هل تنفع الموسيقى الكلاسيكية في علاج الإرهاب؟

ناصر يحيى - من العبث إنكار أن عشق الساسة والعسكر الغربيين للموسيقى والفنون

ناصر يحيى*

إحدى أسوأ مظاهر آفة "الإرهاب" في عالم اليوم أنها لا تقتصر فقط على آثارها الدموية، فحتى تعريفها وأساليب علاجها تشكل بدورها صورا مأساوية.

وتعريف الإرهاب خاضع لمصالح القوى المهيمنة، وكل مستعمر ومحتل وظالم وطاغية وناهب لثروات لشعوب قديما أو حديثا يصف الرافضين له بأنهم إرهابيون متطرفون. أما أساليب العلاج المقترحة منهم فهي تنأى تماما عن معالجة الجذور كالمظالم والاستبداد والفساد الشامل، وتركز فقط على الظواهر السطحية. 

وعلى هامش حادثة صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، تحدث محلل ألماني -وفق كاتب عربي- عما يمكن أن تفعله فرنسا في المستقبل، قائلا إن الفرنسيين يتحدثون عن إمكانية فرض حصص مدرسية في الموسيقى الكلاسيكية والفنون على التلاميذ المسلمين. وإذا صح كلام الألماني، فإن ذلك تأكيد جديد على أن العالم ما يزال يتخبط في طريقة مواجهة الإرهاب، ولكن هذه المرة بناء على نظرة سطحية وتحليل متهافت أن الغرب بإزاء مليار ونصف مليار مسلم همجي ينبغي إدخالهم مختبرات ومعامل لعلاجهم من التخلف والهمجية بواسطة الموسيقى والفنون التي يحرّمها الأصوليون منهم.

تزخر صفحات التاريخ القديم والحديث بأمثلة لا تعد ولا تحصى على أن الموسيقى والفنون لم تكن بالضرورة مظهرا لتحضر الجماعات الإنسانية، فهذه الجماعات البشرية التي توصف بأنها همجية وبدائية لم يفتقد وعيها الجمعي نوعا من أنواع الفنون والموسيقى والرقصات الجماعية.

فنون وجنون
وفي المقابل، يمكن أن نلاحظ بسهولة أن عتاة الجبابرة والطغاة والمجرمين في حق البشرية كانوا عشاقا للموسيقى والفنون، وترعرعوا في مجتمعات لا تستغني عن الموسيقى والفنون كما لا تستغني عن الماء والهواء.

وسنبدأ التدليل من محيطنا العربي، فكل العسكر أرباب الانقلابات العسكرية والحركات الثورية كانوا مغرمين بالموسيقى والطرب والفنون، وكانت ذروة فقرات احتفالاتهم السنوية هي حضور الحفل الفني الساهر الذي يحييه أبرز الفنانين والفنانات في عصرهم، ناهيك عن أن الأغاني الثورية لازمة مقررة على الشعوب ليل نهار.

التاريخ البشع لطغيان الحكام والتخلف الذي فرضوه على شعوبهم يؤكد أن الموسيقى والفنون لا ترتبط شرطيا بالتقدم والتحضر والرقي، فضلا عن رهافة المشاعر الإنسانية واحترام كرامة البشر وحقوقهم في الحياة الحرة

ومع كل ذلك، فإن التاريخ البشع لطغيان أولئك الحكام والتخلف الذي فرضوه على شعوبهم يؤكد أن الموسيقى والفنون لا ترتبط شرطيا بالتقدم والتحضر والرقي، فضلا عن رهافة المشاعر الإنسانية واحترام كرامة البشر وحقوقهم في الحياة الحرة.

من العبث إنكار أن عشق الساسة والعسكر الغربيين للموسيقى والفلسفة والفنون لم يجنبهم التورط في حروب همجية، ولم يطهرهم من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والاستهانة في سفك الدماء وتدمير معالم الحضارات والمدنية ومنجزات البشرية، طالما كانت تلك الأفعال الهمجية مناسبة لمصالحهم وحماية أمنهم، وفي الحروب العالمية والإقليمية خلال القرن العشرين أدلة على صحة هذا الحكم.

لكن التاريخ الإجرامي للنازيين الألمان وحلفائهم يزخر بأدلة أقوى على أن عشق الموسيقى الكلاسيكية والفنون والفلسفة لم يكن له أثر في تهذيب توحشهم، وجعلهم أكثر إنسانية من آكلي لحوم البشر المفترى عليهم.

لنأخذ مثلا الديكتاتور النازي وصاحب أكبر سجل في الجرائم ضد الإنسانية أدولف هتلر؛ فقد كان أحد أشهر عشاق الموسيقى الكلاسيكية، وتلميذا نجيبا لأشهر الفلاسفة الألمان والمؤرخين الذين سيطروا على العقل الألماني طيلة مائة عام قبل هتلر.

وفي كتاب "تاريخ ألمانيا الهتلرية: نشأة وسقوط الرايخ الثالث" للكاتب الأميركي وليام شيرر، معلومات عجيبة عن التأثير العميق لفلاسفة وموسيقيين عالميين في التكوين الفكري والنفسي لزعيم النازيين، مثل فيخته وهيغل وتريتشكه ونيتشه وهدستون تشمبرلين وجوزيف غوبينو، فمنهم استقى أبرز أفكاره العنصرية: من فيخته أخذ احتقار شعوب بعينها وتمجيد العنصر الألماني ونقاوة لغتهم وسمو أصلهم. ومن هيغل تعلم تمجيد الحروب وكراهية الديمقراطية والبرلمانات، وكان كثيرا ما يزور متحف نيتشه صاحب نظرية السوبر مان.

هتلر وواغنر
ودرس جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي الشهير في ثماني جامعات الفلسفة والتاريخ والآداب والفنون واللاتينية والإغريقية. ورغم ذلك فقد كان أحد كبار مجرمي العصر بلا منازع، وحين تيقن من هزيمة النازية فضّل الانتحار مع زوجته، بعد أن قاما بقتل أولادهما الصغار الستة حقنا بالسم.

النازي هانز فرانك الحاكم العام في بولندا المحتلة يجسد أيضا أنموذج المثقف القانوني وعاشق الفنون والموسيقى والآداب العالمية، كما يجسد شخصية القاتل المتعطش للدماء متحجر العواطف القاسي الذي لا يرحم، والذي اقترف من الجرائم والمنكرات في بولندا ما يشيب له الولدان.   

انتعشت الموسيقى في زمن هتلر الذي كان عاشقا للموسيقار الألماني واغنر، وهو الذي أقام له متحفا ومهرجانا سنويا، ويقول عن موسيقاه: "إن فهم النازية يتطلب أولا معرفة واغنر"، ولذا يقال إن ألحان واغنر هي التي فجرت الجنون والفخر الألماني

أما الموسيقى الكلاسيكية وأعمال كبار الموسيقيين الغربيين، فقد كان لها محل عظيم في قلوب النخبة النازية، وقد انتعشت الموسيقى في زمن هتلر الذي كان عاشقا للموسيقار الألماني واغنر، وهو الذي أقام له متحفا ومهرجانا سنويا، ويقول عن موسيقاه: "إن فهم النازية يتطلب أولا معرفة واغنر"، ولذا لا غرو أن يقال إن ألحان واغنر هي التي فجّرت الجنون والفخر الألماني. أما ألحانه فقد كانت تسكر الديكتاتور حتى تجعله يقول: "يا لروعة الفرح الذي تركه كل لحن من ألحان واغنر في نفسي!" وعندما انتقد الحياة الأميركية لم يجد أفضل من وصمها بأنها لا تعشق التعابير السامية للروح كالموسيقى.

وتشمل قائمة كبار الموسيقيين الذين خدموا النازية:

– الموسيقار ويلهلم فورت وينغلر، أكبر قادة الفرق الموسيقية في القرن العشرين.

– ريتشارد شتراوس أعظم ملحني العالم في ذلك العصر.

 – ولتر غينسكينغ عازف البيانو الشهير الذي سخّر معظم وقته لرفع اسم الثقافة الألمانية في الخارج بإشراف غوبلز

وعلى غرار هتلر، كان الآخرون من رموز النازية يعشقون الموسيقى. فهذا ريبنتروب وزير الخارجية زار موسكو لإتمام صفقة التآمر لتقاسم أوروبا الشرقية مع ستالين، وانتهز فرصة انشغال ستالين ووزير خارجيته مع وفد آخر فهرع إلى دار الأوبرا لحضور فصل من أوبرا "بحيرة البجع" قبل أن يعود منتصف الليل لمواصلة مباحثات التقاسم.

ورغم أن سفير اليابان في برلين الفريق أوشيما كان من المحاربين الصقور المؤيدين للنازية، فإنه كان من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، ولم يثنه تأزم الوضع العالمي عن أن يسافر إلى النمسا لحضور عيد الموسيقار الشهير موزارت.

وحتى الهزيمة المذلة التي لاقتها ألمانيا في ستالينغراد لم تُنس النازيين حبهم الموسيقى، فبعد إعلان برلين هزيمة جيوشها أعقب البيان عزف موسيقى من القطعة الثالثة من سيمفونية بيتهوفن الخامسة.
___________________

* كاتب صحفي يمني

المصدر : الجزيرة