الفروق بين حروب الفرس والروم.. هيرودوت ونشأة علم التاريخ

English: Numa Pompilius by Jean-Guillaume Moitte, 1806. Relief on the right of the left window, right part of the west façade of the Cour Carrée in the Louvre Palace, Paris.
مجسم لهيرودوت في قصر اللوفر بباريس (ويكي كومنز)

إسلام أحمد-القاهرة

في هليكرناسوس على الشاطئ الغربي لشبه جزيرة الأناضول (تركيا الحديثة) وُلد المؤرخ هيرودوت، الذي للمفارقة لا يُعرف يقينا تاريخ مولده، رغم أنه لقب "بأبو التاريخ".

يرجح كثيرون عام 484 ق.م عاما لمولده، وكما تشير دلائل عديدة، كانت هذه المدينة/المُستعمرة على صلة بالسكان غير اليونانيين في آسيا الصغرى، ومنهم الكاريين، وهم شعب خضع لسيطرة الفرس. كان لهذا كبير الأثر على رؤيته وطريقة تفكيره، فنشأ متسامحا مع الفرس وغيرهم من الشعوب غير اليونانية، وظهر هذا في عدم تعصبه لليونان عند كتابته كتاب "التواريخ".

وكما يبدو واضحا من كتابه، طاف هيرودوت في البلاد، خاصة حوض البحر المتوسط والهلال الخصيب. ومع تشكيك البعض في مدى اتساع رقعة أسفاره (ومنها إلى النوبة ومصر وفلسطين ولبنان وإيطاليا)، فقد نستنتج -عند العلم بتكاليف السفر العالية حينها- أنه ينحدر من خلفية اجتماعية مقتدرة ماديا، أي من طبقة أرستقراطية.

وترى جينيفر روبرتس، أستاذة التاريخ اليوناني بجامعة مدينة نيويورك، أن هيرودوت عاش في زمان فاصل بين حقبتين ثقافيتين: مقروءة ومسموعة، وفي مكان يعتبر حدا بين حضارتين مختلفتين: الفارسية واليونانية؛ لذا تُعد أعمال هيرودوت بداية نشوء تقليد القراءة وحلولها محل السماع في الثقافة اليونانية.

ويُعتبر كتابه "التواريخ" -الذي نشر قبيل وفاته- من أوائل الكتب المتداولة بين الجمهور اليوناني، واستقبل الجمهور كتاب هيرودوت باستغراب وذهول، بعد أنْ كانت التراجيديات والمناظرة تُعقد على المسارح وقاعات المُداولة، حسب كتاب "هيرودوت.. مقدمة قصيرة جدا" لمؤلفته روبرتس.

كما هي الحال مع عام مولده، فليس معروفا على التحديد عام وفاته، ولكنْ لأسباب تتعلق بمحتوى ومضمون كتاب "التواريخ"؛ يرجح البعض أن تكون وفاته بين عامي 430 و425 ق.م، في حين اختار آخرون عامي 421 و415 ق.م، مما يعني أنه قد عاش ليشهد طرفا من الحرب البيلوبونيسية.

التواريخ
يستهل هيرودوت التواريخ بالإشارة إلى غايته من تسطير الكتاب والدافع، قائلا "إن هيرودوت الهليكرناسوسي يستعرض هنا استقصاءاته، حتى لا تُنسى الإنجازات البشرية بمرور الزمان، وحتى لا تذهب طي النسيان الأفعال العظام، سواء كانت من صُنع اليونان أو غيرهم من البرابرة (الفرس). وبوجه خاص، لاستعراض أسباب الحرب بين الشعبين: الفارسي واليوناني".

وقد لا يستطيع القارئ تعيين الجمهور المستهدف من التواريخ، ولكن يمكننا القول إنه كان يكتب لجمهور هيليني/يوناني. ومع أن هيرودوت كان على اطلاع واسع على أحوال بعض المدن والبلدان أكثر من غيرها، فإنه قدم لنا في التواريخ العديد من وجهات النظر والثقافات المختلفة، دون أنْ يعطي أولوية كبرى أو يُظهر تفضيلا لإحداها على الأخرى، وبالأوْلى دون تفضيلات سياسية على العموم.

يحتوي "التواريخ" على تسعة كتب أو فصول؛ أولها للحديث عن منطقة الهلال الخصيب والفرس، في حين يتناول الثاني الحضارة المصرية، أما الثالث فيتعرض للغزوات الفارسية على مصر والحرب الأهلية الفارسية، وفي الفصل الرابع يتناول حياة قبائل السكوثيين الذين سكنوا واستوطنوا حوض نهر الفولغا، وما يعرف اليوم بشبه جزيرة القرم، والمتنازع عليها بين أوكرانيا وروسيا، وتستعرض الفصول/الكتب الخمسة الأخيرة الحروب الفارسية-اليونانية.

مصادر المؤرخ الأول
تقول روبرتس في مقدمتها عن هيرودوت، الصادرة عن مطبعة جامعة أكسفورد، إنه كان سباقا في المدى الذي طبق فيه المنهج الإثنوغرافي في معالجة الأحداث التاريخية وكتابة تاريخ الحاضر؛ فلئن كان المؤرخ والجغرافي اليوناني هكاتايوس الميليتي سبق واستخدم هذا المنهج في رحلة حول العالم، فإن هيرودوت وسّع استخدامه زمانا ومكانا، ويظهر هذا واضحا وجليا في تقسيم الكتب/الأبواب التي اشتمل عليها التواريخ، لتشمل العديد من الشعوب المحيطة بالعالم اليوناني أو تلك التي تفاعل معها اليونان واحتكوا بها.

اعتمد هيرودوت على مصادر شعرية قديمة، وكذلك على ملاحظاته واستقصاءاته وأسفاره المتعددة، إضافة إلى تحليلاته النقدية للشهادات والشواهد التاريخية، واستفاد كذلك من الملاحم التي سطرها الشعراء اليونان السابقين عليه، وكذلك بعض الشهادات من أُناس عايشوا أو توارثوا حكايات شعبية عن أحداث التاريخ والحقب الماضية في اليونان ومحيطه.

إلا أن المصدر الأبرز في التواريخ هو المشاهدات لا مجرد الشهادات؛ إذ اعتمد على رحلاته الخاصة وطوافه في البلدان والممالك من أجل الاطلاع عن كثب على عادات أهل تلك البلاد ومعايشة الأحداث التي أراد تدوينها وتحليلها في وقت حدوثها، ومن أجل هذا اعتبره تيموثي غارتون آش، أستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أكسفورد، أستاذ كتابة "تاريخ الحاضر" أو الواقع المُعاش.

وربما يمكننا القول إن هذا جانب مما أراده الأديب الألماني يوهان غوته حين قال إن "من يعرفون قيمة الحاضر هم وحدهم من يدونون الأحداث".

المفكر والمنظر سياسيا
رأى هيرودوت الحروب الفارسية-اليونانية صراعا بين الشرق والغرب؛ بين العبودية والحرية، أو بين التسلط السياسي والحكم الذاتي للمجتمعات الحرة القائمة على الإقناع والمنطق؛ وبالتالي، فقد رأى أنه بينما يحارب اليونان عن حرياتهم ومجتمعهم السياسي الذي شهد قدرا نسبيا من الحقوق الأساسية، يُقاد الجنود الفرس بالبطش العسكري ودفاعا عن أمجاد الملوك الشخصية. 

ولأجل هذا، يرى كثيرون أن تعليق هيرودوت على هذه الحروب هو من أوائل التعليقات على العلاقات بين الشرق والغرب، وحالة العداء والنزاع الذي طال أمدُه بين الحضارتين، حسب كتاب الموسوعة العربية لمؤلفها مفيد رائف العابد، ويمكن أن نعتبر هذه الفكرة من ركائز نظرية صراع الحضارات التي برزت بشكل أوضح في القرن المنصرم في كتابات صامويل هنتنغتون وغيره.

فالفرس لا يعرفون كيف يحارب الجنود اليونان دون أن يكونوا بشكل مباشر تحت ضغوط مادية واقتصادية يمارسها عليهم القادة العسكريون والسياسيون؛ بينما يروي هيرودوت عن ديمارتوس ملك إسبرطة اليونانية، في جوابه للملك الفارسي خشایار الأول عن مدى استعداد اليونان لمجابهة جيش عرمرم كالجيش الفارسي، قوله "إن ما يقود جنود إسبارطة اليونانيين هو "القانون، أو ما تعاقد وتعاهد عليه سكان المدينة، وهذا القانون أسمى من الرغبات والنزعات الفردية". 

