنتاج. 

وفي كتابه "مدن متمردة.. من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر" الصادرة ترجمته بالعربية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، يناقش أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة نيويورك ديفد هارفي مفاهيم لوفيفر، مؤكداً أن "الحق في المدينة هو إطار عمل لمشاركة المواطنين المتساوية في تنمية وتطوير البيئة الحضرية". 

ويحلل المؤلف هارفي مجموعة من المدن من العاصمة الجنوب أفريقية جوهانسبرغ إلى مومباي الهندية وساو باولو البرازيلية، مناقشاً قضية العدالة الاجتماعية في المدن والوصول المتكافئ إلى الخدمات الأساسية، والطرق البيئية السليمة التي يمكن أن يوفرها المخططون الحضريون للمدن الحديثة. 

كما يناقش -من منظور يساري معادي للاستعمار- تحكم خبراء المال والمستثمرين في الموارد الحضرية والخدمات العامة، متسائلا "من الذي يملي نوعية الحياة اليومية وينظمها؟".

المدينة وتشكيل العالم
وفي مقاله بمنصة جدلية، يرى أستاذ العمارة ونظريات العمران بجامعة حمد بن خليفة علي عبد الرؤوف أن "جائحة كورونا تنبئ بتأثيرات طويلة الأمد على تخطيط وعمارة مدننا، بينما يعتقد البعض أنها فرصة كذلك لإصلاح الاقتصاد والبيئة وأسلوب الحياة على المدى الطويل".

وأشار عبد الرؤوف إلى أن الجائحة كشفت هشاشة ما ننتجه من مساكن "أو بالأحرى أماكن لإيواء البشر"، والغالبية العظمى منها مخازن بشرية طاردة، بدلا من أن تكون ملتقى عائليا ومساحة اجتماعية مفعمة بالمعنى والقيمة والدفء.

ويعتبر أن المرونة والمقاومة الحضرية تتمثلان في قدرة المدينة على البقاء والازدهار في مواجهة الكوارث، وينقل عن عالم الاجتماع العمراني الأميركي روبرت بارك قوله إن "المدينة أكثر محاولات الإنسان اتساقًا، وبشكل أعمّ أكثرها نجاحًا لإعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه بما يتفق بدرجات أكبر مع رغبات قلبه، لكن إذا كانت المدينة هي العالم الذي خلقه الإنسان، فهي بالتالي العالم الذي يتعين عليه العيش فيه. فالإنسان بشكل غير مباشر، ودون إدراك واضح لطبيعة مهمته، قد أعاد أثناء خلقه للمدينة تشكيل نفسه".

ويرى أستاذ العمارة أن ثقافة الخوف من المكان والإنسان خطيرة على المدينة والعمران، في حين تكتسب المجتمعات قدرتها على الصمود والتعافي من التضامن الاجتماعي، مؤكداً على طرح المؤرخ العمراني بجامعة نيويورك والباحث في مجال الكوارث الحضرية جاكوب رميس الذي يعتبر أن "الشبكات الاجتماعية الكثيفة في المجتمعات المحلية تنقذ الناس".

ويؤكد عبد الرؤوف في هذا الإطار أنه قد حان الوقت لنزول المخططين المعماريين من أبراجهم العاجية ليتعاملوا مع تحديات المجتمع ومشاركة الناس في تلبية احتياجاتها، مضيفا أن تداعيات الوباء أوضحت أن "كل مدن العالم ترتكب جرائم في حق الفقراء ومحدودي الدخل والعاملين بالأجرة اليومية أو الأسبوعية"، وهؤلاء لا يمثلون أولوية لدى مخططي المدن والمطورين والحكومات.

ويشدد على ضرورة الانتقال إلى حقبة تخطيط مجتمع محلي صغير ومتماسك، بدلا من التنافس لتحويل المدن إلى أماكن متعولمة ضخمة لا مكان فيها إلا للأثرياء. كما يناقش التكدس في المدن الكبرى وازدحام شبكات النقل والتلوث والفوارق الاجتماعية والمكانية التي تحد من وصول الأكثرية إلى الخدمات الحضرية.

ويحلل عبد الرؤوف ما يسميها جرائم تصميم البيوت والعمارات التي نبهنا فيروس كورونا إلى الحاجة الماسة لأنسنتها وتحويل فضاءاتها إلى أماكن صديقة للإنسان.

تساؤلات الجائحة
وأطلقت الجمعية الدولية لمخططي المدن والأقاليم على موقعها الرسمي، جملة من التساؤلات المتعلقة بكورونا، بينها مخاطر العولمة التي كشفت الجائحة عن هشاشتها، إذ أدت إلى التركيز على الذات، بينما انشغلت المدن بأفكار "المناطق المكتفية ذاتيا"، وازدادت التعبيرات المثيرة للقلق مثل القومية وكراهية الأجانب. 

كما أبرزت إستراتيجيات مكافحة الجائحة التوسع في استخدام أدوات المراقبة وتتبع الأفراد والاتصالات. وتضمنت تساؤلات الجمعية مناقشة "الحماية الذكية مقابل الخوف من المراقبة" للتمييز بين فوائد تحليل البيانات الضخمة والإدارة الحضرية الذكية، وبين أخطار المراقبة وانتهاك الخصوصية. 

وأظهرت الجائحة كذلك دور المنصات الرقمية كأداة اتصال فعالة وقابلة للتطبيق، ويناقش أحد التساؤلات دورها المرتقب بعد أن مكنت هذه المنصات من التعلم عن بعد وتنظيم المؤتمرات الافتراضية وحتى التسوق عبر الإنترنت، مما يطرح تساؤلات عما إذا كان ذلك سيؤدي إلى الحد من الحركة الجسدية وتمكين الانتقال إلى مجتمع الطاقة النظيفة في المستقبل.

وتؤكد الأزمة أن التخطيط لا يقتصر فقط على الجوانب المادية للمدينة، ولكن أيضاً على إشراك سكانها.

كما تناقش تساؤلات الجمعية حجم المدينة وعلاقته بانتشار العدوى، إذ يمكن عزل القرى الحضرية وحمايتها بسهولة أكبر من المدن الضخمة، علاوة على أنها تعزز الشعور بالانتماء والتفاعل الاجتماعي.

ومن المعروف أن مستويات التلوث في المدن قد انخفضت عالمياً بسبب الحد من وسائل التنقل والمواصلات وتحول المواطنين إلى عدم الخروج من المنازل أو المشي والتخلي عن القيادة. وقد أثيرت ضمن تساؤلات الجمعية قضية أزمة المناخ، و"هل يتصرف الناس والحكومات والأنظمة السياسية فقط عندما يكون التهديد شخصيا وفوريا فحسب؟ ولماذا لا يتعامل العالم مع التهديد الوجودي لتغير المناخ وكأنه مرض معدٍ؟".

وتناقش التساؤلات كذلك مفاهيم العدالة الاجتماعية و"المدن العادلة" وحاجة المخططين إلى تعزيز البنية التحتية التي تمنع السكان الأضعف من أن يكونوا ضحايا الأوبئة الرئيسيين، كما تناقش معضلات الإسكان والتباعد الاجتماعي، والحاجة إلى نموذج جديد وبيئة حضارية مختلفة.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية