"عمت صباحا أيتها الحرب".. بوح فاضح وسرد كاشف

غلاف عمت صباحاً أيتها الحرب

هيثم حسين

تعطي السورية مها حسن وجها إنسانيا للحرب الوحشية في روايتها الجديدة "عمت صباحا أيتها الحرب"، تلقي عليها تحية الصباح، في إشارة رمزية إلى ليل الحرب الذي استطال لدرجة مأسوية، واقترب ليغطي بظلامه أي نور أو أمل، وتكون التحية استدراجا لنور الصباح المأمول وبحثا عنه في الوقت نفسه.

تمهد لروايتها الصادرة عن "منشورات المتوسط بميلانو 2017″، بمقطع من كتاب "صلاة تشرنوبل" للروسية البيضاء سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل 2015، وتمضي ناسجة عملها على منوال أعمال أليكسييفيش في الاستعانة بأصوات الضحايا، وإفساح المجال لهم كي يعبروا عن محنتهم المتجددة، والكابوس الجاثم على صدورهم.

تتخذ مها من أسرتها نموذجا للتفتت الذي أحدثته الحرب في سوريا على مختلف الأصعدة، انطلاقا من حلقة الأسرة الصغيرة، مرورا بالعائلة الكبيرة، والحي والمدينة، وصولا إلى خارطة الوطن برمّتها. تبرز الانقسام داخل الأسرة، ولا تتورع عن "نشر غسيل" العائلة، أخ ضائع في متاهات ولائه المرضي للنظام، وآخر حاضر تائه في غربته وضياعه، وأخوات غارقات في شجون لا تنتهي. لا تكاد تنتهي رحلة نزوح حتى تبدأ رحلة أكثر قسوة ووحشية. أفراد الأسرة يتشتتون باحثين عن أمان مفقود.

يمضي الأخ الأصغر حسام في محنة لجوئه إلى السويد، وذلك بعد أن يصبح غريبا في بلده وبين أبناء حارته ومدينته، هو الذي شارك في الثورة وظلّ محافظا على سلميته، رفض الانخراط في صفوف المسلحين، آمن بالثورة السلمية، وحين وجد أنه أصبح مطلوبا ممن كان يعتبرهم ثوارا في السابق، فضّل الخروج على مواجهة لا تحمد عقباها، ولا سيما بعد تجارب كاد يفقد فيها حياته.

مها حسن: كنت أشعر وأنا أقرأ المخطوطة كأنني أخرج للشرفة بملابس النوم(الجزيرة)
مها حسن: كنت أشعر وأنا أقرأ المخطوطة كأنني أخرج للشرفة بملابس النوم(الجزيرة)

حكايات الاغتراب
تنتقل الكاتبة مع أبطال روايتها في مدن النزوح واللجوء التي قصدها السوريون، تسلط الأضواء على حياة اللاجئين السوريين في المخيمات في تركيا، وفي المدن التركية، كما تنتقل برفقة أبطالها إلى اليونان، وتسجل وقائع مغامرة الإبحار التي تكون انتحارا بمعنى ما، وصولا إلى ما يفترض أنه بر الأمان في الدول الأوروبية، وتتقصى أحوالهم في مخيمات اللاجئين في أوروبا، وتصور كيف أنها تشبه سجونا بائسة مسيئة للإنسان ومتعارضة مع مزاعم حقوق الإنسان التي تنادي بها هذه الدولة أو تلك.

الأم الراحلة هي شهرزاد الحرب المقهورة، شهرزاد التي لا تنتظر أي شهريار، تحكي حكايات الاغتراب واللجوء والتشظي والضياع، توثق محنة البلد وأهله من خلال محنتها الشخصية وتشردها بين بيوت أبنائها وبعض معارفها، وتفضيلها لبيتها الذي تعرض للقصف والتدمير على أيدي قوات النظام.

ترسل الأم مناجياتها من العالم الآخر إلى ابنتها، تطالبها بتأريخ وقائع حياتها وإعادة إعمار بيتها من خلال الذكريات والحكايات، يكون تأثيث المكان نقطة تقوية للذات في مواجهة الضياع. البيت المقصوف المهدم هو الوطن المهدم نفسه، ومن يفقد بيته لا يشعر بانتماء للمكان، بل يشعر بغربته عنه، وهنا مأساة الشخصيات الهاربة من ظلالها وحكاياتها وغربتها إلى أوهامها التي لا تقلّ قسوة وإيذاء عن وحشية الحرب نفسها.

فقدان البيت يشي بمأساة كبرى، لم تقاوم الأم فجيعة فقدها بيتها الذي كان حصيلة شقائها ونتاج عمرها، كان مستودع ذكرياتها، وملاذها، تشعر فيه بوجودها وسطوتها وقدرتها على العطاء، وبعد أن فقدته شعرت بالضياع، أحست أن الحياة تخلو من أي معنى، وبالفعل قضت حزنا على نفسها وهي في شيخوختها تبحث عن بيت جديد في غربة قاهرة.

undefined

مأساة كبرى
تمضي صاحبة "مترو حلب" في تشريح بنية الثورة ومآلاتها وواقع الفساد الذي تخلل مؤسساتها، وكيف أن ذلك انعكس بشكل سلبي كبير على السوريين في ملاجئهم، وساهم في تحطيم آمالهم بالعودة إلى بلدهم، ذلك لأن غياب البوصلة الوطنية أفضى إلى تغييب للحلم الثوري المنادي بالحرية والكرامة والاستقلال.

وفي تصريح خاص للجزيرة نت، تؤكد الروائية مها حسن أنها كانت تتحاشى نشر هذه الرواية التي بدأت بها قبل خمس سنوات تقريبا، منذ أن ذهبت إلى تركيا باحثة عن نماذج تلهمها للكتابة، والتقت دون ترتيب مسبق بأخيها الهارب من الحرب.

وتقول مها حسن "دون تخطيط صارت حياته المعقّدة في المنافي المتتالية موضوعا لكتاب جديد، ظننته سيكون توثيقيا، ينضم إلى سلسلة الكتب التي وثقت هروب السوريين، وخاصة أولئك الذين تعرضوا لخطر الغرق في القوارب المطاطية المُغادرة من تركيا إلى اليونان ومنها إلى أوروبا. لكن موت أمي، وهي قلقة على مصير أخي، وبالطريقة الفجائعية التي سقط فيها بيت أهلي، بما يحمل من رموز وارتباطات وجودية، جعلني أُدخل أمي كراوية رئيسية للكتاب. وهكذا وجدتني أمام عمل يجمع بين السيرة والتخييل".

وتعترف أنها لم تكن تنوي نشر العمل، وأنها كانت تحتفظ به في حاسوبها "لأسباب عديدة، منها أنني كتبتُ روايتين عن الحرب السورية، ولا أريد أن يتم تصنيفي ضمن كتابة الحرب، كما أن ثمة بوحا فاضحا إلى حد ما، لم أكن جاهزة نفسيا لمواجهة القارئ العربي به".

وتضيف "كنت أشعر وأنا أقرأ مخطوطة هذا الكتاب، كأنني أخرج على الشرفة بملابس النوم، دون تزيين أو عطور أو انتقاء ملابس لائقة للظهور. كروائية مسكونة بهاجس التجريب، ذات لحظة، شعرت أنني أحاكم عملي بعين القارئ، وهذا ليس من حقي ربما، وليس دوري، فقررت تحرير النص من حاسوبي ومن سلطتي عليه، وأنا لا أزال خائفة عليه".

المصدر : الجزيرة