فاليونان -حسب هيرودوت- يحاربون عن حريتهم، بينما يحارب الفُرس تحت قهر الملوك وجبروتهم؛ كما المثل الدائر عن أن الأرنب يعدو عن نفسه بينما يعدو كلبُ الصيد عن سيده.

ويرى آلان ريان، عضو الأكاديمية البريطانية وأستاذ العلوم السياسية في جامعتي أكسفورد وييل، أن نظام الدولة في صورته الحديثة يمكن أن يُعد انتقام الإمبراطورية الفارسية المتأخر من النصر اليوناني في ماراثون؛ إذ يقاد الجنود للقتال تنفيذا للأوامر العسكرية.

‪‬ خريطة قديمة للعالم استنادا إلى مشاهدات هيرودوت 450 عاما قبل الميلاد(ويكي كومنز)
‪‬ خريطة قديمة للعالم استنادا إلى مشاهدات هيرودوت 450 عاما قبل الميلاد(ويكي كومنز)

الفرس والروم
وعن تلك الحروب القديمة كتب هيرودوت وأرخ، ورأى فيها انتصار الحرية على العبودية؛ ولأجل هذا عده ريان أحد أوائل المنظرين والمفكرين السياسيين؛ ففي نظر هيرودوت -وكما استنتج الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل لاحقا- كان الرعايا الفُرس بمثابة عبيد للملك واقعيا، وإن لم يكن قانونا. وكما صاغها هيغل، فعند مستبدي الشرق ليس هناك إلا رجل واحد حر، هو الملك عينُه.

ومع دفاع هيرودوت عن الحريات اليونانية، فإنه -كما يذكر ريان- كان منبهرا بكفاءة النظام الفارسي وانضباطه الميداني والتنظيمي، لدرجة اتهامه بأنه "محب للبرابرة"، لكن هيرودوت ظل يؤكد اتساق الديمقراطية اليونانية مع متطلبات الحياة الاقتصادية في اليونان -والقائمة على التوسع لتوفير الموارد التجارية- مع أنه لم يكن على ثقة من استمراريتها وتماسُكها.

هيرودوت والأدب اليوناني
يرى تيم ويتمارش، أستاذ الكلاسيكيات والثقافة اليونانية في جامعة كامبريدج، أن تواريخ هيرودوت صارت إضافة نوعية في عالم الكتابة، وأصبحت تأسيسا لعلم جديد، هو التاريخ، وكذلك لعصر جديد في الكتابة اليونانية.

وبتتبُع ويتمارش كتابات هيرودوت، ومنذ مُفتتح كتابه التواريخ، نستشف روح الشاعر الأسطوري هوميروس تحلق بين السطور والأحرف. فتماما مثلما كانت أشعار هوميروس تخليدا وتمجيدا للعظماء وأبطال الأساطير، يأتي هيرودوت ويخبرنا أنه يجمع تلك الاستقصاءات بهدف الحفاظ على الذاكرة الجمعية للأجيال "كي لا تُنسى الإنجازاتُ البشرية بمرور الزمان، وحتى لا تذهب طي النسيان الأفعالُ العظام".

وفي سياق آخر، تذكر روبرتس أن هيرودوت عاش في عصر اعتمد الحكايات والقصص: لم يكن هناك بد من اعتماد هذا النوع الأدبي في التواريخ.

واعتاد في قصصه أن يُكثر من عبارات "أفعل" التفضيل، فتارة يحكي عن "أذكى حيلة"، و"كُبرى الأحداث التي وردتنا"، و"أعظم أمر حدث"، و"أفظع جريمة اجترحها هؤلاء أو أولئك"، إلخ.

وحاولت قصصه إبراز التفوق الأثيني، فكريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. 

إلى هنا نصل إلى أن هيرودوت ينطلق في حكْيه من الأحداث التي كانت بداية اختلال التوازن الإنساني؛ فمن هذا الخلل الذي يُصيب النظام المعتاد تنشأ الأحداثُ الكبار، وإلا فإن الرتابة تصبح قدر البشرية؛ فعبر الإخلال بالتوازن تنطلق أحداث تستحق التدوين والسرد، وهذا هو مبتدأ التاريخ.

المصدر : الجزيرة